الرئيسية / أبحاث / تعنيف الأنثى “على مائدة داعش”

تعنيف الأنثى “على مائدة داعش”

د.لميس حيدر*، تعنيف الانثى على مائدة داعش، وميض الفكر، بيروت، دار النهضة العربية، ع صفر، كانون الثاني 2018.

                          تعنيف الأنثى “على مائدة داعش”

ملخص الرواية:

تعشق الشابة الإيزيدية يوفا الشاب سيروان في رواية “على مائدة داعش”(1)، وتمنعهما العادات والتقاليد من الارتباط . وحين يسيطرُ الداعشيُّ على عالمِها تندمُ لأنّها لم تخالفْ شرائعَ مجتمعِها، وتهربْ مع حبيبِها. فقد أخذَ الداعشيُّ يَعيثُ فسادا في واقعِها، وتحوّلَت بسببِه إلى سلعةٍ يُباعُ جسدُها ويُشرى.

ويتماثلُ عيشُ يوفا التي قُتِلَ والدُها مع عيش ِ غيرِها من الإيزيديات اللواتي تألّمْنَ ربّما لقتلِ أزواجِهن، أو سحبِ أولادهنَّ منهن، أوسجنِهن.

وتتمكّنُ يوفا من التواصلِ مع سيروان حبيبِها الذي يقاتلُ في الجبهة، وتتفقُ معه على اللقاء. ولكن سيروان لا يأتي إلى الموعد، وهذا يجعلُها تختارُ المشيَ في بستان ٍ زُرِعَ بالألغام.

مُدخَل:

سنفيد من المنهج البنيوي السردي في أثناء دراستنا التحليلية لهذه الرواية. وسيساهم النقد هذا إسهاماً فعلياً في إظهار جمالية النص. إذا، ستتجلى القيم الإبداعية من مضمون الرواية، بعد اعتمادنا على منهج يتواءم مع حيثياته، وسيرتكز التحليل على قراءة موضوعية، تنساب مع معطياته من غير مبالغة في إبراز فنيته. سأتبع ما كان سبيل دراساتي النقدية السابقة لروايات عديدة، وقد توّضح لي من خلال أعمالي تلك أنّها الأنسب للنفاذ إلى كنه القضايا التي يسلّط النص ضوءه عليها.  كما سنفيد من الأسلوبية المفكّكة للغة النص(2).

وسأحاول الفصل في دراستي هذه بين مقاومة يوفا للإرهاب الداعشي، ومقاومة الأخريات، غير أنّ التحليل في أثناء ذلك لا يمكنه الفصل بين المقاومتين بشكل كلي دائما، لذلك سيجمع  بينهما أحياناً، نظرا لتداخل الأحداث وتشابكها. أمّا الحاح الفصل بينهما، فهدفه معاينة القارىء لهمجية الداعشي أكثر. كما سيقدّم التحليل صورة عن إرهاب التكفيري للرجل، والطفل. ولعلّ الإجابة عن الأسئلة التالية، ستمكّن المتلقي من معرفة قلق المضمون السردي حيال قضية مصيرية، باتت ترهب الرأي العام في القرن العشرين. والأسئلة هي: ما علاقة مضمون الرواية بعنوانها؟ كيف تعاطى الداعشي مع المحيط الإنساني بشكل عام؟ وكيف تطّلع إلى المرأة التي شكّلت أساس السرد، وما هي دلالة تلك النظرة؟ وما هي ردة فعل الإيزيديات؟

ويمكن للعناوين التالية، وما ستتضمنه من تحليل، أن تجيب عن هذه الأسئلة، وسواها. وهذه العناوين هي:

أ_ علاقة مضمون الرواية بالعنوان.

ب_ إرهاب الداعشي ليوفا، ومقاومتها ضدّه.

ج_ إرهاب الداعشي لإيزيديات، ومقاومتهن ضدّه.

د_ إرهاب الداعشي للرجولة، والطفولة.

 

أ_علاقة مضمون الرواية بالعنوان

يختزل العنوان “على مائدة داعش” مضمون الرواية الذي يحدّد هدف الداعشي الأساس. تبدو المائدة على مدى الرواية أنّها هي المحور، فرغبة الداعشي، وشهوته للمرأة تجعله غافلا عن قضايا مصيرية كبرى. لم تخرج تفاصيل الرواية عن العنوان مطلقا، وهي دائما تعيدنا إلى صوابية اختياره. ولمّا كانت المائدة بما قد مدّ عليها من صنوف طعام شهية يتلذذ المرء بنكهاتها المتفاوتة، فإنّ الداعشي سيختار من النساء ما لذ وطاب، ولن يتمكنّ هنّ من الاعتراض، أو الرفض. ينغمس الداعشي في رغباته، وتظلّ وسائل سعيه منصبة في نفس الاتجاه، بعدما بات مولعاً بشهواته، المنافية للقيم الإسلامية التي يدّعي تمسّكه بها. وتشرئب لهفته لجسد المرأة من ثنايا المشاهد الموجودة في النص، والأمثلة على ذلك كثيرة، وسنترك تحليل العناوين الثلاثة التالية توضح صحة رأيّنا.

 

ب_ إرهاب الداعشي ليوفا، ومقاومتها ضدّه

تتناول الرواية في بدايتها التقاطب المكاني(3)، فتتحدّث عن بداية رحلة حياة المرء، وانتقاله من ظلمة رحم الأم إلى نور العيش. تقول يوفا: “يقذف بنا الظلام بقسوة خارج الأرحام، لا يترك لنا فرصة أن نقرّر، أو نختار، لنجد نفسنا مرغمين على تقبّل النور”(ص7). يظهر التعارض جليا بين ظلمة الرحم، ونور الحياة. وما دام الإنسان ينصاع منذ البداية لأوامر الظلام، فقد يشير هذا إلى خضوع المولود الدائم لجبروت العتمة. ولعلّ ما ورد يدل دلالة صريحة على الأعباء التي سيتحملها المرء في ممرات عمره كلّها،  وهذا قد يؤكّده الفعل “التحمت” بأمي(ص12).

وإذا تابعنا سرد الرواية، ندرك أنّ ما ورد من كلام عن إرغام المرء على مغادرة الرحم، كان بمثابة توطئة لما سيتوالى من أحداث سردية. إذ أنّ داعش ستفسد عالم يوفا، وستغادر أسرتها منزلها، وستتعرّض للقتل، أو الأسر… . وهذا الغدر الذي نزل بيوفا، والانسلاخ عن مكان الإقامة إلى أمكنة مجهولة، هو أشبه بعملية الانتقال القسري الأولى للإنسان من عتمة الرحم إلى ظلمة الخارج.

وتتعذّب يوفا، حين تبيت سبية لدى داعش. تكون يوفا عطشة، وأباريق الماء ممتلئة وموضوعة أمامها على الطاولة، ولكن ممنوع عليها الشرب. تقول: “جوفي المتشقّق كجذع شجرة تين اقتُلِعَت”(ص59). تشبّه جوفها بجذع شجرة مقتلعة، وهذا يشير إلى الانتهاء، والى صعوبة العودة إلى الحياة، واسترداد العافية. يبدو لي أنّ جذع الشجرة المقتلع، لن ينفع إلا إذا صار طعاما للنار. يدلّ هذا التشبيه على انهيار الضحية، وشعورها بالانتهاء. وتتجلى أيديولوجيا(4) الداعشي مما ورد، فهو يخفّض من قدرات سبيته، ويستأصل قوتها وصبرها، ويستدرجها لناحيته عبر الضغط النفسي الذي يعرّضها له. يخطّط الداعشي بدقة، وينفّذ كي تنصاع الضحية.

ويستخدم السرد التعبير المباشر(5) الذي يقطعه السرد، والمناجاة(6)، فندرك تعسّف الداعشي، وكيفية تدريبه لنساء يساعدْنه في تنفيذ مآربه. تدوخ يوفا ، وتقول لها الأم الخنساء:

_ “أنا مريضة… .

_ إخرسي.

كانت تريد توصيل رسالة، إلى كل الفتيات، أنّ ادعاء المرض ليس بالحيلة الذكية… بدأ المقاتلون بالدخول… اصطفوا لاهثين جوعا لامرأة، عيونهم تستطلع كلّ واحدة فينا، يضحكون ويتهامسون بانتظار الهدية… دخل مدير السجن… وعاد بمجموعة رجال… قال…: _اليوم سوق ما ملكت أيمانكم، يوم السبايا.

“أنا يوفا ابنة الشمس، أباع بسوق الجواري”. …عارية أمام كل الناس، وأمام الله، سيشتريني أحدهم بعد قليل. يكمل المدير…:

_ الله شرّع لكم أيها المجاهدون الاستمتاع بهن… أيّها الرجال، الآن يمكنكم أن تختاروا ما يطيب لكم.

… كالحيوانات المفترسة الجائعة، التي تشتم طريق اللحم والدم، انفلتوا بيننا، وكنّا نحن جيفا واقفة”(ص61).

يحملنا التعبير المباشر:”أنا… إخرسي”، الذي يقطعه السرد “كانت تريد… رجال…”، ثمّ العودة مجدداً إلى التعبير المباشر “قال…: اليوم… السبايا”، الذي تقطعه مناجاة يوفا: “أنا يوفا… بعد قليل”. ثمّ معاودة استخدام التعبير المباشر، الملحق بالسرد إلى عمق المأساة، فنعي مصير يوفا المهدّد بالدمار. تتعرّض يوفا للقمع من قبل داعشيات، وفعل الأمر الزاجر “إخرسي”، الملحق بتوضيح سردي لا يبدي فقط قسوتهن، إنّما أيضا قلة أخلاقهن، وانعدام إيمانهن. أما التعبير المباشر الصادر عن مدير السجن، فهو يجلو مكره الاعتباطي. يدّعي مدير السجن رسوخه في الإسلام، ويبرّر أفعاله أنّها من شرع الله. ونلمح من مناجاة يوفا أنفتها، وكبرياءها، وعفتها، ومحافظتها على عرضها.  ويبدي المثال المقتبس من النص بشكل عام سوء أخلاق الداعشي، ودناءة رغباته. يسلّط  ما ورد الضوء على تعقيدات الفكر الداعشي، المقتصرة مكتسباتها على ذاته نفسها. تجسّد المشاهد الهدم أمام عيني القارئ، وتحرّضه، فيرفض مساوئ عيش كلّ ألوانه قاتمة.

نستشف هذا التوجه الذهني لدى السارد مما يبثه النص الذي يسعى إلى تقديم تفكير الداعشي بشكل واضح التفاصيل، علّ الصوت المعادي له يبيت عالياً، ويواجهه بمفردات صلبة، قديرة الوعي، محكمة الرؤية.

ونقرأ دعوة الداعشي الدينية، فنفهم أديولوجيته. يقول:”لم نأت إليكم لنؤذيكم، نريد منكم أن تدخلوا الإسلام. الدولة الإسلامية أصبحت المسؤولة عن هذه الأراضي والقرى، يجب عليكم إطاعة شرع الله”(ص19).  نقرأ ما ورد، فنحسب أنّ الداعشي مصيب في تفكيره، وما يفعله حلالا، ويصب في مصلحة المسلمين الذين يحتاجون لهاد يرشدهم إلى الطريق القويم، بعد أن ضلوها. غير أنّ سير الأحداث يردم صحة هذا الكلام. ويمكن أن يتضح ذلك من كافة الأمثلة التي سنعرضها، ومن بينها المشهد الذي ينقل كيفية أخذ الهواتف والذهب، وأقراط الآذان والعقود من حول الرقاب، إضافة إلى خواتم الأصابع، وحتى المحابس. تقول يوفا: “كاد أن ينخلع إصبعي، وأنا أشدّ على الخاتم، الذي أهداني إياه سيروان، إلى أن سحبه أحدهم منّي بالقوة، ودسّه بجيبه…”(ص21). ينفي هذا المثال صحة ادعائه في المثال الذي سلفه، حيث تبدى خُلُقُه منافياً شرع الله. تعرّضت الإيزيديات للعنف، وأُخِذَت منهنّ أشياءهنّ الثمينة عنوة. تفسّر سرقة الداعشي للناس مدى قسوته، وحقارته، كذلك انعدام اكتراثه بالقيم الدينية. وقد تجلى واضحا القهر الذي تتعرّض له يوفا من ردود فعلها الرافضة الحاصل، ومن كتمانها أمنياتها، والتعتيم عليها. تتكثّف ذكريات يوفا من خاتمها في هذا المشهد بقدر يتوازى مع الحاضر المنهك، فيدرك القارئ عملية استهداف الداعشي لقوى المرء النفسية.

وتتجلى الرؤية السيكولوجية الذاتية(7) كثيرا في النص. تقول يوفا عندما تغلق باب بيتها، وتغادر هاربة مع أسرتها من هجوم التكفيريين: “لم أعلم إن كنت سأفتح هذا الباب مرة أخرى أم لا!؟”(ص14). لا شك أنّ تعلّق يوفا بمكان إقامتها هو ما دفعها إلى التساؤل عن إمكانية تحقق العودة، وهي رغبة دفينة كامنة في اللاوعي الإنساني. ويتجلى المنظور السيكولوجي الذاتي أيضا، عندما يوزع الطعام في السجن. تقول يوفا: “عادت اليد المجهولة، لتمدّ لنا أطباقاً بالحقد”(ص52). يبدو أنّ الحقد ليس جديداً أو مستحدثاً، إنّما هو قديم قدم الأشياء ذاتها. وهذه الرؤية السيكولوجية الذاتية قد تفضي بنا إلى إدراك واقع يوفا المأساوي، فهي لم تعرض الأشياء الخارجية بشكل موضوعي، إنّما تناولت حضورها من خلال فاعليتها في الذات. إنّ التغافل عن تقديم مكوّنات المحيط من خلال رؤية موضوعية هنا، إنّما يعود إلى واقع يوفا المؤلم، فهي لم تغرها أطباق طعامها، كما لم تزوّد شهيتها بمتاع محتوياتها، وقد رأتها مهدّدة لعيشها.

كما يقدّم السرد الطعام(8). تقول يوفا: “انفتحت طاقة صغيرة أسفل الباب… في كلّ صف، قطعة من الخبز اليابس، قليل من الحبوب الناشفة، لمرور أيام على سلقها، وتكرار تسخينها”(ص49).يخبرنا الطعام عن وضعية العيش المعدومة في السجن، تلك التي لا تراعي أدنى حقوق الإنسان. ويساهم هذا في انصهار المتلقي مع آلية العذاب الذي تعاني منه السجينات.

وتقدّم الرواية الكثير من مساوئ الداعشي، لتترك القارئ يقوّم سوء خُلُقه. يقدّم النص أثاث سجن يوفا، لندرك رداءة عيشها. تقول: “توسّد رأسي إسفنج الفراش، غير المكتمل الغطاء، تقوقعت كالبزّاق تحت البطانية، أشحذ منها دفئا، رغم رائحتها المقرفة، التي عرّفتني على روائح المساجين قبلي”(ص49). إنّ عتق الأشياء، وعدم الاهتمام بنظافتها وترتيبها، وانسجام يوفا مع أشياء واقعها السيء، وقبولها بما تؤمنه من راحة، واكتسابها الدفء من القرف يفصح عن آلية الظلم المتبعة من قبل الداعشي. ثمّ إنّ اكتناه الأمان من مبضع العذاب يبرز عمق المأساة، ويعيّن سلسلة الهزائم النازلة بمعادي الداعشي. هكذا يمكن للمتلقي أن يشتم رائحة النتن المتأتية من زمن بعيد، تستعيد فيه الذات السجينة عذابات من تتالى على موضعها هذا. هو موضع،  لا تُراعى فيه أدنى الحقوق البشرية. تحضر الأشياء القديمة لتبدي تاريخ أشخاص عانوا ، وهذا  بدوره يفضي بنا إلى إدراك الحاضر المستمر في قسوته. تتحدّث الأشياء نفسها عن الظلم، فيتكثف إحساس المتلقي بإهانته كإنسان متحضّر، غير قادر على تحرير مقيّدي زمانه. يعيش المتلقي في فلك ذلك المكان، ويخالطه قلق السجين، ورهبته من ثقل اللحظات التي تقبض على مفاصله، فيصعب عليه تجاوزها. هي أوقات مغمورة بكآبة وظلامية مندسة في المكان، وتتصاعد من الفراش وأغطيته.

وتقول يوفا أيضاً عن فرش السجن: “على الأرض أفرشه اتخذت كل واحدة منا لعظامها واحداً، رغم رقة سماكته، ووسخه الذي بدّل من لونه”(ص47). تنقل الرواية تفاصيل اشياء المكان، لتكون الشاهد الأمثل على معاناة الإيزيدية. إن طريقة عرض الأشياء ليس حياديا، إنّما غايته إجلاء القرف في المكان الضيّق، الذي يستحيل تجاوزه. ندرك من خلال الأثاث ماضي الأمكنة ووسخها، وكيفية عناق أصحابها للموت والقهر، فيقدّر القارئ بذلك صعوبة تزجية الوقت بعنفوان يخفت بصيصه مع اهتراء الأمنيات وتلاشيها. تتشابه أزمنة الماضي، والحاضر، والمستقبل، وتتكرر ضمنهم رائحة العفونة والرطوبة وتزداد، وهذا ما يميّز جمالية النص، الساعية إلى إرهاق المتلقي، وإيلامه، حتى تلامس مشاعره ضيق عيش السجينات.

ويطلعنا السرد على ثياب ترهق لابسها. نعاين الألبسة العارية(ص55) التي سترتديها النسوة، فندرك ما هو أشد ظلامية من وسخ السجن، وعتق أغراضه. لم تؤدي خلخلة الرتابة لدى المتلقي في أشياء المكانين والزمانين إلا  إلى مدار أسوأ. يترك الراوي الأشياء تبرز الحقائق، فتتصاعد زفرات القارئ المعذّبة متوازية مع خطية الزمن الكريه. لا يعود الكساء سترة، بل بات سبيلا لهتك الحرمات، ومجالا لانبثاق نزيف الإنسانية من مداره. حين يبيت أقصى طموح المرء أن يخلع رداء لا يناسبه، نفهم عمق الهوة التي آلت إليها تلك الشخصية، ومدى اللوعة التي لازمته. إذا، من المفترض أن يأتلف المرء مع ردائه، ولكن حين تنفصم علاقته بالثوب، وتتفسخ يعني ذلك أنّه بات عبئا عليه. تتحقق الرذيلة من ثوب الإيزيدية الجديد وينبثق العهر، لا الطهر الذي اعتادته. تجبر يوفا على ارتداء ما يخالف سجيتها، وقناعاتها، فيجالس القارئ أنفاسها التي تنوس وتتلاشى مع إحباطاتها التصاعدية المتوالية.

ندرك من خلال الأشياء فقدان يوفا وصديقاتها الأمان، كذلك افتقارهم للمكانة اللائقة التي كنّ عليها. كما نعي مدى الإذلال المفروض عليهن، والذي يمنع عنهن التمتّع بتلك المثل العليا التي كنّ يحتفظن بها. هكذا ندرك صعوبة الخلاص، واستحالة تحقّق الشفاء النفسي للضحية،  إلا من خلال انتقامها. تعمد يوفا إلى سلخ روح من سلخ عنها نظافة جسدها، وهذا سندركه من قتلها حمزة ورفيقه(ص168).

وتستشرف(9) يوفا أحداثا. تعبّر عن استيائها حين يمنعها الداعشي من ممارسة معتقداتها، فندرك بذلك أيديولوجيتها، وأيديولوجية معارضها. تقول: “سينتزعون إلهي من جوفي، ليرموا لي بإلههم”(ص28). إن استخدام سين الاستقبال مع فعل المضارع، يوضح عملية الإجبار التي ستخضع لها يوفا شاءت، أم أبت. تخشى يوفا أن تُمْنَعَ من ممارسة معتقداتها، وهي المتمسكة بإلهها. هم يرمون بإلههم لها، لأنّه لا شأن له عندهم، وقلة قيمته تجعله مجرد آداة، لتحقيق مآربهم الغرائزية. ترى يوفا أنّ عملية الاستبدال  ليست اختيارية، ولا إقناعية، إنّما إرغامية. يفرض الداعشي التبعية العمياء له، وتنشأ الضغينة في ذات يوفا، الأمر الذي قد يؤدي بها إلى الانحراف عن الخط القويم(10).

لا ترضى أيديولوجيا الداعشي الاختلاف، ولا تتقبّل التعايش معه، وكلّ مغاير لها مصيره الزوال والهلاك. إنّ اقتياد يوفا القسري ناتج حتما عن العجز الإقناعي، ولا شك أنّ هذا ما يدفع العاجز إلى اللاعقلانية، والتوحش. أمّا أيديولوجيا الايزيدية يوفا، فقد تجلّت معاكسة للتكفيري، فهي لم تتمكّن من التخلي عن مكتسباتها الذهنية. لقد رفضت خطابا يجرّدها من قيمها، وينسف عراقتها وأدبها، وهذا أوقعها في فخ نزاع مع ذاتها. لقد اضطرت أن تساير ساجد(ص122)، فأغوته بغية معرفة مكان أخيها، فخالفت بذلك قناعاتها، لذلك ندمت على ما فعلت.

تتنوع المشاهد التي تلتقط  الأديولوجيتين المتعارضتين، وهي مشاهد تتيح للقارئ معاينة تفاصيل الحياة اليومية القاتمة . يرفض الداعشي قراءة الآخر، أو فهم خصوصيته، وكل حديث يناقض رؤيته يدّعي أنّه يشوّه الإسلام، وهو يقف أمام دعوته، لذلك سيكون الجلد عقابه(ص96). وهذا كان يتطلّب من يوفا ثورة هادئة ضمنية، تخفي رفضها لمفاهيم المقيِّد. لقد كانت يوفا تصّلي صلاتها سرا قبل صلاتهم(ص105). ينتهك الداعشي الكرامة الإنسانية، وهو يدّعي حفظها تحت راية الإسلام. يمارس الداعشي الإرهاب من غير ضوابط  خُلُقية، أو رادع ديني، فيما الإسلام يعلي صوت العقل والوعي الإيماني. يرتكز الإسلام على الرؤى الذهنية، ويطلق العنان للمنطق، ويستغني عن الإمكانيات الجسدية، ويستبعدها، ولا يستمد سطوتها إلا في أثناء مواجهته العدو.

يلتفت النص كثيرا إلى موضوع الحدود واجتيازها(11)، فندرك بذلك صعوبة اختراق تلك الحدود. تقول يوفا: “السياج بات مرتفعا بيني وبين العالم الآخر”(ص128). “أننا سنبيت الليلة هنا، وليس ببيوتنا… الجدران   حولي”(ص29). “دخلت سجن بادوش”(46). “هذا الشباك نافذتي الوحيدة… أمدّ أنفي بين حديدتي الشباك”(ص109). تتحقق مكتسبات النص من المكان المقيّد للخطى، والأحلام. وهذا يبرهن مدى وحدة الذات، وانغلاقها على عتمة حدودها، فيما الخارج يتصف برحابته، وامتداد أفقه. تلعب حدود السجن دورا أساسيا نتقصّى من خلاله نبض السجينة المتحسّرة على أمكنة حرّيتها، وأزمنتها. تساعد الحدود واجتيازها في بناء رؤية واضحة لدى القارىء، فيقدّر بذلك انهيار الضحية، واختناقها في أمكنة يستحيل تجاوزها.

يوظَف السرد المكان بتقاطباته القائمة بين ضيق السجن، وعتمته من جهة أولى،  وضوء الخارج، وامتداده من جهة ثانية، فيدفع عجلة الأحداث إلى الأمام، ويفضي بالقارىء إلى عمق المأساة التي تعيشها الشخصية. تمنح التقاطبات النص بعدا تراجيديا، وتؤسّس لهنات الوجع الملازمة للمحاصَر. هكذا يركّز السرد على الداخل الآني المعتم، ولا يسطّر ضوء الخارج إلا من خلال الذاكرة. ينفع هذا التقاطب الأحداث، فنعيش الوقت الضائع، العديم الجدوى مع السجينة. ذلك الوقت المؤدي إلى انهيار ذات السجينة، المتقصية عتمة الجدران الأربعة. تصرّح تقاطبات المكان عن همجية الداعشي، والظلم الذي يلحقه بضحيّته التي تتحرّك داخل مكانها الضيّق. وهذا يقدّم للقارىء صورة عن الواقع المؤلم، فتتسع مساحة المشهد أكثر أمامه.

وتتجلى أيديولوجيا القوة لدى يوفا حين تمشي بقدميها إلى حتفها، حيث بستان الألغام(ص191)، بعد أن فقدت أملها بمجيء حبيبها سيروان من جبهة القتال لاستقبالها، كما اتفقا. تطلّب التصالح مع الأنا المُبْعَدَة عن قيمها الرضى بالموت. كأنّ الذات تريد أن تنتشل بعضا مما كان يريحها، فتخفّف بذلك من حدة احتضار لحظاتها، وهي عارية أمام الداعشي(11). أرادت يوفا أن تضع حداً للغة المهدّدة لها، فاختارت الموت على الحياة المهينة. أحسب أنّ هذه المقدرة في ترك الحياة لا تعني لدى يوفا هلاك الجسد، بل رفعته وسموه، والتغني بخلود جمالية قيمه الثابتة، والالتفاف حولها، للاحتفال بها في حضرة الغياب. هذه الجرأة في ارتقاء الجسد، وتهافته لاستعادة مقامه المحترم، المزدان بقيمه، هو قمة التعفّف الأنثوي المنساب في مقاطع ختام الرواية، حيث نشرت خطوات يوفا الواثقة نحو حتفها جوهر أصولها(ص191). ينتهي النص، ولم نلحظ ما ييسّر للمراهنة على الفكاك من المأزق، إلا عبر الموت. فهل هذا ينبئ عن استحالة اجتراع الحلول؟ وإلى أيّ حد سيستحكم  الداعشي، ويحتكر كل القوى الحيوية، ويوقعها في فجوة جهنم؟

يبدو أنّ الواقع هذا بات مخيفا ومقلقا، وبات حبل الخلاص مفقودا. وقد تناولت روايات عديدة فوضى الداعشي، وعبثه بالمصائر الإنسانية. تتحدّث رواية “نزوح مريم” عن ظلم وقمع وخطف الداعشي لمعارضيه، ورد: “ينبشون تاريخ المجتمعات… ليقيموا حدّا يفرضونه بالسيف… بدأ الشباب يختفون ولا أحد يعرف أين يذهبون! الأحاديث تدور في الظلمة: “خائفون، أو التحقوا بتنظيمات سرّية أخرى ضد داعش، لم يحتملوا العيش تحت رايات سوداء…” “(13).

ولا يقتصر إيذاء الداعشي على سجونه، إنّما يتعداه ليغطي جزءا من الخارج، حتى بعد الفرار من قبضته. ويمكّن أن يتبدى ذلك من خلاصة أحداث في رواية “على مائدة داعش(14). يحذّر أحمد يوفا من ألغام البساتين، حين كان يهرّبها من قبضة الداعشي، غير أنّها تتقدّم إليها حين لا يأتي سيروان من جبهة القتال، ولا يلاقيها في المكان المحدّد الذي اتفقا على الاجتماع فيه. ولعلّ ما منع سيروان عن ملاقاة عشيقته، هو قتله من قبل الداعشي. يبدو أنّ إقفال الرواية على خاتمة مأساوية ملخّصة  بهذا الحجم المرعب، يدفع إلى التساؤل عن دلالتها. لا شك أن أعلى الرتب الإنسانية هي الاستشهاد من أجل الدفاع عن الأرض بالنسبة لسيروان. أمّا غياب  يوفا، واختيارها الموت المنزّه عن الخطايا، فله قيمته العالية الشأن. تواجه يوفا العنف بالعنف نفسه،  فهي لن ترضى أن يدنس الداعشي جسدها مجدداً،  لذلك قررت حرق رغباته بألغامه.  تأتي خاتمة الأحداث مقتضبة، ويركّز السرد على مواجهة المصير من قبل يوفا، وأحسب أنّ ذلك هدفه إظهار مدى اليأس الذي يلاحق الشخصية، ويأسرها، ويكبّل خطاها، الأمر الذي يفضي بها إلى الحلول في منطقة الانتصار من موقع الاستقواء على الذات، وعلى الآخر.

 

ج_إرهاب الداعشي لإيزيديات، ومقاومتهن ضدّه

يوظف الحلم(15) ليخدم السرد، ويوهم بواقعيته. تحلم ليلاف، وحلمها ينذر بشؤم سيحصل: “الليلة التي سبقت دخولهم إلينا، وجدت نفسي بالحلم، أحاول طرد قطة سوداء، جثت على صدري، ولكن ما كنت أقوى على رفع يدي حتى! وصوتي لا يمكنه الخروج من حنجرتي، تمتص قدرتي… ثمّ تكاثرت القطط، التي غطّتني بالكامل، استفقت وأنا أشعر أنني أختنق”(ص48). يأتي هذا الكلام ليوحي بواقعية المسرود، إذ أنّ البشر غالباً ما يسعون لتفسير أحلامهم، لاعتقادهم أنّها تنبئهم بما سيحصل، فإما يستبشرون خيرا، أو يتوجسون شراً. و لعلّ إيراد الحلم غايته التمهيد لما سيطرأ على هدوء الحياة من مفارقة للرخاء وهدوء البال، إذ أنّ ليلاف، ومن حولها سيقبعون في متاهة قاتمة، تأبى أن تفارقهم غمتّها، ولن يستطيعوا أن يعربوا عن رفضها. وأحسب أنّ تكاثر القطط هو بمثابة دلالة على تزايد الأعداء، كما أنّ عدم قدرة ليلاف على الحركة إشارة إلى تهشيم قوة الأفراد إلى حد الانهيار. يتحدّث ادوار الخراط عن الحلم، ويقول أنّ “الحواجز مهدورة… بين الواقع واللاواقع بين الحلم والصحوة، بين الداخل والخارج، بين الأنا والآخر”(16). إذا، لقد كان الحلم بمثابة توطئة لجديد يهدّد العيش، وهكذا تبيت مرآة المتخيّل مشهداً مؤلماً جاثمة أحداثه على صدر ليلاف، الموجودة مع أوهامها أمام مرأى المتلقي.

وتحضر الأشياء إلى النص لتضيء أحداثه. فأم الخنساء تعطي النساء أدوات تنظيف لينظفن أجسادهن، وفساتين ملوّنة يملأها البرق، شبه عارية(ص55). تبدي هذه الأشياء كم أنّ الداعشي ينظر إلى المرأة بطريقة شهوانية، كأنّ المرأة لا تستطيع أن تكون في حياته إلا من خلال جسدها. إنّها مجرد قطعة حلوى، يتم التلذذ بطعمها. يؤكّد تسليع المرأة محدودية الداعشي، وإمعانه في دَيْدَن تخلّفه. إنّ وصف الراوي شكل الثياب، وذكر ضرورة تحضير المرأة نفسها للداعشي عبر التنظيف يلامس تخوم القضية الجوهر، ويوضح عهر المهيمن، المتفلّت من كلّ المقاييس الدينية، وهو الذي يجد أنّ تحققه مرهون بإطلاق العنان لرغباته. يتوغل النص في تقديم شطحات الداعشي، وكيفية إنعاشه شهوته من قيدها، لتحرير هواجسه. فنشوته تبني فردوسها بمعزل عن تقدير حميمية الآخر، ودفئه. لا يرتقي وجود الداعشي بحلول المرأة في حياته كإنسانة تكمله، لأنّه لا يضعها إلا في أدنى مرتبة، ولا يتعاطى معها إلا بأسلوب بهيمي. فهي ليست امتداداً له، ولا يتكامل إلا من خلال تلاشيها وتعذيبها، واغترابها عن شوقها لذاتها. سيطرت هذه النظرة المادية الوحشية على حيز النص، وهيمنت على باقي مكوّناته، وأثبتت أصالة عنوان الرواية، وتناغمها مع أحداثها. تكون المرأة عادة سعيدة في أثناء تنظيف جسمها، إذا كانت تحبّ رجلها. ففي مخيمات اللاجئين في رواية “سماء قريبة من بيتنا” يتم تنظيف النساء، وهنّ راغبات بذلك اللقاء الجسدي مع رجالهن(17).

ويستخدم السرد الرؤية السيكولوجية الذاتية. تقول يوفا: “استحممنا كمن تغسل كلّ واحدة جثتها “غُسل الموتى”، تهيأنا للبس أكفان مبرّقة، قبل أن نُدْفن أحياء…”. ثم تقدّم الرؤية السيكولوجية الموضوعية. ورد: “كلّ واحدة أخفت نفسها ببطانيتها للسترة…”(ص57).تغسل المرأة نفسها لرجل يناقضها في الفكر، وفي الدين، وفي كلّ الانتماءات. ولأنّها تفعل ذلك لمن لا يناسبها، ولا يشبهها، ولا ترضاه تفكّر أنّ جسدها هو جثة، وتغسله “غُسل الموتى”. تعتبر الإيزيدية انفراد الداعشي بها دفنا لحياتها. ثمّ إنّ الثياب العارية في تلك العلاقة كانت مدمّرة لمشاعر الفتاة التي رفضت دور الإغواء، الملقى على عاتقها. لقد خجلت من ذلك، وازدرته، لذلك استعانت برداء مناقض، يستر عورتها حتى عن نفسها، وعن موجودات المكان المغلق.

وتتعدد رؤية المرأة الأديولوجية حيال موضوع ارتداء ألبسة عارية للداعشي. “قالت تاليا كأنّها تقرأ أفكاري(18):

“_ لم أكن أبدّل ثيابي حتى أمام أمي.

ردّت ليلاف:

_ لشدة خجلي من الفريق الطبي الذي حاوطني، كنت سألد إبني وحدي. شهقت فتاة بالبكاء… لم تقترب منها أية واحدة، لعدم استحضار الجرأة بعد للمشي بهذه الفساتين”(ص57).

تعبّر تاليا، وليلاف عن استيائهما بالكلام، أمّا الفتاة الثالثة، فالتزمت الصمت وعوضت عنه بالبكاء. يبدي التعبير المباشر، الملحق بالسرد أيديولوجيا الفتيات، وردود أفعالهن التراجيدية المستقبحة هذا العمل الشنيع، والرافضة له رفضا مطلقا. تجسّد الفتيات هنا واقع إناث وقعن ضحية الداعشي، أو سيقعْن. تعيش الفتيات حاضرهن المشين، فيقارِنّ بين وضعهن الآني، وما كنّ عليه، فيخلق التفاوت تلك اللوعة المتحسّرةّ على ذكرياتهن النظيفة. يعرض النص تفكير الإيزيديات، فيتضح سوء الداعشي.

وتختلف رؤية الإيزيدية الأديولوجية، عن رؤية الداعشي. يتحدّث الداعشي عن ضرورة إلزام الإيزيديات بنظام الدولة الإسلامية، والزواج منهن:

“_ستدخلن اليوم الإسلام، وهذا الخيار الأفضل ولكن، وإلا سنطبّق عليكنّ الحدّ الشرعي للكَفَرة.

… ابتسم القائد… ومن دون أن يكبح شهوته، فلّت نظراته لتشبع من أجسادنا، وقال:

_ … إنهنّ غنائم الخلافة، سنتزوجهنّ!

قالت خالتي كوري، وإن بدا صوتها مرتجفاً: _ ديننا لا يسمح بذلك… .

وتشجعت أم مراد… : _ إنهنّ متزوجات لا يستطعْنَ الزواج.

فردّ أميرهم … : _ لقد قتلنا كل رجالكم، وهذا يعني أنكنّ أصبحتنّ أرامل، والأرامل يمكنهنّ الزواج.

… أشهروا بنادقهم بوجه كلماتنا … تدافعوا نحونا يركلوننا بالأرجل … انتشلوا من بيننا النساء الكبيرات سنّاً، اللواتي كنّ بحدود الثمانين امرأة، شحطوهن على الأرض من شعرهن… رأيت عدداً من الكبيرات، أم مراد… خالتي كوري… كانت الواحدة تلو الأخرى ترتمي أرضاً. رموهنّ بالرصاص”(ص33).

يبرز الحوار الدائر بين الإيزيديات والداعشيين تلك الهوة الشاسعة بين تفكيريهما. يبني الداعشي علاقته الوجودية الامتدادية تحت عنوان الإسلام، وكل المسميات التي ينشدها لا علاقة لها بعقائد المؤمن المسلم. لا شك أنّ الرياء يحكم ارتباطات الداعشي المشكّلَة على أساس المصالح المادية، بمعزل عن الانضباط الخلقي، والأطر الدينية. يرصف السرد الأحداث التي تبيّن قولبة الداعشي لعيش النساء من خلال انعدام حيائه، ومن غير التزامه بأصول الشرائع القرآنية السليمة.

وتستشرس والدة يوفا حين يأخذون ولديها، ونقرأ وضع الأم من خلال رؤية يوفا السيكولوجية الموضوعية، والذاتية، الملحقة بتعبير الأم المباشر. يستفيد السرد بداية من الرؤية السيكولوجية الذاتية. تقول يوفا: “أمّي تنهال الضربات عليها، وهي تحاول الوصول إلى أخي، ثمّ تستدير للوصول إلي”. ثمّ تقدّم رؤيتها السيكولوجية الذاتية، وتقول: “تنفسخ أمّي إلى جسدين، بآلاف الأرواح الغاضبة”. وتتابع الأحداث تقدّمها من خلال تعبيرالأم المباشر:

_ أعيدوا أولادي، يا كلاب، يا حيوانات… تغيب أمّي عن الوعي”(ص38).

يشتد الصراع في ذات أم يوفا، فيسبّب انقسام جسدها إلى اتجاهين متغايرين، لا تعرف أيهما تختار، ولا تعرف نتائج قيادتهما، لذلك لا تتأمل خيرا. وكلا الطريقين، هذا إن أتيح لها اتباع أحدهما صادم، وموصل إلى الخواء، والدمار. يؤرّق هذا التمزق بنية المجتمع، ويرهق المتلقي الذي تتجذر في مخيّلته صورة واضحة عن هموم ستؤرّقه، وستُلقي على كاهله مسؤولية قراءة المعطيات، لاتخاذ حلول مؤدية إلى بر الأمان، وهي مرحلة استباقية تمنع حلول الداعشي في أرضه. تمنع الأم من ممارسة أسمى المهام الإنسانية الموكلة إليها، فنعي القهر الذي يجتاح البشر في القرن العشرين باسم الدين الإسلامي.

يحاول النص وضع يده على الجرح، ويفضي بنا إلى ذلك النزيف المعانق للذات، وهذا يحصل لروناهي التي بيعت، ولم تعد تعرف شيئا عن أولادها، ولنارين التي يأخذون منها طفلها(ص129).

ويظل النص يفرج عن وقائع قذرة، أحاطت بمجتمع محافظ، وأهلكته، وسنتناول مشهدا يبرز أيديولوجيا الداعشي المنهكة لكرامة المرأة: “أبوجنيد… كمش الفتاة الشقراء… ويد واحد سدّت فمها، فابتلعت صراخها. مهرولاً، وراء فريسته، كرج المدير إلى الداخل…”. ثمّ تتجلى رؤية يوفا السيكولوجية الذاتية الموجودة في المكان نفسه. تسـأل:”هل يعقل أن أكون القربان التالي لإله شهواتهم”(ص46). لا يعبّر الداعشي ذهنية المرأة، ولا يجد فيها تمامه إلا في لحظات انبناء شهوانيته، لذلك لا يصونها، ولا يحافظ على عرضها، كما يتعاطى معها بعدائية مفرطة تمسّ إنسانيتها. ويوغل السرد في رصد تفكير المرأة، وقلقها على وجودها من تكفيري ينكر وجودها الإنساني العظيم المقام. فما هي بالنسبة للداعشي إلا مجرد وسيلة لقضاء حاجةّ، لمن ليس لديه أيّ مشروع إنساني حضاري.

وتطفح الرواية بمثل هذه المشاهد، أو ما يجاريها، ويعادلها في ظلم المراة، وهذا ما يؤدي إلى بروز الرؤية السيكولوجية الذاتية. تشعر يوفا المعروضة للبيع هي وأخريات أنّها عارية أمام كلّ الناس “وأمام الله… كالحيوانات المفترسة الجائعة، التي تشتم طريق اللحم والدم، انفلتوا بيننا، وكنّا نحن جيفاً واقفة”(ص61). تؤلم عملية التسليع يوفا، لذلك تقدّم رؤيتها حيال الاستعباد، والاستهانة النازلين ببني البشر. وتتدفق خلجاتها السوداوية، وتمعن ذاتها في الحزن، فتشبّه أولئك الأشخاص بالحيوانات المفترسة. توضح هذه اللغة حالة التسيّب الممارسة حيال النساء. ويترجم ما ورد لا مبالاة الداعشي، وانعدام اكتراثه بأوضاع النساء النفسية الإنسانية. يقدّم السرد دناءة الفكر الداعشي، واستسهاله إهانة المرأة،  فندرك أنّه لا يتلمس في أفعاله قضايا مصيرية كبرى، همها خلاص الإنسان. وهذا ما سيرهق المتلقي، ويدفعه إلى القلق على عالم يعيش فيه الداعشي.

وتتجلى أيضا أيديولوجيا الداعشي، وعهره في أثناء الحديث عن بيع النساء في مبنى المحكمة التي من المفترض أن تكون موطن العدل، والإنصاف. تتعرّض النساء تحت سقف المحكمة للتعاطي القذر، ف “تُباع الواحدة تلو الأخرى، أو تبدّل، بحركة دائمة”(102). يوضح ما ورد أن العدل قد بُتِر، وأنّ الصلاح قد فُقِد، فسيطرت شريعة الغاب. يحشد الداعشي الرعب في النفوس من غير وجود وازع، بعدما بات هو السلطة والقانون، وكلمته هي النافذة. تتبدّل معايير المكان، وتتحوّل تحولا جذريا. وهذا سيرعب المتلقي، فالمحكمة بدل أن تكون ملاذ الناس، وموضع الأمان، والأمل تبيت مركز القلق. يشير ما ورد إشارة واضحة إلى إمكانية تبديل وجهة أي مجتمع تحلّ به داعش، تلك التي ستعيث فساداً.

يستفيض النص في تقديم مشاهد كيفية إرهاب المرأة، الأمر الذي يتيح معاينة أيدلوجيتين متناقضتين، عهدنا حلولهما في الأمثلة السابقة. تقول يوفا: “سبيتان، لكلّ واحدة منّا قدر رهام، التي لم يتجاوز عمرها الخامسة عشرة… أنزلني وحدي من السيارة، إنفجرت رهام بالصراخ، وهي تشدّ على يدي أن لا أتركها… امرأتان ايزيديّتان، “دلدا” و”روناهي”… دلدا حامل بشهرها الأوّل… تخاف أن… يبان حملها، فيظنّ الداعشي أنّها حملت منه، أو من داعشي قبله. ولا تجرؤ إخبارهم أنّها حامل من زوجها، فيضربونها حتى تجهض، كما فعلوا مع جارتها، ضربوها على بطنها، وأعطوها حبوبا، بقيت تنزف ثلاثة أيّام حتى ماتت… روناهي أم لولدين”(ص104). يجمع هذا المشهد في طيّاته ظلم أربع إناث.  هنّ إناث يرْزَحْنَ تحت نير الأسى، الذي يمكن أن نضع له عنوانا، هو: “ظلم التكفيري”. تبرز الدلالة من وظائف الكلام، فالقوى المحرّكة للعدو ثابتة هيئتها، تتبدى من حقارة تعاطيه مع الإيزيديات، اللواتي يغدق عليهن من سذاجة تفكيره. تتبدى حماقة الداعشي من كلام دلدا، التي تخشى أن ينسب حملها من زوجها إليه. كما يبرز قلق الايزيديات من ردود أفعال لئيمة، قد تتلقاها من آسرها الذي وظّف كلّ أمكانياته لتأمين مزيد من الأطعمة الشهية على مائدته. يدمّر الداعشي واقع الايزيديات، ولا يراعي أدنى حقوقهن الإنسانية، الأمر الذي يجعلهن بحاجة إلى عجيبة إلهية تقيهن من الإساءة، فتدير المسائل إلى جهة مناقضة لنواياه الرديئة. تتكرر سلسلة ظلم النساء، ولا يوجد في النص حدث يذكر، ولا صلة له برغبة الداعشي بهن، وهذا يشيع جوا من الكآبة، إذ أنّ النسوة مبصرات، فيما راغبهن معمي البصيرة. هكذا يكشف النص عن النواحي  الحميمة لدى المرأة، ويغدو الإفهام سبيل التشويق، ويدخل القارىء إلى كنه القضية أكثر، فيشعر بإحساس كلّ ايزيدية، ويدرك طريقة تفكيرها، وتحليلها المسائل، ويؤلمه ذلك. وهنا قد يسأل المتلقي: ما غاية هذا السرد المؤرّق للمجتمع؟

إنّ تذمّر النساء من حاضرهنّ، ووضعهنّ جميعا في نفس المكانة المقلقة، والمرعبة هي دعوة ضمنية تحريضية للقارئ، تدعوه إلى مزيد من الفطنة في قراءة المسائل، قبل أن تحلّ الآلام في موطنه.

تحبس الأمهات أنفاسها، ويدرْنَ في حلقة بؤس مفرغة، فتتكاثر كآبتهن، وتتزاحم أحزانهنّ،  ويغدو الإمساك بخيط الخلاص مفقود. ويمكن أن يتبدى ذلك مما ورد من رؤية سيكولوجية ذاتية، مستمدة مما يأتي:”_ لماذا فصلتم إبني عنّي؟…وبسؤالها هذا، كمن سكبت نفطاً على جهنم المتقدة بأفئدة كل الأمهات…”. يفضي استخدام الرؤية السيكولوجية الذاتية هذه إلى إدراك ذلك التشنج الذي غلف عيش الأمهات، اللواتي رفضن أن تغتصب حقوقهن، وهنّ اللواتي حرمْن من إغداق عطفهنّ على أولادهن.

ويمنع الداعشي الأمهات من التعبير عن غضبهن، ويعلن حينها عن رؤيته الأيديولوجية التعنيفية:”وعلت العصيّ، الضاربة على الجنوب والرؤوس، من دون رحمة… ماذا أصابكن أيتها العاهرات؟!”(ص37). تتزايد الأمثلة الشاهدة على كفر الداعشي، وهي جميعها تبدي عجزه عن الإقناع، وعدم امتلاكه أدلة تثبت صوابية تفكيره، لذلك يعنّف الضحية مستخدماً التعذيب الجسدي، والنفسي. خلاصة الأمر أنّ تفكير الداعشي معدوم، وطرق قمعه صادمة ومقلقة. وتكمن تراجيديا النص في إخفاق النساء في الدفاع عن حقوقهن، ودفعهنّ ثمناً باهظاً إنْ تمرّدْنَ، أو عبّرْنَ عن سخطهنّ. ثمّ إنّ التمرّد على الواقع لا يحدث تحوّلا إيجابياً لمسار الأحداث، ولا يخلق فرصاً ثمينة تُعينُ صاحبها. فالفضيلة الوحيدة التي يمكن أن تحصّلها الذات هي الموت، وبأقل خسائر ممكنة. ها هي شيرين تقتل نفسها، بعد أن تقضي على مغتصبها، وقد قدّم السرد خلاصة الأحداث تلك، فأتت موجزة، ودعّمت الموضوع الذي بنيت الرواية لأجله، وهي التحدّث عن ظلم المرأة، وهدرها حقوقها. وعن مثل هذه الأدوات الحادة المستخدمة ضد المرأة في وسط الضرب والقتال تتحدّث أم مريم في رواية “نزوح مريم”. تقول: “الأدوات الحادة تنهال على الرؤوس … هل ستكون الضربة القادمة في رأسي؟ …رصاصات على الساقين”(19).

ويذكر السرد أشياء يستخدمها الداعشي لردع النساء. تقول يوفا:”أنزلونا… منهم من يمسك بواريد، وآخرون… يتسلّح بالعصي… أنا الآن سجينة… “سبية ايزيدية””(ص44). إنّ تهديد النساء بالسلاح، وزجرهنّ بالعصي يوضح مدى القمع، الذي تعاني منه الشخصية النسائية، لذلك تستسلم يوفا، وتقول أنّها سبية ايزيدية.

ويسبّب الألم الناتج عن استخدام أدوات القمع الاستباق. تقول يوفا عنها، وعن زميلاتها: “انفتحت بوابة السجن كاشفة لنا عن أيام سوداء”(ص45). لا يحتاج هذا الكلام إلى عناء تفسير، لا شك أنّ إحاطة المرء بحيطان أربعة، وحرمانه من حريته سيحمله إلى توقّع غمة قاتلة. إذا، الحلول في السجن هو ما يولّد الحزن، ويرجّح كفته.

ويولّد الإحساس بالتبعية القهرية رؤية سيكولوجية ذاتية. تقول يوفا عن داعشي يقودها هي وزميلاتها السجينات: “سار أمامنا كالنمر يجرّ فرائسه متباهياً”(ص45).تتبدى مشاعر المقبوض عليهن، وتتطوّح لغضبها من الزاجر. ولا شك أنّ هذا التشبيه ناتج عن التوجس من الحاصل، فالمسجونات مصيرهنّ مهدّد، ولا يعلمْنَ إلى أين ستؤول حالهنّ. يفسّر ما ورد شعور النسوة بالخوف، والقلق، والارتياب، فهنّ تحت سطوة سجن تتقلّب فيه حياتهن بين اسودادين، كلّ ما بين امتدادهما متهاوٍ إلى القاع.

ويقدّم السرد أيديولوجيا الايزيدية، ويتجلى ذلك من حكي شيرين التي تناوب عليها ثلاثة مع مدير السجن(ص67). تغرز شيرين المعتدي بالمقص، ثمّ تبيت جثة هامدة بعد أن تقطع شرايينها (ص70). قد تفكّر شيرين أنّها تستعيد حياتها من رحم قتلها لنفسها، لأنّها حينها تبدع وظائف عيشها وفق مفاهيمها. تقتص شيرين من الجاني، وترفض حلوله في عمرها من غير وجه حق. تردعه من خلال قتله، كي لا تدنّس جوهرها برغباته المقيتة. تبيت المرأة هي القضية، وهي المحكمة. تتشفى من المعتدي عبر تحققها في خلودها الأبدي الشريف، فيموت هو ذليلاً، وهي تخلد رفيعة الشأن. هكذا ترتاد الروح طريقاً نقياً اعتادته، قبل أن يتردى أيّ شيء فيها. هكذا تنشىء النفس الإنسانية وعياً جديداً يمحو ما فات، فتستعيد مكانتها، متموضِعةً في هدوء ترتجيه.

يبث النص مشاهد عن ظلم الداعشي، الأمر الذي يعمّق قناعة القارىء بجوهر القضية. يتحدّث عن إيزيديات يعملْنَ في بيوت داعشيين(ص149)، وهذا يؤكّد أيديولوجيا الداعشي المُذلة للمرأة، فهي لم تخلق إلا لتكون عبدة له. لم تعد المرأة نصف المجتمع، أو نصف عقله المتمّم لذكورته؛ فما هي سوى عابر فراش، أو منظفة منزل. إذا، هي خادمة مؤقتة. هكذا ينزاح دورها الريادي في بناء الوعي الخُلُقي. يبدو أنّ النص يستجيب لمعطيات مجتمعات خاضعة لهيمنة الداعشي، ويعكس ما يدور في بنيته من همجية. إنّ عالماً تحلّ فيه داعش هو حتماً بلا حضارة، وسيبيت في الحضيض.

ومن أيديولوجيا الداعشي المحطّم دور المرأة، واللاغي فاعليتها الإنسانية، والذي لا يراها سوى خادمة لرغباته، ما تمّ ذكره عن ماريا المسيحية(ص146) التي تغادر الموصل، وتدخل الإسلام، كي لا يُقْتَل والدها المعتقل، وتتزوج من سيف المهدّد لها، ولوالدها(ص144). فإذا كان الإسلام يطلب رضا المرأة عن زوجها، وأن يعيشا بمودة ورحمة، فإنّ ما ورد يثبت تلك الهوة الشاسعة القائمة بين فكر الداعشي، ومبادئ الإسلام. وقد ورد في القرأن الكريم: “ومن آياتِهِ أنْ خَلَقٌ  لكمْ من أنفسِكم أزواجاً لتسكُنوا إليها، وجَعَلَ بينكُمّ مودةً ورحمةً إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكّرونَ”(20). وقال أيضا في كتابه العزيز:”هو الذي خلقكُم من نفسٍ واحدةٍ وجعل منها زوجها ليسكن إليها…”(21). يحوي هذا المشهد دلالة عميقة تعكس أساليب الداعشي الملتوية التي يستخدمها لتحقيق مآربه الشهوانية. يُقتَل الناس، وتُغْتَصَب حقوقهم من تكفيري يدّعي خلاص معينيه، فيما هو يجر الناس إلى البلاء.

ويساهم المكان في إبراز مدى تعرّض المرأة للعنف، فإذا كان المكان الداخلي والخارجي الحاليّان تهيمن عليهما صفة العدائية، فإنّ الخارج بماضيه، يتصف  غالبا برحابته. وهذا يفضي إلى فهم عمق مأساة الشخصية التي خلعَ عنها مكانها الحاضر الهدوء، والدعة اللذين يحتاجهما المرء لسلامة عيشه.

 

د_إرهاب الداعشي للرجولة والطفولة

يأسر الداعشيون أطفال النص، ويقتلون رجاله، وهذا يقلق الشخصية الإيزيدية المشاركة في القص. وينعكس هذا القلق بدوره على المتلقي المتماهي مع سير الأحداث، والمنسجم مع السرد، المرتبطة وقائعه في كثير من وجوهها مع المرجعية الفعلية، حيث تتفشى جرائم الداعشيين.

يسجّل التكفيري أسماء الأطفال، وأعمارهم على أوراق، الأمر الذي يغضب الأمهات، فيسألْنَ عن الأسباب، وتأتي الإجابة التي تبرز أيديولوجيته التكفيرية: “هؤلاء أشبال الخلافة، سيدخلون الإسلام… دولتنا”(ص37). تبدي إضافة “نا” الجماعة إلى الاسم “دولة” أنّ الداعشي يحتكر انتماءه إلى الإسلام، ويكفّر من هو خارج نطاق تفكيره. قد يسأل المتلقي إن كان خافيا عليه الفكر التكفيري: هل يملك الداعشي شعارات بناءة تستحق فصل الأبناء عن أمهاتهم؟ لا يبدو لي أنّ الداعشي يخشى من عقلية سيكون عليها الأبناء، فيما لو بقوا في عهدة أمهاتهم، وهي مستمدة من بيئتهم السابقة، فجل ما في الأمر أنّه يريد الاستئثار بالمرأة. إنّ المرأة بالنسبة للداعشي هي وسواسه القهري، هي عقله، وخطابه الوجودي المنطلق من خلاله، وكلّ طموحه قضاء وقته معها، لذلك يمنع عنها أولادها. إنّه مجمّع قذر يحتقر الآخرين من غير أن يضيف إلى عالمهم سوى التعسّف، ويسلب منهم كلّ أمان. أحسب أنّ النص يريد التركيز على هذه المسالة، كما يسعى إلى تأليب القارئ على مشاريع الداعشي المفرطة في إساءتها، تلك التي تتطلّب تكثيف الجهود لتغيير سياق عيش مستشر في جرائمه. ويبدو لي أنّ ما ورد يدعو إلى تكاتف الوعي، واتحاد الطاقات الذهنية التحليلية للنهوض مجدداً، ومعالجة الداء. لا يخفي السرد الأشياء التي يريد إبرازها، لذلك يستشفها القارئ بسهولة، فهي تقدَّم صريحة بعيداً عن المواربة.

كما تتجلى أيديولوجيا الداعشي التكفيرية في أثناء تعاطيه مع الأطفال. تقول يوفا أنّهم أُمِروا بالخروج، وبتدافش كبير مشوا، وتُتابع:”فعين على أخي الخارج مع الأطفال من الباب الآخر للمدرسة…”(ص38). وإذا عرفنا أنّ أخاها قد نُحِر(ص151)، عرفنا أيّ اسلام يدعّيه الداعشي، وأيّ طعن تتلقاه الإنسانية في ظهرها منهم. لا يحتاج الأمر إلى عناء تفسير، فكلّ ما يصدر عن الداعشي مخالف للشريعة الإسلامية. يبدو أنّ النص يريد أن يحذّر المسلمين، وغير المسلمين من هذا العدو، ويدعوهم إلى إزالة هذا الهم من عيشهم، قبل أن يقضي على السواد الأعظم منهم. يشير السرد إلى ضلال التكفيري، ويغوص في تفاصيل تقدّم صورة واضحة عن تأثيرهم السلبي على نهوض المجتمعات. لقد بات إيقاظ الأمم ضرورة ملحة في ظل وجود هذا العدو، لذلك اختار السرد هذا النمط الكتابي.

لا يحقّق الداعشيون قفزة نوعية توظّف لمصلحة هؤلاء الأطفال الذين يطلق عليهم أشبال الخلافة الإسلامية، والأدلة نستشفها من الأمثلة المقتبسة من الرواية، وهي بدورها تكشف أيديولوجيا التكفيري الظالمة المجوّعة للأطفال. تقول يوفا: “حرّض الجوع الأطفال على الاستيقاظ، تعالى التافّف… فالأمعاء الصغيرة خاوية”(ص24). أيّ حضارة يمكن أن ينجزها الداعشي، وأيّ تعاليم إسلامية يعلن تنفيذها لمصلحة الصغار، والجوع يلازمهم، ويحطّم قواهم، ويؤرّق نومهم (22)؟! يلوذ التكفيري بحياض الدين، ويحمّل الطفولة وزر عتمة فهمه، فيهدمه من خلالها. هذه الأيديولوجيا هي مخيفة إلى حد حجب نظر الأطفال عمّا يقترفه الداعشي كي “لا يرى ما يحدث من حوله”(ص26). وتقول يوفا أيضاً: “شهدت انشلاع أخي شفان عن صدر أمّي، ورأيته يتقدّم الأطفال، الذين لا يتجاوز أكبرهم الثالثة عشرة… قرأت رجاءه: “أعيدوني إلى أمّي”(ص36). تقرأ يوفا الواقع من خلال رؤيتها السيكولوجية الذاتية، الناتجة عن رؤية موضوعية، مستمدة من هموم الواقع. يبدو استجداء الطفل المستمد من استخدام فعل الأمر “أعيدوني”، الموجّه إلى المتوحش، والذي تقدّر يوفا شعور أخيها به ناتج عن طفولته التي تخشى مغادرة موطنها المهفهف. يحرم الداعشي الطفل من أمّه، فيمنع عنه جنته، وملاذه الدافء. يُكره شفان على الانفصال عن أمّه، كما يُكره غيره من الأطفال، وهذه الرؤية السيكولوجية تجسّد واقع أطفال مماثلين وقعوا  في قبضة داعش.

وتهيمن هذه المشاهد التي أوردناها على مدى الرواية، وكلّها نستقبح من خلالها همجية المعادي، وتخلّفه. فمن خلالها يدرك القارىء أنّ الحرب لم تقم من أجل حلول الإسلام موئل الأخلاق، إنّما من أجل تشريد مفاهيم يحث عليها، ومن أجل إضلال رأي  يستجير بها. يستغل الداعشي أي فرصة ليثور، فيستكين الآخر مرغماً. إذا، الدين لم يحمل الداعشي إلى الطريق الصحيح، وأيّ عملية مدافعة من قبل معانديه يعتبرها افتراء. يستحيل المقارنة بين المسلم المحمدي المؤمن بكتاب الله وشرائعه، وبين الداعشي التكفيري لأنها أشبه بموازنة قائمة بين الجنة والنار، أو بين الملاك والشيطان.

ونقرأ مثل هذا التعارض بين أديولوجيتين في أثناء الحديث عن سيما التي اختارها رجل أربعيني. تقول يوفا:”رجل ملتح، عمره بحدود الأربعين… اختار سيما التي تبلغ من العمر تسع سنوات… ثارت سيما…: _لا، لن أذهب… لا. …خبطت سيما رأسها بالحائط مرات متتالية… إلى أن فقدت الوعي”(ص131). يضع السرد المكر مقابل  البراءة، فالداعشي يرهب طفلة، فتستشعر خطورة ما سيداهمها. يبدو أنّ  الداعشي يحسب انفراده بطفلة طبيعيا، وهذا ما لم توافق عليه الفتاة التي بدت مصدومة، وقلقة من بريق تجهل هويته، وقد خلب بصر مُدمّرها. تبدو الفتاة عاجزة، ولا تملك أيّ قوة تمكّنها من تجاوز مأساتها، لذلك تختار الموت، كي تخلّص نفسها من هذه الورطة. يرسّخ ما ورد صورة عن التحدّيات التي ستكون عليها أي فئة، إذا سيطرت داعش على أمكنتها.

بعد معاينة تلك التفاصيل سيسأل القارئ أي مستقبل ينتظرنا، وهل سيستطيع الإنسان أن يكون حضاريا في خضم هذا الواقع المشين؟! إنّ التخلّف الناتج عن قراءة الدين بشكل خاطئ، وخاضع لمصلحة دنيئة، كفيل في تردي المجتمع. إنّ وجود هذا الإرهاب هاتك الحرمات، وهادم كل حضارة ومدنية يسيطر عليها أمر في غاية الخطورة.

يستشعر السرد في رواية “على مائدة داعش” الأزمة، ويتطيّر منها، فيدعو إلى نصرة المغلوب، ويقدّم التبريرات من خلال المشاهد التي أوردنا بعضها، ولمزيد من اليقين، سنتحدّث عن إرهاب الداعشي للرجل، وبشكل سريع، لأنّ النص ركّز على إرهاب الداعشي للمرأة.

تقلّ المشاهد التي تصوّر إرهاب الداعشي للرجال، لذلك يبدو أنّ حضور الرجل كان بمثابة توطِئة للحدث الأساسي، أقصد تعنيف الداعشي للإيزيديات. ويمكن أن نلقي الضوء على بعض ما ورد عن الرجال الذين قُهِروا على يد التكفيريين.

يتجلى ظلم الرجال من خلال التواتر(23). تقول يوفا: “يجب أن نخلي البيت، الآن، إنهم قادمون، ردّدها أبي تكراراً”(ص13). يبدي التواتر هنا حالة التوتر التي تعتري الأب الذي شاء أن يفرّط ببيته، كي يحفظ سلامة أسرته عبر الهروب، وهذا ما جعله يكرّر فكرة ضرورة إخلاء البيت. تقتضي عملية تدارك الأخطار الكثير من الحذر والاحتياط، الأمر الذي يفرض ضرورة الإسراع. يشير التواتر المستخدم هنا إلى سوء الوضع الأمني، كما يبدي كم أنّ عملية التحرّر، والفرار من العدو باتت ملحة.

وتسترجع(24) يوفا عملية قتل أبيها. تقول: “تحاصرني ذاكرتي الصاخبة بالعويل… نحمل أغراضنا، نركض… أنزلوا أبي قتلوه”(ص167). ومثل هذا حصل بزوج دلدا الذي يُقطع رأسه، لأنّه لا يغيّر دينه. تقول دلدا مسترجعة أيضا: ” في ذلك اليوم المشؤوم، حين رفع أحد العناصر الذين هاجمونا، ساطوره بوجه زوجي، عندما رفض الدخول في دينهم… كدت أتقيّأ جنيني، وأنا ألاحق كتلة رأس زوجي المتدحرجة أرضاً”(ص107 و108). وتروي أم سليمان ليوفا أحداثا تسترجع فيها ما حصل في بيت أبي خليل: “لقد قتلوا أبناءه الثلاثة، بحجة عدم إقامة الصلاة”(176). يستفيد السرد من الاسترجاع، ليشيع جو الكآبة، الناتجة عن قتل رجال رفضوا الانضمام إلى التكفيريين. وقد ترك قتل الرجال هذا ذيوله السلبية على أسر، كانت رعايتهم لها تظلّلها. يتيح الاسترجاع لمخيلة المتلقي التمدّد، فتستسهل التزوّد بمضامين قبيحة، صلتها وطيدة مع مرجعيته الحقيقية.

فإذا كان الإسلام مؤسّسا للحضارة، وسببا لبقاء نعمتها، فإنّ كل ما يصدر عن الداعشي يؤدي إلى التخلّف، والدمار. ترفع الرسالة المحمّدية من شأن الخليقة، وهذا ما لم يتحلّ به التكفيري، ولعلّ فيما ورد حض على مواجهة هذا العدو الغاشم بأقسى أنواع السبل، كي لا يستمر قطع رؤوس الأبرياء، ولا تتفاقم مشكلة استباحة المحرّمات من دون أي رادع ديني.

 

خلاصة

ترتكز دراستنا لرواية “على مائدة داعش” على المنهج البنيوي السردي في أثناء تحليلها، و تفيد أحياناً من المنهج الأسلوبي.

وقد تمّ تقسيم العمل إلى أربعة عناوين رئيسة. بيّن العنوان الأوّل العلاقة القائمة بين مضمون الرواية وعنوانها محدّدا الصلة الوطيدة بينهما، ذلك أنّ غالبية مشاهد النص، هذا إذا لم تكن جميعها ، تحيلنا إلى عنوان الرواية، وتفضي بنا إلى المسار ذاته. فأيّ تصرف يقوم به الداعشي يعكس شهوته للمرأة، لذلك لا ينفصل تفكير المتلقي عن هذا الموضوع.

أمّا العنوان الثاني، فقد ركّز على إرهاب الداعشي لبطلة الرواية يوفا. وقد تجلى ذلك من خلال التقاطب المكاني، ومن خلال الأشياء المحيطة بعالمها سواء داخل السجن أم خارجه. وساهم التعبير المباشر الذي يقطعه السرد، كذلك المناجاة في إبراز الظلم الذي تعانيه الضحية.

كما تجلت أيديولوجيا الداعشي الفتاكة والتعسّفية من خلال إرهابه يوفا. ونستخلص من السرد أيديولوجيا يوفا الرفيعة الخُلُق، المناقضة لأيديولوجيا عدّوها الداعشي. فيوفا تمشي بقدميها إلى حتفها، ورضاها بالموت، وتفضيله على الحياة المشينة، إنّما يشير إلى استقامتها، وارتقائها.

وتؤدّي الرؤية السيكولوجية الموضوعية، أو الذاتية دورا فاعلا في إبراز الواقع النفسي السيء الذي باتت عليه يوفا. وتتولد رؤيتها السيكولوجية من لحظاتها المتشابهة المؤلمة في السجن، كذلك من شعور الغبن الذي لازمها خارجه. ويمكن أن ينطبق مثل هذا الكلام على أخريات غيرها، كنّ من الشخصيات المشاركة في القص.

كما تُبرز الحدود القائمة بين الداخل والخارج ذلك القهر الذي تعاني منه الشخصيات، بعدما استحال عليها اختراق قضبان السجن.

ويرصد العنوان الثالث: “إرهاب الداعشي لإيزيديات، ومقاومتهن له” واقع المرأة الإيزيدية سواء أكانت أمّا أم عزباء، كبيرة في السن أم صغيرة.

ويوظف السرد الحلم لخدمة نموّه، فليلاف ينبئها حلمها أنّ واقعاً صعباً، سيفتك بمحيطها.

وتقدّم خلاصة الأحداث واقع شيرين المرعب التي تقتل مغتصبها، ثمّ تقتل نفسها بعدما وجدت أنّ الموت هو السبيل الأنقى، وقد سدّت أمامها منافذ الأمل.

وتواجه أيديولوجيا المرأة الراقية الخُلُق أيديولوجيا الداعشي السيّئة التي تسعى لتسليع المرأة، وتدميرها، وحرمانها من دورها الريادي الفاعل في المجتمع.

وتحضر الأشياء المكوّنة من الثياب المغرية تلك التي تلبسها الإيزيدية مرغمة لإرضاء شهوة الداعشي، الأمر الذي يتيح استيعاب بهيمية التكفيري، المتفلّت من المقاييس الدينية الإسلامية.

وتُستَشرَفُ الأحداث، وهذا ينقلنا إلى توقعات الإيزيديات القاتمة، الصادرة عن نفسهن الكئيبة.

ويرصد العنوان الرابع: “إرهاب الداعشي للرجولة والطفولة” طريقة قتل الداعشي للرجال، وكيفية سلخه الأولاد عن أمهاتهم، وتجويعه لهم. وهذا يتيح فهم أيديولوجيا الداعشي الظالمة، المحقّرة لبني البشر.

ويحضر التواتر ليبرز الأخطار المريعة التي يتعرّض لها الرجال الإيزيديين وأسرهم. كما يمدّ الاسترجاع خطوطه ليضيء أحداث السرد الأساسية، فيتحدّث عن اغتيال رجال أمام زوجاتهم.

إنّ تخصيص رواية لكشف النقاب عن غريزة الداعشي، هدفها إماطة اللثام عن نوايا  مستبد ينتهك حقوق الإنسان. ولعلّ في ما ورد دعوة إلى تحصين الجبهات ضد هذا العدو الغاشم. لعلّ النص يسعى لردع أي قوى تدعم الداعشي، أو تؤيّده، أو تختار الحياد. إذ يؤكّد استقراء كافة الأحداث هلاك أي مجتمع يهيمن عليه الداعشي. وهذا يحمل تنبيها لكلّ الأقطاب المفكّرة من أيِّ خطر داهم، يمكن أن يُصار إليه في حال لم تُواجَه تلك القوى الغاشمة.

 

فهرس المحتويات:

1_زهراء عبدالله، على مائدة داعش، بيروت، دار الآداب، ط1، 2017.

و”داعش، هي الصفة التي أطلقت على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام… ونستخدم “الدعشنة”…يفيد… القوة والشدة والغلظة، في السبي والقتل والتهجير”.

غسان الخالد، داعش من خلافة الدولة إلى دولة الخلافة،بيروت، القرات للنشر، ط1، 2015، ص 81.

2_ اهتمت اللسانيات”بدراسة الجملة ومكوّناتها واعتنت خصوضا بوضع مبادئ القواعد اللغوية”… ،ديجك وهو يتطلّع إلى النص (الدّال) ووظيفته التي تستغل النظام اللغوي لتخرج إلى نظام آخر يمكّن النص من القيام بوظيفته الإتصالية لم ينس النظام اللغوي ودراسته. ويتحدّث مولينيه عن الجانب الدلالي، ويعتبره هو الجانب الذي يهمّ الأسلوبية. يرى أنّ المفردات لها دورها “في إنتاج المعنى داخل النص. لا سيّما وأنّ مسألة المعنى لا تقتصر على المفردات، وانّ المعنى يتّصل بالدلالة significativité  بصلة جدلية رهانها التمثيلية، أي بالنتيجة القيمة الأسلوبية”. ويشير مولينيه إلى”أسلوبية علم تراكيب الجمل…(التي) تولّد انطباعا خاصا في المتلقي: وهو الأثر”.

تان أ فان ديجك، النص بناه ووظائفه، مقدمة أوّلية لعلم النص، ترجمة جورج أبي صالح، العرب والفكر العالمي، ع 5، 1989، ص64.

علي زيتون، النص الشعري المقاوم في لبنان البنية والدلالة، بيروت، اتحاد الكتّاب اللبنانيين، ط1، 2001، ص19.

جورج مولينيه، الأسلوبية، ترجمة بسام بركة، بيروت، المؤسسة العربيةللدراسات والنشر، ط1، 1998، ص112 و60.

3- التقاطب: “وتأتي تلك التقاطبات عادة في شكل ثنائيات ضدية تجمع بين قوى او عناصر متعارضة بحيث تعبّر عن العلاقات والتوترات التي تحدّث عند اتصال الراوي بأماكن الأحداث”.

حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 2004، ص33.

ويُدرس في التقاطب الانتماء# الانسلاخ، المضاء# المظلم، مكان ضيق مغلق# مكان مفتوح واسع. وتحدّث غاستون باشلار عن جدلية الداخل والخارج… .

غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، بيروت، المؤسسة الجامعية، ط4، 1996، ص144 و170، و191، و207.

4_”سنعتمد تقسيم أوسبنسكي الناقد السوفياتي ل “وجهة النظر”، وهي تعني الموقع الذي يتموقع به الراوي ليتجه نحو عالمه الروائي، فينتج نصا سرديا، وقد سماها البعض زاوية الرؤية. وقد سعى أوسبنسكي إلى معاينة المواقع من خلال ثلاثة مستويات”:المستوى الأيديولوجي، المستوى التعبيري،  المستوى السيكولوجي.

أمّا بالنسبة للمستوى الأيديولوجي ( Ideologique)، فيتم التحليل على هذا المستوى من وجهتي نظر : إحداهما داخلية يبثها الراوي في نصه على لسان شخصياته، وثانيهما خارجية نستشفها من خلال مضمون الرواية بشكل عام. و”قد يختار الكاتب أن يتحدّث بصوت مخالف لصوته، وقد يغيّر منظوره في عمل واحد _ أكثر من مرة ، وقد يقيّم من خلال أكثر من منظور”.

تتعدّد الأصوات في الرواية الواحدة، وهي عند أوسبنسكي تتجلى من خلال ما يأتي:

أ_ تتعدد المنظورات داخل النص.

ب_ ينتمي المنظور مباشرة الى شخصية من شخصيات السرد.

ج_ تتوافر ايديولوجيات في النص، ويمكن إدراكها من تصرّف الشخصية.

سيزا قاسم، بناء الرواية،  بيروت، دار التنوير، ط1، 1985، ص185 و186.

ولمزيد من المعلومات راجع: لميس حيدر، تشكل العالم الروائي، أطروحة أُعِدَت لنيل شهادة الدكتوراه. ص24.

5__المستوى التعبيري(Phrasiologique): يُعنى هذا المنظور بأساليب التعبير، التي يستخدمها الراوي في خطابه، الذي تتحكّم به صيغتان أساسيتان، هما:  السرد ((Narration، والعرض (Représentation).

يكون المؤلّف في الصيغة الأولى مجرد شاهد، يقدّم الأحداث، من غير أن تتكلّم الشخصيات. أمّا في الصيغة الثانية، فتهيمن أقوال الشخصيات في أثناء جريان الأحداث . بمعنى آخر تكون صيغة الخطاب المسرود (Narrativisé) عبر مراقبة الرّاوي الكلية، أما صيغة الخطاب المعروض، فلا وجود للراوي فيها.

ويفرق النحو التقليدي بين أسلوبي التعبير المباشَرُ (=المنسوب)((Rapporté، وغير المباشر (=المنقول) (Transposé) اللذين يتصف الأوّل منهما بتقديمه خطاب الشخصيات بحرفيته، بينما يعمد الثاني إلى تفسير الكلام.

  1. Todorov, Les catégories du récit littéraire, in “communication” n°8, Seuil 1966, p143.

و سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط2، 1993، ص172و187 و198. وسيزا قاسم، بناء الرواية، ص 218 و219.

6_المناجاة (soliloque ) “هي صوت الشخصية الضمني الذي يعلو ليعلن عما في اعماقها من هواجس وافكار. ويمكننا تصنيف هذه التقنية في باب التفكير بصوت عال، تسمع به الشخصية صوت نفسها”.

لميس حيدر، م.س، ص295.

7_ المستوى النفسي (Psychologique): يستفيد السرد بما فيه من أحداث زمكانية تقوم بها الشخصيات من المنظور النفسي، الّذي يقسّمه أوسبنسكي إلى قسمين، هما: المنظور الذاتي، والمنظور الموضوعي. ويقول في هذا المجال: “عندما يصوغ الكاتب بناءه القصصي يختار بين طريقتين: أولاهما، أنّه يستطيع أن يبني أحداثه وشخصياته من منظور ذاتي، من خلال وعي شخص ما، أو عدة أشخاص. وثانيهما، أنّ يستخدم معطيات إدراك وعي أو أكثر، أو يستطيع أن يستخدم الوقائع كما هي معروفة له هو، وقد يذهب إلى استخدام الطريقتين في توافق أو توال”.

Boris Uspenki, A poetics of composition  , the structure of Artistic text and typology of a composional from, trans. Valentina Zavarin and susan Witig, Berkeley .  University of California Press, 1973, P 81.

8_ يدل المأكل والمشرب على وضع الفرد، أو المجموعة المسجونة. وتقول أيضاً: إنّ الاشياء التي تملأ الحيز تعطيه معنى. تقول سيزا قاسم عن الأشياء: نرى أنّ المكان ليس حقيقة مجردة، إنما هو يظهر من خلال الأشياء التي تشغل الفراغ أو الحيز”.

سيزا قاسم، بناء الرواية، ص 140 و136.و ص102.

ويقول بوتور: “إنّ وصف الأثاث والأغراض هو نوع من وصف الأشخاص الذي لا غنى عنه، فهنالك أشياء لا يمكن أن يفهمها القارئ ويحسها إلا إذا وضعنا أمام ناظريه الديكور”. ويقول أيضا: إنّ للأشياء تاريخا مرتبطا بتاريخ الأشخاص، لأنّ الإنسان لا يشكّل وحدة بنفسه”.

ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، ط1، 1982، ص، وص53 وص 55.

9_ الاستباق: ( (proplesse الاستباق عكس الاسترجاع، يستشرف  أحداثا لم تقع بعد. وقد يحصل ذلك التوقع، أو يخيب.

Gerard Genette,Figures III, p105_114.

وراجع أيضا تودوروف، الشعرية، المغرب، دار توبقال، ط2، 1990، ص48.

10_ كما حصل مع يوفا.

11_ الحدود واجتيازها: تفصل الحدود بين مكانين متعارضين أو متضادين، ويستحيل اختراق هذا الحد، أو يصعب. يقول خالد حسين حسين أنّ مفهوم الحد “وضعه السيميائي الروسي يوري لوتمان والحد هو “الخط الأحمر” الذي يفصل بين مكان وآخر، وهو يشكّل الإنذار الذي يحذر به مخترق المكان أو في نيته فعل الاختراق. ويختلف الحد باختلاف الأمكنة، وهو كذلك وثيق الارتباط بمفهوم التقاطب”.

خالد حسين حسين، شعرية المكان في الرواية الجديدة، الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، 1993،ص145.

12_ الأمير سيف متحسّسا مؤخرتي، ابتعدت عنه، ثمّ رفع إصبعه مهدّدا، وأكمل:_إياك أن تتمنعي”(ص141). تبيت يوفا حمزة ورفيقه بعدما أهداه إياها الأمير(162ص). يقول حمزة لصديقه: “عيوني، انت من بعدي… وسوف تفعلين كل ما أطلبه منك، عيوني”.

زهراء عبدالله، م.س، ص164.

13_ محمود حسن الجاسم، نزوح مريم، بيروت، دار التنوير، ط1، 2015، ص113.

14_ الخلاصة (sommaire ): تختصر أحداثا جرت في أشهر وسنين طويلة، وتقدّمها في كلام قصير من دون اللجوء إلى تناول التفاصيل. لذلك تكون في الخلاصة مساحة السرد > الحدث.

Gerard Genette,Figures III, p130.

التلخيص: تلخص أحداث حصلت في زمن ممتد وأوسع من مساحة النص، فقد تجمع الأحداث أو في أسطر أو صفحات قليلة، ويقدّم السرد حينها خلاصة أخبار الشخصيات، أو خلاصة الأحداث.

لميس حيدر، م.س، ص73.

15_ الحلم: “يتناول الحلم رغبات المرء الدفينة، وكل مكبوت لديه، وهو عبارة عن هوجس أو أفكار تراود المرء في يومه أو ماضيه، قد يفصح عنها أو يكتمها بسبب قيود العقل الجافة، فإذا بها تتداعى بشكل لا واع، أو لا إرادي في أثناء النوم”.

لميس حيدر، م.س، ص 296.

16_ إدوار الخراط، مهاجمة المستحيل، دار المدى للثقافة والنشر، ط1، 1996، ص50.

17_ ورد: “كانت صابرين تأخذ السكر… تعقده، وتصنع منه مزيلا للشعر، تبيعه للنساء… قالت:”اللاجئون لهم نفس أيضا، يحبّون اللحم الأبيض… يمضون وقتهم مع نساء… النفوس مقبوضة، لا يريحها سوى التحام الجسد بالجسد، ليس لنا هنا سوى بعضنا””.

شهلا العجيلي، سماء قريبة من بيتنا، بيروت، منشورات ضفاف، ط2، 2016.

18_(المقصود يوفا).

19_  محمود حسن الجاسم، م.س، ص33.

20_سورة الروم، آية 21.

21_سورة الأعراف، آية  189.

22_ “وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا”.

سورة النبأ، آية 8 و9.

23_التواتر التكراري النمطي: وفيه الخطاب الواحد يحكي مرة واحدة أحداثا عديدة، ولكن متشابهة.

  1. Genette,Figures III, Paris, Seuil,1972 , p145.

وتودوروف ، الشعرية، ص49، وسعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، ص78، ومراد عبد الرحمن مبروك، بناء الزمن في الرواية المعاصرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص123. ولميس حيدر، ص297.

24_  الاسترجاع: تستعيد الشخصية أحداثا حصلت في الزمن الماضي، لها أهميتها، أو لها دلالتها في تقدّم الأحداث.

لميس حيدر، م.س، ص294 .

 

فهرس المصادر والمراجع:

أولاً: المصادر:

1_ عبدالله، زهراء، على مائدة داعش، بيروت، دار الآداب، ط1، 2017.

 

ثانياً: المراجع العربية:

1_بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 2004.

2_ الجاسم، محمود حسن، نزوح مريم، بيروت، دار التنوير، ط1، 2015.

3_حسين، خالد حسين، شعرية المكان في الرواية الجديدة، الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، 1993.

4_حيدر، لميس، تشكل العالم الروائي، أطروحة أُعِدَت لنيل شهادة الدكتوراه.

5_ الخالد، غسان، داعش من خلافة الدولة إلى دولة الخلافة،بيروت، القرات للنشر، ط1، 2015.

6_ الخراط، إدوار، مهاجمة المستحيل، دار المدى للثقافة والنشر، ط1، 1996.

7_ العجيلي، شهلا، سماء قريبة من بيتنا، بيروت، منشورات ضفاف، ط2، 2016.

8_زيتون، علي، النص الشعري المقاوم في لبنان البنية والدلالة، بيروت، اتحاد الكتّاب اللبنانيين، ط1، 2001.

9_ قاسم، سيزا، بناء الرواية،  بيروت، دار التنوير، ط1،1985.

10_ مبروك، مراد عبد الرحمن، بناء الزمن في الرواية المعاصرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.

11_ يقطين، سعيد، تحليل الخطاب الروائي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط2، 1993.

 

ثالثاً: المراجع المترجمة:

1_ باشلار، غاستون، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، بيروت، المؤسسة الجامعية، ط4، 1996.

2_ بوتور، ميشال، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، ط1،1982.

3_ تودوروف، الشعرية، المغرب، دار توبقال، ط2، 1990.

4_ ديجك، فان تان أ، النص بناه ووظائفه، مقدمة أوّلية لعلم النص، ترجمة جورج أبي صالح، العرب والفكر العالمي، ع 5، 1989.

5_ مولينيه، جورج،  الأسلوبية، ترجمة بسام بركة، بيروت، المؤسسة العربيةللدراسات والنشر، ط1، 1998.

 

رابعاً: المراجع الأجنبية:

1_Genette. Gerard  ,Figures III ,Paris, Seuil,1972.

Todorov.T, Les catégories du récit littéraire, in “communication” n°8, Seuil 1966. 2_

3_ Uspenki.Boris, A poetics of composition  , the structure of Artistic text and typology of a composional from, trans. Valentina Zavarin and susan Witig, Berkeley .  University of California Press, 1973.

د. لميس حيدر:
_ دكتوراه في اللغة العربية وآدابها؛ عنوان الأطروحة: تشكّل العالم الرّوائي عند حسن داوود حتى العام 2000
_ دبلوم دراسات عليا؛ عنوان الرسالة: تحقيق (تعليقة لطيفة) للشرف الأيوبي الأنصاري
_ أستاذة في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية
_ كتبت عدداً من القصص القصيرة والأبحاث الأدبية.
_ صدر لها رواية “ناي لعصفور الجنة”، ومجموعة قصائد شعرية.

شاهد أيضاً

الدكتورة هبة العوطة: دراسة حول رواية “والهة على درب زينب”

دراسة حول رواية “والهة على درب زينب” الدكتورة هبة العوطة* بسم الله الرحمن الرحيم ،والحمدُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *