الرئيسية / أبحاث / المقاومة ثقافة

المقاومة ثقافة

IMG-20140523-WA0028

بحث: الشاعر عمر شبلي

المقاومة ثقافة:
إذا كانت المقاومة تمرّداً على واقع سيء، فيجب أن تكون نقيضه، وجوب كونها وعياً مصحوباً برؤية وحلم، ولذا فالمقاومة  دائماً هي محاولة إلغاء وإثبات، هي خلخلة الساكن بسوئه لنقيضه المتحوّل باستمرار. وهي تعمل للمستقبل الذي يجب أن يكون إدانة لحاضر، تضمر فيه المقاومة آتياً نقيضاً ملغياً.
وبهذا المعنى تكون المقاومة هي بانية الحضارة الإنسانية، وبسموِّ وعيها يقترب الإنجاز الحضاري أكثر. لقد كانت الجاهلية في عموميتها مشدودة إلى إلغاء كل ما يحمل نزعة تمرّد الفرد عن سكونية عادات القبيلة، وبهذا كان شعر الصعاليك عند العرب مقاومة، كان تمرّداً على واقع يسلب الفرد إنسانيته لينخرط في حزب الجاهليّة القائم على هرميّة وثنيّة جامدة في كل تفاصيلها. ولأن ما نسمّيه صعلكة في الجاهليّة، وهو في حقيقته ثورة مقاومة، فقد تحمل الصعاليك الأذى، أذى النبذ والحرمان  والإفراد كالبعير المعبّد. بهذا المعنى العميق كانت الصعلكة تحمل قيماً أخلاقيّة عالية، يعاني حاملها بمقدار إصراره على فرديته. يقول الشنفرى في لاميّته المعروفة :
ولـي دونكـم أهـلـون سيـدٌ عــمـلّسٌ              وأرقـط زهـلـولٌ وعـرفــاءُ جـيـألُ
هـم الأهـل لا مسـتـودع السر ذائـع                لديهم ولا اـلجـاني بما جـرَّ يـخـذلُ
أديـم مـطـال الـجـوع حـتى أُمـيـتـَه              وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهـلُ
وأستفُّ ترب الأرض كي لا يرى له     عـليَّ مـن الـطـول امـرؤ مـتـطـوِّلُ
وفي الأرض منأى للكريم من الأذى      وفـيهـا لـمـن رام الــعــلا مـتـحـوِّلُ
إنّ فرديّة الشاعر جعلته مقاوماً رافضاً متمرّداً حاملاً قيماً عالية جعلته يستف ترب الأرض لكي لا يتنازل عما يؤمن به، ومثال التمرّد المقاوم في شعرنا الجاهلي طرفة وعنترة بن شدّاد، الأول قاده تفرّده وقادته مقاومته إلى الأذى:
إلى أن تحـامـتـني العشـيـرة كـلهـا                وأفــردت إفــراد الـبعـيـر الـمعـبّـَدِ
و لأنه خارج على شمولية وعي القبيلة ظلم وتعبذب:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة             عـلى النفس من وقع الحسام المهنّدِ
فـمالي أراني وابن عمي مـالـكـاً              مـتـى أدنُ مـنـه يـنـأَ عـنـي ويبعـدِ
فـذرني وخـلـقي إنني لـك شاكـر                  ولـو حـلّ بيتي نائباً عـنـد ضرغـدِ
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالدٍ            ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثدِ
ومقاومة طرفة تحمل كل قيم المقاومة التي يحتاجها المقاوم في رحلته الصعبة، عاش حياته ممتلئاً ومات مقاوماً.
أما عنترة فقد قاوم لنيل حريته، كان بنو عبس يعتبرونه عبداً بسبب أمه زبيبة، وحدث أن هاجم بنو طي بني عبس، وانكشف
العبسيون أمام الهجوم الطائي، فصرخ شداد بابنه عنترة: كُر، فأجابه عنترة: العبد لا يحسن الكر، وإنما يحسن الحلب والصر،

فقال له أبوه: كُرْ وأنت حر، وبحريته أصبح عنترة فارس عبس المشهور. وفي قول عنترة تلخيص عميق للقوة المقاومة التي تضمرها الحريّة. وهذا صحيح فالعبيد لا ينتصرون. فالمقاومة هي نزعة الحريّة لتكامل إنسانية الإنسان.
والمقاومة فعل إيمان في الإنسان المقاوم، وبهذا يكون الرسول محمد قائد المقاومين في التاريخ الإنساني كلهِ. لقد تحمّل عنت قريش وأذاها، وعندما جاءه عمه أبو طالب سفيراً من قريش صدع بما يؤمن به بكلمته الخالدة التي غيّرت مجرى التاريخ الإنساني.” والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه”. الفعل الإنساني يتجلّى كأعمق ما يكون في هذا الموقف، ويزداد الموقف صلابة بمقدار صلابة إيمان المقاوم بقضيته.
لقد كان الإيمان باعثاً للصمود في المقاومة عند الإنسان العربي، فقد ارتبط الفعل المقاوم بالإيمان بالخلود في العالمين، وبذلك نفي لفكرة الموت العدميّة، فالعدمية نقيض الموت عند المقاوم، يقول أبو تمّام في رثاء محمد بن حميد الطوسي:
لقد كان فـوتُ الموت سهلاً فـردّهُ            إليه الحفاظ الـمـرُّ والخلـق الـوعـرُ
وأثبت في مستنقع الموت رجـلـه            وقال لها من تحت أخمصك الحشرُ
تردّى ثيابَ الموت حمراً فما دجا         لها الليلُ إلّا وهي من سندسٍ خضرُ
دم الموت الأحمر هو نفسه ثياب السندس الخضراء في الجنة عند الراثي والمرثي، وليس هذا فقط، فالموت هنا امتدادٌ في الحياة، فمحمد بن حميد الطوسي تحول إلى حال ورمز وحديث الناس بعظمة ما فعل، ولنستمع أيضاً:
فتى مـات بين الطعـن والضرب مـيـتـةً            تـقـومُ مقام النصر إن فـاته النصرُ
فتى كـــلــمــا فــاضت عـيـونُ قـبـيـلــةٍ            دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكرُ
فتى كان عذب الروح لا من غضاضةٍ            ولــكــنَّ كــِبــراً أن يـقـــالَ كـــبـــرُ
روعة الموت المقاوم تغسل المقاوم فلا يُرى إلّا نقياً مضيئاً بحضوره الدافق بأسمى الفضائل. إنَّ المقاوم هنا انهزم واستشهد، ولكن للهزيمة جمالاً يعدل جمال النصر أيضاً حين تكون موقفاً. هزائم الشهداء فيها انتصار أبدي، لا تعيه إلّا الأرواح الكبيرة، وعندنا مقولة:
لا تبكهِ فاليومَ بدءُ حياته                          إن الشهيد يعيش يوم مماته
ولا أدل على حياة الشهداء من مخاطبة الرسول لشهداء بدر. إنهم أحياء عند ربهم وعند شعبهم.
والشهادة عند المقاوم نقيض للعدميّة، فإذا كانت العدميّة غياباً، فإن الشهادة حضور، وقد يقتحم المرء ليحي، ورائع بل ومذهل هنا قول حميد بن ثور:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد                    لنفسي حياةً مثل أن أتـقـدمـا
وكم كان المتنبي شاهقاً وهو يفلسف لنا معنى الحياة حتى في الموت نفسه، فالموت في رأيه أحد وسائل الحياة، يقول أبونا المتنبي:

أرى كــلـنـا يبغي الحياة لنفسه                    حريصاً عليها مستهامـاً بها صبّا
فحب الجبان النفس ألهمه التقى                  وحب الشجاعِ النفسَ أورثه الحربا
ويرى المتنبي أن للحياة نهاية محتومة، ولولا حتمية الموت “لعددنا أضلّنا الشجعانا”
وإذا لم يـكن مـن الـمـوت بـدٌّ                     فـمـن الــعــار أن تـمـوت جـبـانـا
وهذا يذهب الخوف من النفس ويزيله، فالخوف من الموت الجميل انعدم لمعنى الحياة نفسها، ويرتبط الفعل المقاوم بعنصرين أساسيين، وهما الإيمان بحتمية الموت في الساعة المكتوبة، والصبر على المكروه الذي ينفي الذلة بمرارته اللذيذة، ولنستمع معاً لقول قطري بن الفجاءة، وهو يخاطب زوجته:
أقـول لها وقـد طـارت شعـاعـاً                    من الأبطال ويحك لا تراعي
فــإنـك لــو سـألت بــقــاء يــوم            من الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً                فـمـا نيلُ الـخـلـود بمستطـاعِ
القدرية هنا فعل إبجابي لأنها نتفي الخوف من الموت، حين تؤمن أن الأجل محتوم، ولن يؤخره الفرار من المواجهة، ولذا يقتحم المؤمن بعدالة مقاومته الموت غير هيابٍ ولا وجل، ويبتسم للحياة المنبعثة من عدالة الموت المقاوم في سبيل قضية، لقد قال المتنبي في سيف الدولة الحمداني المؤمن بالدفاع عن بلاد العرب:
وقفت، وما في الموت شكٌّ لواقفٍ               كأنك في جفن الردى وهو نائم
فهل هذا مرتبط  بشجاعة سيف الدولة فقط، إنه مرتبط أيضاً بما يقاتل من أجله:
ولست مـليكـاً هـازمـاً لـنـظـيـره                ولـكـنـك التوحيد لـلشرك هـازم
إنه يقاتل من أجل قضية، ولذا يظل وجهه وضاحاً، ويظل ثغره باسماً.
ومن سمات الشعر المقاوم التحرق في الساعات التي تغري فيها القيم والأوطان، لقد قرأت لشاعر عراقي كان يتحرق من الحصار الذي كان مفروضاً على وطنه، وكان قد مضى على الحصار خمس سنوات:
من شدة الحزن بل شدة الغضب               يكاد صوتك يغدو فـيـه صوت نبي
مهيَّجاً مستنفراً حانقــــــاً غضـباً               وإن بــدا فـيـه سيماءٌ مـن الـتـعـب
وكيف لا؟ ولخمسٍ أنت يا وطني              من لحمك الحيِّ تلهي النارَ بالحطب
فالشعر المقاوم لا تهزمه الهزيمة وإن مزقته، إنه عنقاء الوجود يقوم من موته ليشترك من النبوة في خلق المعجزة، إنه يخلق النقيض، ويحرّض المستكين ويخلل الجمود المستبد بواقعنا العربي، قلت لجنين يوماً:
ما دمت تصعد صوب الله مثل نبي            فإن جرحك فوق الشك والريب
ما دمت تصعد لا شاهـاً ولا مـلكـاً            فأنت أجـدرنا بالـتـاج والــلـقـب
ما دمت تصعد صوب الله محتسباً             فـــإن جرحــك معصومٌ وأنت نبي
رميت بالـلحم ميركـافـا لـتـقـتـلهـا            ولـــو رميت بغير الـلحـم لــم تصب
يا صرخة الأمة الموتور خندقـهـا            لــم يبق غيرك يـا جنين مـن عـرب
يا لـلعروبــة تستنخى أمــا سئمت             من رؤية الكوكب الغربيَّ ذي الذنب
حبيب قـد قـال من ألـف لمعتصم              السـيـف أصـدق أنباءً مـن الـكـتـب
لا بدَّ جينينُ، والفجرِ الذي سرقوا             مـن أن نحوك لـهـم ليلاً بــلا شهـب
جينين فجرك قــانٍ قــم وأمَّ بــنــا             صلاتـنـا، قــد تـوضّأنـا مـن الـلهـب
الشاعر عمر شبلي
مؤتمر الخطاب الأدبي المقاوم
19و20و21 أيار2014

شاهد أيضاً

ندوة “عاشوراء نبضة الألم ونهضة الأمل” في معهد المعارف الحكمية

شارك الملتقى الثقافي الجامعي في ندوة أقامها عصر يوم الإثنين في 11 أيلول 2023 معهد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *