الرئيسية / توقيع كتاب / سباق المسافات الطويلة (عبد الرحمن منيف)

سباق المسافات الطويلة (عبد الرحمن منيف)

 

د. هالة أبو حمدان*

حول كتاب د. سمية طليس (13/7/2019)

لئن كانت الرواية مرآة تعكس الواقع، فهي لا تعكسه بشكل مسطَّح، وإنما تصوغ واقعاً آخر، واقعاً مستقلاً ومكتفياً بذاته، يحبكه الكاتب بناء على خلفيته الثقافية والفكرية، من خلال قراءة العالم المحيط به قراءة فريدة، بهدف الارتقاء بوعي الإنسان، ورفع درجة حساسيته إزاء قضاياه، وتحريضه على التغيير. فلا يكون النص جديراً بوصفه رواية إن لم يحسن إثارة أقوى ما في القارئ من مكونات الوعي والإدراك والحساسية والمشاعر، وتزويده بالرؤى الواضحة، والاسهام في جعله إنساناً فاعلاً هادفاً لتطوير واقعه ومجتمعه.

وروايات عبد الرحمن منيف تسبر خفايا الواقع الاجتماعي وظواهره وتغوص في أعماق النفس الإنسانية. تنفتح على وقائع الحياة ومسارات التاريخ. وحين تقوم بمراجعة التاريخ وإعادة قراءته، تكشف عن مكنوناته العميقة في سياق إبداعيٍّ متين، وتجسّده في صياغة جمالية فريدة. وحين تمسّ هوامش السياسة، تتحوّل إلى عمل سياسي بامتياز دون أن تتخلى عن جماليات الفن الروائي. ولئن كان عبد الرحمن منيف قد غادر السياسة متجهاً صوب الرواية، فقد أثبت أنه روائي مثقف مسكون برؤية سياسية واجتماعية عميقة، يخترق كل التابوات، لتصبح روايته تعبيراً عن الضعفاء والضائعين، “تعرض حيوات بشر أكلت السياط ظهورهم”، يرون فيها صورهم وأسماءهم وذواتهم العميقة ومخزون واقعهم ومصائرهم.

أحداث روايات عبد الرحمن منيف تدور “الآن … وهنا”. وهو عنوان لإحدى رواياته يلخص بكلمتين الهمّ الذي حمله المؤلف في كل كتاباته، حيث “الآن” هو زمننا الممتد بالهزائم والانكسارات و”هنا” هي بلادنا، هي “شرق المتوسط” كما سماها. فعبد الرحمن منيف لم يكن كاتباً عادياً. كان دارساً وناقداً للوضع السياسي والاجتماعي لهذا الشرق. عايش فترة التحولات الكبرى فيه مع اكتشاف النفط وتغير موازين القوى العالمية والإقليمية وتبدل الأنظمة السياسية والاجتماعية. مسرح رواياته لم يكن سوى الحواضر العربية الغارقة في حرب المحاور والنفوذ، هي “مدن الملح”، و”أرض السواد”. شخصياته حالات مكثفة من الإنسان في العالم العربي، صوّر حياتهم وأحلامهم وانكساراتهم دون تحديد لدولة معينة. انتقد التخلف والجهل والاستبداد والسجون والتعذيب والخوف وتكبيل الحقوق والحريات وسيطرة الدول الكبرى على مفاصل الحياة العامة. حفر عميقاً في المجتمع العربي وفي إنسانه وفكره، هذا الإنسان الذي لم تتح له ظروفه أن يتهيأ للصمود أمام العواصف التي جاءت مع الأحداث الكبرى التي هزت واقع المجتمع العربي. لقد كان الأدب مطيته نحو السياسة، يكتب متحسساً قضايا المشرق وخرائطه، عندما تلمّس انحدار الأيديولوجيا، ورأى أن الفكر السياسي يعاني إلى حد كبير من التخلف والعجز وعدم القدرة على فهم المرحلة. فالنظام الرسمي العربي هو المساهم الأول في انحطاط الأفكار والقيم، في تحطيم الإنسان وتقييده وفي “جعل الهزيمة حالة دائمة لا يمكن تجاوزها”. والاستعمار الغربي هو الداعم الأكبر لهذا النظام بهدف السيطرة على مقدرات البلاد وخيراتها. والأحزاب العقائدية تمارس التضليل والدجل والخداع في تناقض فادح بين الأفكار والسلوك، وخواء في الصيغ، وزيف في الشعارات، وانفصال عن الجماهير. كل هذا أدّى إلى حالة شاملة من الجهل والتخلف والفقر والتبعية وانحدار القيم.

لذلك، حمل عبد الرحمن منيف هاجس القضايا العربية ومارس التزامه هذا عن طريق ممارسة الكتابة الروائية الواقعية. وقد أسس لسياق روائي خاص به، شكل نسقاً متميزاً في الرواية العربية، والعالمية أيضاً. لقد شكلت رواياته مرايا تعكس صورة مشرقنا، وتسرد معاناته ومرارته وخيبته، وتعكس الواقع الاجتماعي والسياسي العربي المتردي، والتحولات الثقافية العنيفة التي رافقت التحولات السياسية خاصة في دول الخليج النفطي.

لقد اختارت الصديقة الدكتورة سمية رواية مميزة لعبد الرحمن منيف هي “سباق المسافات الطويلة” موضوعاً لبحثها. وهي رواية تدرس الأحداث السياسية وخلفياتها في مرحلة دقيقة من تاريخ الشرق وهي مرحلة اكتشاف النفط، كما أنها تغوص في الواقع الاجتماعي وتحولاته في تلك الفترة. وهذا الشرق ليس العالم العربي وحده بل هو هذه المرة ايران بدليل اختيار منيف أسماء غير عربية لشخصياته مثل ميرزا وشيرين. وهو لا يكتفي بدراسة الظواهر والطبائع بل يمعن في دراسة أسبابها حيث يعزو أهمها إلى الطبيعة القاسية والصحراوية، وإلى الدين والعادات التي تسهم في الانغلاق الفكري والكذب والكسل والبعد عن الاستقامة. هي رواية متعددة الأوجه، سياسية اجتماعية نفسية، تحلل بعمق الخفايا المخابراتية التجسسية، وتطرح إشكالية استراتيجية شديدة الأهمية، تتعلق بصراع الدول الكبرى للسيطرة على تركة الدولة العثمانية خصوصاً بعد اكتشاف البترول وتضاعف خيرات البلاد وأهميتها الاستراتيجية. وقد وضحت د. سمية كيف أضاءت الرواية على علاقة الحضارة والثقافة الغربية بالشرق. وهي علاقة استعمارية تسلطية، تروم إحكام قبضتها على المفاصل السياسية وبالتالي فهي لا تتوانى عن إثارة الفتن ووضع المخططات التفكيكية والتحريض الديني لاستثمار الخلافات لصالحها. وقد أسهبت الباحثة في تبيان الواقع الاجتماعي الذي عكسته الرواية من تخلف وفقر وجهل وعمالة وانحدار للقيم مما سهّل للإنكليز ثم للأميركيين السيطرة على مقدرات البلاد. وتبين أيضاً نظرة الغربيين للشرق وهي نظرة استعلاء واحتقار واشمئزاز، وهم يرون أن الفقر والدين قد أسهما في بناء شخصية شرقية متناقضة غامضة، بينما برأيهم، أرسى الدين في الغرب مبادئ بعيدة عن الكذب والغموض والتناقض. وبذلك يكون منيف قد دخل من باب التحليل العميق الاجتماعي والنفسي للشخصية الشرقية، وطرح إشكالية الدين والفقر، وتأثيرهما على المجتمع الشرقي وعلى بناء الإنسان فيه. وهنا لا بدّ من السؤال حول موقف عبد الرحمن منيف من هذه النظرة: هل ينتقد واقع الشرقيين ويحمل الدين مسؤولية هذا التناقض في شخصيتهم؟ كما في تعاطيهم الخمر بإسراف تحدّياً “للطبيعة والدين والضعف والخجل والفوارق الاجتماعية والدينية”. هل هو ينتقد نظرة الغربيين للشرق أم يتبناها بلسان شخصياته؟

صديقتي دكتورة سمية: بحثك الذي بين أيدينا اليوم عمل مميز ينبئ بمستقبل واعد على صعيد النقد وأنت المميزة في الأدب والشعر أيضاً والناشطة الدؤوبة في مجال الثقافة. فإلى مزيد من العطاء والتميز ليبقى بقاعناً منيراً بالرائدات أمثالك.

الدكتورة هالة أبو حمدان*: دكتوراه دولة في القانون العام بدرجة جيد جداً. عنوان الأطروحة: “القضاء الدستوري وحماية الحقوق والحريات الأساسية”. الجامعة اللبنانية.
ماجيستير في القانون العام بدرجة جيد. عنوان البحث: “الحصانة البرلمانية”ـ الجامعة اللبنانية. درست في ثانوية القلبين الأقدسين للراهبات اليسوعيات- زحلة. درجة امتياز. تجيد ثلاث لغات: “العربية، الفرنسية، والإنكليزية.”
أستاذة مساعدة في كلية الحقوق والعلوم السياسية في زحلة.
– المشاركة في كلية دراسات الدكتوراه للحقوق: الأكاديمية الدولية الصيفية من تنظيم جامعة جان مولان- ليون 3: شراكة اورو- متوسطية: الدولة، الإنسان، الدين.
المشاركة في عدّة مؤتمرات، وفي العديد من المحاضرات المتعلقة بمواضيع قانونية.
– رئيسة جمعية “دعم الأسرة الريفية” منذ عام 1995.
– عضوة مؤسسة في “الملتقى الثقافي الجامعي”.
– عضوة في الهيئة الإدارية في مجلة “المنافذ الثقافية”.
– تنظيم دورات تأهيلية ونشاطات تنموية في المناطق الريفية من خلال جمعية دعم الأسرة الريفية.
– إلقاء محاضرات عديدة في المواضيع الثقافية والإجتماعية والدينية.
– نشر عدة مقالات في مجلات نسائية (فيروز، هديل)، وفي صحف لبنانية (الأخبار، السفير،النهار)، بالإضافة الى بعض المؤلفات القانونية: “القانون الدستوري والمؤسسات السياسية” و “النظام السياسي والدستوري في لبنان”.
– كتاب بعنوان “العنف وتطوير مناهج التفسير”.

شاهد أيضاً

ندوة حوش الرافقة حول كتاب “بين الشعر والجرح قرابة”

  أقام الملتقى الثقافي الجامعي بشخص رئيسه الدكتور البروفسور علي مهدي زيتون ندوة ثقافية نقدية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *