الرئيسية / أبحاث / الهوية، والبعدان الطبقي والفكري في رواية “ساق البامبو”

الهوية، والبعدان الطبقي والفكري في رواية “ساق البامبو”

د. لميس حيدر(*)

مجلة المنافذ الثقافية، بيروت، دار العودة، ع 8، 2014.

تلخيص الرواية: يولد عيسى من امرأة فلبينية اسمها جوزفين، بعد أن يتزوجها الكاتب راشد الكويتي. عندما تعرف والدة الزوج أمر زواج ابنها من خادمتها، وإنجابها منه، تشهر غضبها، وتقرر ضرورة مغادرة الخادمة مع ابنها، لئلا يؤثر ذلك سلبا على اسم العائلة. خشيت الأم غنيمة ايضا على بناتها، وعلاقاتهن مع أزواجهن. لقد عدّت أنّ من ارتبطوا بهن لن يرضوا زواج ابن عمهم من خادمة آسيوية.

يرضى راشد رغما عنه بأمر الانفصال، وتسافر جوزفين مع ابنها إلى الفلبين، فتعيش هناك مع والدها ميندوزا القاسي، ويروح يعمل عيسى معه. ثمّ تتزوج  جوزفين من رجل ثان بعد راشد، فتنتقل رعاية عيسى إلى خالته. لقد كان لآيدا ابنة اسمها ميرلا، هذه الفتاة أحبها عيسى مع مرور الأيام. إنّ ميرلا هي نتيجة علاقة آيدا مع رجل غير معروف.

أما الخالة آيدا، فقد استشرست على والدها، الذي راح ينعتها بالعاهرة عندما عرف أمر حملها بطريقة غير شرعية. وميندوزا الأب، هو الذي أرسلها مسبقا، وفي سن صغيرة لتعمل في الحانات الليلية، وتعود إليه بالمال، الذي يؤمن لهم حاجياتهم كأسرة.

ظلت جوزفين تردّد على مسامع ابنها أنّه سيعود يوما إلى الكويت، ليعيش بين أحضان أسرته المسلمة الثرية. ويضطر أن يتنقل من عمل إلى آخر في الفلبين، هربا من العمل مع جده ميندوزا الظالم. وعندما يحين موعد سفره إلى الكويت، يفعل ذلك مجبرا، ويرضخ لرغبة أمّه. يستقبله في الكويت غسان صديق والده، ثم تدخله إلى بيتها الجدة غنيمة، وتقدّم له غرفة مرتبة، غير أنّها تعامله مع بناتها كخادم، وترفض أن تعترف بهويته.

كانت للجدة سطوة مخيفة في منزلها، لذلك يسعى عيسى للتقرب منها، عبر تدليك ركبتيها، وهو الذي كان قد اعتاد ممارسة هذا العمل، وقد كان يدلك جده ميندوزا، كما دلك بعده تشانغ، الذي آواه، وسكن معه في منزله، بعدما ترك العمل مع جده. ثمّ إنّ عيسى مارس مهنة التدليك في مركز صيني. ويتعرف عيسى إلى خولة أخته من ابيه، وتعلّمه الطهارة، ويتوجه إلى المسجد للصلاة، وهناك يتعرف إلى ابراهيم سلام المترجم، والصحفي.

لقد شاهد عيسى كيف أنّ جدته تكثر من الصلاة في شهر رمضان، وكيف يسود استرخاء ساكني المنزل طوال النهار في هذا الشهر،  نتيجة الصوم المرهق لقوى الجسد. ولم يستطع عيسى أن يتقدّم في علاقته مع جدته، وقد شعر بيأس مرير عندما قررت الجدة مغادرة خولة أخته البيت في حال بقي عيسى فيه. إنّ قرارها الجازم هذا دفعه لمغادرة المنزل، والتفتيش عن عمل. غير أنّ إحدى عماته تُضَيق عليه فرصة العمل في مطعم، علّها بذلك تتمكن من طرده من الكويت، بعد أن يفلس، ولا يجد ما يسد رمقه.

يبدأ عيسى الكتابة، ثمّ يغادر الكويت، ويعود إلى الفلبين، ويتزوج من ابنة خالته ميرلا، وينجب منها، ويعيش مرتاح البال.                                                                          (*)أستاذة جامعية  lamis_haidar@hotmail.com

تمهيد:سأرصد في عملي هذا الشخصيات، وسأعالجها ملتزمة بالعنوانين الآتيين:

أ_هوية عيسى المفقودة، و تقاليد المجتمع العربي الممزقة للأفراد.

ب_ نموذج الشخصية السيكولوجية المرهوبة في رواية “ساق البامبو”.

فلبينية، ومواجهتها لمستغلها.

سأرتكز في أثناء دراستي العنوان الأوّل على ما اعتمدته من تقنيات في أطروحة الدكتوراه عند تحليلي الشخصيات، والتي موضوعها: “تشكّل العالم الروائي عند حسن داوود حتى العام 2000″(1).

ينشأ السرد من خلال وجود الشخصية، أو ال(فاعل)، لذلك اقترح غريماس تصنيفها بحسب ما تفعل، وأطلق عليها اسم “العامل”. وتنتظم المشاركة بين الشخصيات عبر أزواج (فاعل/ مفعول به، واهب/موهوب، مساعد/معارض).  لقد استفاد غريماس من الدراسات الميثولوجية لتحديد ماهية العوامل (Les actants) في الحكي. فالجملة هي عبارة عن مشهد، والكلمات فيها لها وظائف، وتتألف من فاعل=الذات، ومفعول=الموضوع. وقد طور غريماس أبحاث “فلاديمير بروب” الذي وزع الوظائف على سبع شخصيات رئيسية، يؤديها الممثلون في الحكايات العجيبة(2). يقول “غريماس” إن العوامل تمتلك إذن قانوناً “ميتالسانيا” (Métalinguistique)، بالنسبة للممثلين، إنها تفترض بالإضافة إلى ذلك التحليل الوظيفي، أي التكوين العام لدوائر نشاطها(3).

يرى جان ميشال آدم في كتابه “الحكي” (Le récit)، أنّ غريماس حاول إقامة علم دلالة بنائي للحكي، وذلك بعد أن طوّر ما توصل إليه بروب منذ سنة 1966. وقد وضع في هذا المجال نموذجاً للتحليل يقوم على ستة عوامل تأتلف في ثلاث علاقات:

1_ علاقة الرغبة(Relation de desir):

تجمع هذه العلاقة بين رغبة “الذات”، وما هو مرغوب فيه “الموضوع”. ترغب الذات في إقامة اتصال مع الموضوع، لتحقيق رغبة ما. وتنطلق رغبة الاتصال، أو الانفصال من البطل، وتعود إلى ذاته، أو قد تعود إلى العالم الآخر، وقد يحدث الاتصال، أو ينشأ خلافه. وهذا يسميه “غريماس”: البرنامج السردي ((Programme narrative(4).

2_ علاقة التواصل(Relation de communication):

يحرّك ذات_ البطل محركاً، وهذا يسميه غريماس “مرسِل” (Destinateur)، وتكون موجهة هذه الرغبة ل “مرسَل إليه” (Destinataire). والذات الراغبة في تحقيق موضوع ما، قد تستطيع تحقيقه، وقد لا تتمكن من ذلك. وعلاقة التواصل هذه قد تجري بين البطل، وذاته، وهو حينها يكون المرسِل، والمرسَل إليه في آن واحد. وقد تكون بين طرفين مختلفين، كالفرد، والمجتمع مثلا.

 

1_لميس حيدر، تشكّل العالم الروائي عند حسن داوود حتى العام 2000، ص139.

2_ حميد الحمداني، بنية النص السردي، بيروت، المركز الثقافي العربي، آب 1991، ص33.

3_Geimas, SémantiqueStructurale, recherche de méthode, Paris, Larousse 1966. P.173.

4_Op. cit, P.60.

وللتوسع في فهم هذا البرنامج السردي يمكن الرجوع إلى المقدمة التي كتبها غريماس، وهي بعنوان:

Les aquis et les projets-in- introduction à la sémiotique narrative et discursive, J.Countés. Hachette, 1976, p.5.

3_ علاقة الصراع(Relation de lute):

قد تحقق الذات الساعية رغبتها، ويساعدها على تحقيقها عامل مساعد (Adjuvant).

يعين هذا العامل الذات، ويهيء لها السبل التي تمكّنها من تحقيق رغبتها. ويقابل هذا العامل المساعد عاملا معارضاً ( Ľ opposant)، وهو الذي يعرقل جهود الذات الساعية إلى هدفها. وتتوضح علاقة الذات بموضوعها من خلال الرسم الآتي:

 

المرسل                                                                           المرسل اليه

الذات        الموضوع

 

 

المساعد                                                                          المعارض أو المعرقل

ويشكّل هذا النموذج المكوّن من ستة عوامل رئيسية البنية المجردة في كلّ حكي، أو خطاب.

4_ العامل والممثل (Actant et Acteur):

العامل عند غريماس ليس هو الممثل دائما. فالعامل الواحد قد يمثل بشخصيتين، ممثّلين (Acteurs)، أو أكثر. وقد يكون مجرد فكرة كفكرة الدهر، أو التاريخ، وقديكون جمادا أو حيواناً. وهكذا تصبح الشخصية المجردة قريبة من مدلول “الشخصية المعنوية” في عالم الاقتصاد، لها مجرد دور ما، يؤدى في الحكي، بغض النظر عمن يؤديه(1). ويمكن أن يقوم الممثل الواحد بعدة أدوار، أو عدة عوامل. وقد تتعدد الذوات العاملة التي لديها رغبات متعددة حيال مواضيع كثيرة، الأمر الذي يؤدي إلى تعقيد القص، وهذا بدوره يتطلّب الدقة في التحليل الحكائي. وعدد العوامل محدود على الدوام في ستة، هي: (المرسِل – المرسَل إليه، الذات – الموضوع، المساعد- المعارض)، أما عدد الممثلين، فغير محدود.

يرسم غريماس هذه المسألة مشيرا إلى العامل، وفق الرمز (A)، والممثل وفق (a). ويمكن توضيح ذلك من خلال ما يأتي:

العامل                                                                    الممثل

 

 

A3        A2           A1                                          a3           a2             a1       

اقتربت مفاهيم بريمون من غريماس. وقد توسع هذا الأخير فيها، فاعتبر أنّ الحكي مجرد كلام، فأحداثه قد تتهيأ لها الشروط من أجل تحققها، ويسمى هذا نمط التحسين (Amélioration)، أو قد تعاكس شروط الإنجاز، وهذا يؤدي إلى الانحطاط (Dégradation).

سعى النقد الشكلاني الذي برزت فيه أبحاث “فلاديمير بروب”، وعلم الدلالة المعاصر مع “غريماس” إلى تحديد نوعية الشخصية من خلال أفعالها، وعلاقتها مع الشخصيات الأخرى في الحكي، كذلك من خلال سماتها، ومظهرها. هذا، وقد عرّف رولان بارت الشخصية الحكائية بأنها “نتاج عمل تأليفي(2)”، لأنّ هويتها تتوزع

 

1_ Geimas, Sémantique Struturale,p.181.

2_ Roland Barthes, Introduction àĽanalyse Structurale des récits, in”communication”, Seuil, 1977, p.74.

نتيجة الأوصاف والخصائص، لكن يبقى للقارىء دوره في تقديم صورة خاصة عنها، يكوّنها من خلال فهمه، أو وجهة نظره، التي قد تخالف وجهة نظر الأشخاص المتعاطين معها في القص. وهذا ما عبر عنه “فيليب هامون”، عندما عدّ الشخصية الحكائية تركيباً جديدا يؤدي فهمه القارىء، أكثر مما هي تركيب يقدّمه النص(1). وهكذا تدرس هوية الشخصيات من خلال ما يأتي:

أ_ ما يخبره الراوي.

ب_ ما تخبره الشخصيات نفسها.

ج_ ما يستنتجه القارىء من أخبار عن طريق سلوك الشخصيات(2).

هذا وقد تختلف صورة الشخصية الحكائية لاختلاف تحليلات القراء. فالشخصية في الرواية تكون بمثابة دال (ٍSignifiant)، عندما تتخذ عدة أسماء وصفات تلخص هويتها. وتكون بمثابة مدلول (Signifié)، وهذا يستنتج نتيجة ما يقال عنها، وما تقوله هي عن نفسها، وذلك يؤخذ من تصريحاتها، أو تصرفاتها. ويتحقق هذا الدليل(Signe) من خلال وجودها في النص، وهي لذلك تختلف عن الدليل اللغوي اللساني، الذي يكون وجوده جاهزا سلفاً. ولا ينزاح الدليل عن معناه الأصلي إلاّ في الاستعمال البلاغي. وفي هذا البحث سأدرس العوامل، ودلالاتها في بناء الشخصيات، كما سأدرس هوية الشخصية النفسية والاجتماعية.

أمّا العنوان الثاني: “فلبينية، ومواجهتها لمستغلها”، فسأتناول من خلاله آيدا، وكيفية استغلالها، ومن ثم سأوضّح العوامل النفسية التي دفعتها إلى الثورة ضد المستغل، الأمر الذي أدى إلى تحوّلها من امرأة خانعة، إلى امرأة مهيمنة، ومخيفة.

 

أ-_هوية عيسى المفقودة، وتقاليد المجتمع العربي الممزقة للأفراد:

 

نرصد في هذا المجال شخصية الرواية الرئيسة، وهي شخصية عيسى، الراغبة في تمتين جذورها الصلبة في هذا العالم، سواء في الكويت أو الفلبين، علّها بذلك تتماثل جذورها مع جذور شجرة “ساق البامبو”، تلك التي تستطيع أن تنمو، وتمتد عروقها

عميقا في الأرض أينما كان.

يدرك عيسى قسوة الحياة عليه، وهو في سن العاشرة، عندما تخبره أمه عن ماضيه.  يعرف منها أنّه وُلِد من أب كويتي ثري، وقد غادر الكويت معها عنوة، عندما كان صغيرا، بعدما رفضت جدته غنيمة زواج والده من أمه، وخشيت أن ينكشف أمر ذلك الارتباط. كما تعلمه أمه أنّه يعيش بشكل مؤقت في الفلبين(ص31)، ولا بدّ أن يعود يوما إلى الكويت. ولأنّ عيسى يعاني طوال الرواية، أحسب أنّ تسميته ترمز إلى معاناة السيّد المسيح.

يخرج عيسى مع جده ميندوزا ليعمل أعمالا مرهقة، وهو ما زال صغير السن(ص90). تلك الأعمال المضنية جعلته ينشد الحرية، ويتمناها سرا (ص106 و107). وقد استمر في العيش مع جده بعد انتقال أمه إلى بيتها الزوجي

1_ J. L. Domortier et Fr. Plazanet,Pour lire le récit, Ed. Daclot, 1980, p.12.

2- Roland Bourneuf et RéalQuellet,  l’univers du roman P.U.F,1975, p.181.

 

الجديد(ص106)، وقد كان الجد في تلك الآونة يستفيد من وجود ابن ابنته معه، ويطلب منه أن يدلّكه. كما صارت خالته آيدا تهتم به بعد انتقال أمه إلى بيتها الزوجي الجديد.

مؤلمة الحياة التي عاشها عيسى، ووالده واحد من الأغنياء.  لو أنّ راشداً أرسل لابنه مبلغا من المال، وبشكل دوري، لخفف عنه عبء الأيام قليلا. خطير حدوث مثل هذه الحالة الواردة في الرواية ضمن المجتمعات، وعدم الإفصاح عنها سيزيد المآزق، ويؤرق الناس المستضعفة.

أحسب أنّ راشداً و أسرته كانا قليلا الحيلة، وعديما الضمير، والوجدان. لم يكن راشد محروم العقل والعلم والدين، حتى يقال أنّه من السهولة بمكان أن تتحكم به آراء الجهلة والمتخلفين. كيف لا، وقد قال تعالى:”أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون(1)”.

لعلّ الرواية تريد التنبيه إلى اهتزاز يصيب الأفراد، لا سيما النابغين في المجتمع العربي، لذلك لا بدّ من معالجة مثل هذه المصائب، لتأمين توازن صلب متماسك، يسعى لأفول التخلف بمختلف أشكاله. يبدو أنّ الرواية تريد أن تقول أنّه على المجتمعات العربية أن تحد من أزماتها؛ فالتقدّم لن يتحقق عبر مظاهر جوفاء خالية من الاعتراف بحقوق الإنسان.

إثر انتقال عيسى في الرواية، مع أمه من الكويت إلى الفلبين، بعد أن ترفض أسرة الزوج بقاء الخادمة زوجة الابن بينهم، خشية من المحيط، تتعرض جوزفين، وابنها للظلم. لعل إيراد هذا الموضوع في الرواية، غرضه الدفاع عن حقوق المستضعفات الخادمات، اللواتي يتعرضن للتعنيف، والقهر، وإن بدرجات متفاوتة. وهنا نسأل كيف يمكن للأمي الفقير المهمّش(أقصد جوزفين) أن يتحمل تبعات عمل المتعلم الغني البارز في المجتمع (أقصد راشد)؟ يتم التستر على مثل هذا الظلم، ولا يجهر عنه لكن، هل يستطيع المثقف، أو المتعلّم أن يقدّر خطواته دائما، وأن يكبح جماح رغباته؟

وهنا قد يسأل المرء من سيحاكم القوي المتسلّط في حال اعتدائه؟ وهل المسؤولية تقع دائما على عاتق أرباب الخدم؟

أحسب أنّ الواعي يجب أن يُحمَّل المسؤولية، إذ عليه أن يستوعب من هو أقل إدراكا.

إن راشداً واحد من كثيرين الذين استشاطت لهفتهم لأنثى، فكانت فريسته. والمحاكمة هنا لا تقتصر على راشد وحده، إنّما تطال أسرته، والمجتمع، اللذين دفعاه إلى ارتكاب ذلك الخطأ المشين، وهو جرم التخلي عن واجباته الزوجية. ستبقى الكوارث تعيق نمو المجتمع، ما دام من المحرمات الحديث عنها، وما دام من المستحيل التحقيق مع أسر مغلقة على أسرارها. وأحسب أنّ هذا التكتم وهذا التعتيم، الذي تسببه الأسر المالكة،  يتوافق مع حاجياتها، وهذا بدوره يزيد الأزمات تفاقما.

ما ورد يثبت فكرة أنّ العلاقة بين أصحاب المنزل، والخادمين فيه الأجانب، وكل ما يمت لهم بصلة هي مؤقتة. إنّه أسلوب جديد من التهديد تعرضه هذه الرواية، وقد تكون الغاية من ذلك ألا يستسهل البعض الانغماس مع امرأة مستخدمة، أو حقيرة الواقع لا سند لها، ولا معين في هذا العالم.

1_القرآن الكريم، سورة المائدة، آية 50.

وقد حدّد عيسى أسباب أزمته، وقال إنّ ولادته من أبوين مختلفي الجنسية هو المشكلة. يقول: “لو ولدت لأب وأم كويتيين، مسلما…أستيقظ صباح كل يوم لأذهب إلى عملي الذي اخترته…أشكل جزءا من الكل، من دون أن أظهر بصورة الكومبارس…أنظر إلى الناس من حولي ولا أحتاج لأن أرفع رأسي إلى السماء كي أخاطبهم، ومن دون أن ينظروا إلى الأرض لينتبهوا إلى وجودي بينهم… أو لو ولدت لأب وأم فلبينيين، من طينة واحدة. أعيش مسيحيا، ميسور الحال..أو لو فقست من بيضة ذبابة منزلية(ص63)”. أي نوع من المأساة يعيش عيسى حتى تمنى أن يكون ذبابة، وأي حقارة يعاني منها، بل أي قهر يقضي على حسه بإنسانيته، وأحقيته بالوجود؟ كيف لا يتمنى ذلك ، لو لم يدرك أن أباه، وأمه قد ظلماه! لقد عاش عيسى في ظل أوضاع اقتصادية سيئة. لا شك أنّه كان على الأب حسب ما أراد عيسى ألا يخجل من مجتمعه، بسبب لون ابنه الأسود المغاير للون بشرتهم، ويهمل بذلك واجباته، ويمنع عن ولده حقوقه. لكن راشد الأب المثقف، والمتعلم لم يستطع أن يؤسس لمنطق يخرج عن أنماط موروثات مجتمعه. وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال الاستنكاري الآتي: هل يمكن أن يستقيم العالم، وأن يتطور في ظل عداء الإنسان لأخيه الإنسان بسبب لونه، أو جنسه، أو انتمائه الطبقي، أو الديني، أو العقائدي؟!

يصعب على عيسى أن يندمج مع مغايريه، وتضطرب ذاته لأنه “لا يشبه العرب في إلا في نمو شاربيه وشعر ذقنه بشكل سريع(ص17)”، كما يتخبط لأنه لا يدرك جيدا انتماءه الديني؛ فهو بعد أن يهمس أبوه بنداء صلاة المسلمين في أذنه اليمنى عند ولادته في الكويت، تحمله أمه إلى كنيسة الحي في الفلبين، لتعميده “مسيحيا كاثوليكيا”(1). لعل ما ورد يشير إلى عورات الأبوين، بغية بترها، أو العمل من أجل تقليصها، وحدِّها، والتعاطي مع الأبناء بشكل جدي.

يبدو أنّ المشكلة ليست إلى أي دين سينتمي، وبأيّ دين سيُقِر، إنّما المشكلة أن يعي والديه دورهما، وأن يؤسسا لابنهما مكانة إيجابية في خضم هذا العالم الصعب.  يبدو أنّ النص يدعو إلى ضرورة الاعتراف بالآخر، والإقرار بحقوقه، وإقامة ضوابط على الذات، كي لا يبني الفرد، وخصوصا الأهل تصرفاتهم على أسس واهية.

ويتولد الصراع النفسي في ذات عيسى من جراء تشكيكه في تصرفات والده. يقول: “أشك في أن ما قام به والدي كان رغبة صادقة في الزواج من أمي، لعله أراد أن

ينال ما اشتهاه وحسب(2)”.  لعل ما يورده مصطفى حجازي يعبر تعبيرا صادقا عن هذا الموضوع، أي أسباب ارتباط الرجل بالمرأة، وخصوصا العربي . يقول في هذا

1_يقول عن والديه في هذا الصدد: “لو أنهما اتفقا على شيء واحد.. شيء واحد فقط.. بدلا من أن يتركاني وحيدا أتخبط في طريق طويلة باحثا عن هوية واضحة الملامح..”. يتابع: “اسم واحد التفت لمن يناديني به.. وطن واحد أولد به، أحفظ نشيده…دين واحد أؤمن به”.وهو الذي كانت تضج في ذاته أسئلة عن أسباب تسمياته المتعددة. يقول:”اسمي Jose،، …ننطقه…هوزيه. وفي العربية يصبح…خوسيه. وفي البرتغالية…جوزيه. أما هنا، في الكويت… عيسى! … هوزيه، خوسيه، جوزيه أو عيسى… فمشكلتي ليست في الأسماء، بل بما يختفي وراءها… من يعرفون حكايتي… كانوا ينادوننيArabo”. كما يكره اسم عيسى مع الأيام.

سعود السنعوسي، ساق البامبو، بيروت، الدار العربية للعلوم، ط5، 2013، ص63،وص1و17و72.

2_ سعود السنعوسي، ساق البامبو،ص39.

ويقول في موضع آخر: “أفكر أحيانا في تلك الدقائق التي استغرقها الاثنان معا، راشد وجوزافين، على ذلك المركب، قبل أن يصبحا أبي وأمي. أي جنون هذا الذي يخلق من دقائق متعتهما بؤس حياتي بأكملها؟!”.

م. ن، ص63.

الصدد: “المرأة مجرد جنس، أو أداة للجنس ووعاء للمتعة(1)”. كم هو مؤلم أن يفكر الولد في أمّه وفاق هذه الطريقة، وأن يراها مجرد جسد، أو شهوة لوالده، كأنّه بذلك ينفي عنه صفة النبل الإنساني(2).

ألم يكن من واجب راشد، وهو الإنسان المثقف المنتمي إلى طبقة أرستقراطية أن يحرّك عقله البشري، ويحجّم غريزته البهيمية، ومشاعره النشطة حيال امرأة لا تناسب مستواه الاجتماعي؟ ألم يتبادر إلى ذهنه ما يمكن أن يطرأ على عيشه، وعيش جوزفين عندما يقترنان؟ ألم يكن من واجب راشد تأمين الحماية لابنه، الذي هو من صلبه بعد هفوته تلك؟ يرى عيسى أنّ والده اتصف بالأنانية، والظلم. لقد رضي راشد لامرأته وابنه ما لم يرضاه لأهله، لذلك أحسب أنّ أخلاق راشد بدت منحطة، فلم يتمتع بالنزاهة في التصرف، ولم يخدم سوى مصالحه في مرحلتين، ألا وهما: مرحلة أولى، وقد بدت كأنّها مجرد نزوة جنسية عابرة، وذلك عندما تزوج من جوزفين. ومرحلة ثانية تحققت حين رحلّا الزوجة مع ابنها إلى الفلبين. لقد انقاد أبوه لغريزة الذكورة مرة أولى، ولمحدودية مجتمعه مرة ثانية، فبدا في الحالين قصير النظر، وعديم الوعي، وهو الكاتب المفكّر، لذلك تبدت فرص خروج راشد من سجنه مستحيلة، بعدما قيدته أمه(3).

لعل النص أراد أن يبدي كيف أنّ شهوة المال، وسكين السمعة، يقضيان على أولويات الإنسان. لعله أراد أن يوضح كيف تؤسِّس الأطماع لمجتمع عربي متخلّف، نتيجة حقوق تصاغ في الكتب، وتظل حبرا على ورق، ولا يلتزم بها غالبا حتى مبتدعوها، وإن عاشوا في ظل تناقضات وتجاذبات مؤرقة، والقارىء يدرك من خلال بعض فقرات الرواية أنّ راشداً عاش متألما بعد ابتعاد ابنه عنه. وإذا سلّمنا جدلا بأنّ راشداً متعلم ومثقف، وكاتب مقالات، فكيف استطاع أن يناهض أفكاره، ويعتمد السلبية سبيلا له، ويتخلى عن أمانته، وصدقه مع امرأة لا حول لها ولا قوة، فيرمي ما قطعه لها من مواثيق وعهود يثبتها عقد زواج رسمي؟ لِمَ لم يعط الأولوية لكرامة البشري؟ وكيف استطاع الاستمرار في المعارك السياسية، وخوض غمار الحرب الفكرية من أجل نهوض المجتمع، وهو يسلب الآخر ما يستحق من دفء أسري؟ بمعنى آخر

1_ويتابع:”هذا الاختزال يؤدي مباشرة إلى نضج البعد الجنسي لجسد المرأة بشكل مفرط، وعلى حساب بقية أبعاد حياتها”.

مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، بيروت، معهد الإنماء العربي، ط2، 1980، ص224.

2_يقول عويضة: “مطالب الإنسان الأساسية في نظر الماركسية وفي ضوء الجبرية الاقتصادية يحددها ماركس في الغذاء والكساء والإشباع الجنسي… ونحن لا ننكر أنّ المطالب المذكورة ضرورية لا بدّ منها لحياة الإنسان ولكن حصر مطالب الإنسان الإنسانية في حاجاته الجسدية فقط هبط به إلى مرتبة الحيوان”.

كامل عويضة، كارل ماركس الماركسية والإسلام، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1993، ص57.

3_أحسب أن جوزفين تملك أخلاقا أرقى من سادتها، فهي ربت ابنها على مبادىء مع أنها فقيرة لذلك كانت أعماله في الرواية خالية من الخبث. يقول عويضة في هذا الصدد: “نيتشه ذهب إلى أنّ خالق القيمة هو مصدر التقويم، وهذا المصدر هو الفاعل ولكن ليس النبلاء والأقوياء وحدهم الخالقين للقيم: فالبائسون والفقراء والعجزة والمرضى والمشوّهون… هم أيضا قد خلقوا قيما، فهم الذين قرروا أنّ الزهد والتجرّد والتضحية والاستسلام والصبر فضائل ذوات قيمة إيجابية. وهم الذين رفعوا من شأن حالة العبودية وحكموا بأنّه من الخير أن يكون الإنسان عبدا. ولما كان العبيد قد قهرهم سادتهم وسيطروا عليهم، فإنّ هؤلاء العبيد استشعروا ذحلا تجاه هؤلاء السادة، وهذا الزحل سيكون ينبوعا لخلق قسم مضادة للقيم التي خلقها السادة”.

كامل محمد محمد عويضة، فريدريك نيتشه نبي فلسفة القوة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1993، ص105.

كيف أمكنه أن يرمي ابنه، وعشيقته في بقعة تستنزف الإنسان، وتترك في ذاته جراحا مبرحة لا تلتئم مع الزمن؟

وعندما ينتقل عيسى ليسكن في بيت خالته آيدا، يعشق ابنتها ميرلا(1). ثمّ تختلف المعشوقة مع أمّها، وتغادر المنزل، هذا الأمر يدفع عيسى أيضا لترك المكان الذي كان يجمعهما(ص108 و109و131). ويعاني بعد خروجه من الوحدة، وقلة المال. يخرج ليبحث عن عمل، وهو الذي عانى الأمرين في أثناء خضوعه لسطوة جده ميندوزا الظالم في أثناء عمله معه.

ثم يسكن عيسى مع تشانغ البوذي، والعازف(ص131_139)، ويروح يدلكه، ويبدأ بيع الموز. ثم يعرفه تشانغ إلي مركز عمل صيني للتدليك، بعدما يدرك إمكانياته في هذا المجال، ويعمل هناك(ص141)، وعيسى كان حينها قد بلغ سن السادسة عشرة(ص144).

ثمّ يتوجه إلى بوركاي(ص149)، ليعمل على مركب، وقد كان عمره سبعة عشر عاما(ص155). يعاني عيسى في أثناء تنقله من عمل إلى آخر، وتلازمه الأزمات التي لازمت الشاب، بعدما ارتكبت أسرة راشد جرمها في حقه. قد يكون الإعلان عن بقاء ابن مع والده، في مثل هذه الظروف بمثابة انفجار أو بركان، يقلب الأمور ضد الأسرة. كما أنّ تحديات صعبة وخانقة قد يعاني منها الأهل، لكن يبدو لي أنّ الابن عيسى يستحق التضحية، علّه يستطيع التنعم بمال والده.

استعراض معاناة عيسى المتوالية، وتنقله من واحدة إلى أخرى، قد يحمل في طياته دعوة تحريضية للإنسانية كي تصحو من غفوتها وتخلّفها. إنها صرخة مدوية تستلزم من سامعيها المثقفين قراءة الواقع عن كثب، وبقوة وشجاعة تامين، علّهم إذا استنهضوا هممهم، يؤمنون للأسر المغلوبة صفوها، واسترخاءها عبر نبذ التعصب، والدفاع عن المقهور.

وفيما بعد يسافرعيسى إلى الكويت سعيا لتحقيق أمنية أمه في تحصيل ثروته من أبيه. ففي الكويت سيعيش مع أهله عيشة رخاء(ص172و178).

يتأخر عيسى في لقاء جدته بسبب وفاة أمير البلاد(ص188و189). وهذا الأمر يدفعه إلى التشاؤم، لتشابهه مع دخول أمه خادمة إلى بيت الطاروف(2). ما حصل يجعله يسكن مع غسان ريثما يستطيع التواجد في بيت آل الطاروف، فيدرك حينها أنّه يجلب الشرف ونقيضه(ص214) لأسرة والده، وهذا ما جعله ضمنا يفكّر أنّه بات بين مفترقين(ص226).

ويعاني مجددا من فكرة انتقاله من بيت غسان إلى بيت جدته، إذ أنّه سيتواجد مع غنيمة التي يخافها(ص215و216و218). ويدخل إلى مسكنه الجديد من الباب الذي طُرِد منه مع أمّه(ص231). وتزداد همومه لأن عماته يرفضونه(ص224)، كما أنّ

1_عندما عاش عند خالته توطدت علاقته بميرلا ابنتها، التي كانت تكبره بأربعة أعوام، فأعجب ب”جمالها الصارخ… أنوثتها الطاغية…”. يقول: “كنت في الرابعة عشر للتو حين زارتني في حلمي أول مرة… كنت في الرابعة عشرة وقتئذ، فقد سلمت عقلي، طواعية، لابنة الثامنة عشرة. ويحاول تقبيلها، لكنها لا تبادله المشاعر نفسها، وتضربه، غير أنه يستمر في التنزه معها “مضينا في السير في الممرات الضيقة”.

سعود السنعوسي، ساق البامبو، ص109، و112، و114، و116.

2_”وصول أمي وقت تفجيرات الموكب الأميري في منتصف الثمانينات”.

م.ن، ص189.

عمته نورية تطلب أن يحجب عنه لقب الطاروف(ص222). ويتألّم لمعرفته أنّه سيعيش في ظل أسرة أبيه من دون أن يتم الاعتراف  بهويته، كما سيتم التعاطي معه على أساس أنّه خادم. ويعاني من الوحدة في الكويت(ص259)، غير أنّه يقرر الصبر، ويحاول أن يقوي ذاته(1).  ينفصل عيسى عن أسرة أبيه في منزلهم، ويعيش بين الخدم، وهذا التعامل خطير، يؤشر إلى صعوبة انسجام لاحقة في حال تمّ تطور المسائل لمصلحته.

يقلق عيسى من الخدم، ويخشى أن يعرفوا الصلة التي تجمعه بغنيمة ربة المنزل. ويعاني من لؤم راجو السائق، الذي يروح يبحث عن هويته(ص242و247و263). ويحاول تجاوز معرفة إحدى الخادمات بهويته(ص239). ويسعى إلى تقليص المسافة التي تفصله عن غنيمة، ويسعى إلى استرضائها عبر التدليك، مقرراً أن يتجاوز ركبتيها صعودا إلى قلبها(2) وتزداد حدة العناء في ذات عيسى، عندما تخشى جدته أن ينفرد مع خولة أخته من أبيه(3). يبدي هذا الاستبعاد الكبرى الكامنة في نفسية أهل والده، وكيفية تغلغل المصالح إلى عالمهم، واستحالة الخلاص منها. كما يعني هذا أنّهم لا يتصفون بإنسانيتهم، فهم استبعدوا من هو من لحمهم ودمهم، وشككوا بأخلاقه. إنّ هذا القدر من القسوة، واللؤم، وعدم الإحساس بالمسؤولية بغية الحفاظ على مناعتهم في مجتمعهم، يلغي عنهم صفة النبل. فالنبيل لا يستضعف الآخرين، ولا يجحف حقوق البشر.

يبدو أنّ ما حصل ليس حكرا على منزل راشد وحده، بل هو سائد في أكثر من موضع، وإن لم يكن نمط عيش. لا شك أنّ ما تمّ إيراده مشكلة مريعة، ويقتضي التعامل معها بكثير من الجدية، كي لا تأتي نتائج المعالجة ظاهرية، إن تمّ التكتم عليها، أو تبيت لغوا بين الأسر إن شاع أمرها. إذا يجب التصدي لهذه المشكلة، بغية صوغ واقع جديد، يتم اختيار بنيانه الريادي من جماعة يفككون أسباب اعوجاج الماضي، ويدعون إلى إقامة توازن اجتماعي يلحد أحقاد معتقدات مثقلة بالجبن، والخبث.

 

يشير هذا النص إلى أنّ هذه التجربة بين الفئتين المتعارضتين الديكتاتورية، والمحكومة، ستورث المجتمع فراغا مؤرقا للذات الوثابة نحو الارتقاء وستترك الناس يعاشرون اضطراباتهم، وهم لا يدركون أنّ عليهم أن يحاربوها، بعدما أضحى الواقع شديد التدهور، ويميل بالمرء نحو الانهزام، ويحرمه أوضاعه الطبيعية. هي عادات يجب دفنها لأنّها تغذي تخوم الانغلاق، والتقوقع والقهر.

يعي المتلقي من خلال ما ورد في النص كيف تنتهك حقوق الإنسان، ويستوعب أيضا بعض مأساة المعذبين في الأرض، كما يدرك مدى حقارة الطبقة المستغِلة. لعل ما

1_يقر أنّه “عيسى راشد الطاروف”.

سعود السنعوسي، ساق البامبو، ص290.

2_ م.ن، ص253و254.

ويقول: “أصبحت أدخل إلى غرفة ماما غنيمة، كل يوم. تغطي وجهها بشالها الأسود ممددة على سريرها تاركة لي مهمة تدليك ساقيها. أقضي ما لا يجاوز الساعة. تبدأ وصلة شخيرها. أنسحب”.

م.ن، ص256.

3_الذي تزوج مرة ثانية من إيمان بعد جوزفين.                                                 م.ن، ص237.

ورد هدفه إماطة اللثام عن فئة مهمشة الحقوق، نتيجة سلبها من جماعة مقتدِرة. كأن ما ورد في النص يحفّز إلى ضرورة إقامة مساواة بين الأفراد في جميع أصقاع الأرض، بمعزل عن لونهم أو دينهم، أو انتمائهم العرقي(1).

وتقرر غنيمة فيما بعد عدم بقاء خولة في البيت(ص293)، في حال وجود عيسى فيه.  لذلك يفكر عيسى في مغادرة المنزل، ويتوجه مكرها إلى الجابرية، التي لا يحبها، ليسكن فيها مع غسان(ص301). وكان عيسى يملك حينها المال(ص294)، غير أنّه شعر بلا جدواه(ص303)، وراح يعاني صراعا حادا، لأنه كان مرغماً على البقاء في الكويت، في حين أنّه يحب العودة إلى الفلبين(ص20). خذلته الكويت(ص304)، وسخرت من ملامحه(ص310). أمّا أمّه، فقد ظلت مصرة على بقائه فيها(ص312). بناء لرغبتها تلك يروح يتمنى أن تنبت له جذور في المكان الذي يرضيها(ص312).

ويشتري دراجة(ص313)، ويثبت علم الكويت في مؤخرتها.  وفي هذا إشارة ضمنية إلى الرغبة الكامنة في ذات عيسى لتحقيق انتماء إلى مكان ما. يذكر سعود السنعوسي الروائي نفسه في حوار أجري معه كلاما يؤيد ما أوردناه. ومضمون الكلام هو: “هل شغلتك مشكلة الهوية في كتابة روايتك؟

بالتأكيد. حاولت التركيز على فكرة الصراع داخل الشخصية وصراعها مع البيئة المحيطة في آن واحد. لذلك عثرت على بطلي الذي نصفه فلبيني ونصفه الآخر كويتي، وهو عنصر مرفوض من المجتمع الكويتي. لكن صراعه يبعث على التأمل. والبطل يظل طوال الرواية يبحث عن هويته الضائعة لأنّه ينتمي إلى ثقافتين مختلفتين، هو نتاج لهما. إنّها معضلة الزواج من خادمة آسيوية. وأسئلة الهوية تتشظى في الثقافتين(2)”.

لا شك أنّ تركيز الراوي على هذا الموضوع يميط اللثام عن قضية تتأجج صراعاتها في الخفاء، وتنمو وتتفاعل، وتستشري، وهي تقض مضاجع المجتمع. يبدي النص أنّ بعض الأسر غير صادقة في تعاطيها، ولا تحترم حرية الآخرين، وحقوقهم، وإنسانيتهم. كما تبدي أنّ خروج عيسى مع أمّه، كذلك عودته، ثمّ إقصاءه عنوة مجدداً من الكويت، كيف أنّ مراحل العمر الصعبة، التي كانت تعد الأم بانقضائها لم تتحقق.

لا يبشر النص بإمكانية نشوء قطيعة مع ما سلف من فكر، فضرورة التحوّل تتطلب ثورة، كما تستلزم قوة رصينة من محرِّكها، الذي قد يعاني الانهزام المؤقت، لكن، قد يأتي يوم، ويتم الانتصار، بعدما يؤيَّد الثائر من مفكرين، يعون قيمة الانسلاخ عن  التقليديين. قد يعتبر الثائر على التقليد بمثابة مجنون لمغايرته، أو قد يرونه سافل الخلق، لدحضه ما حرصوا عليه، ولازموه، ورفضوا خرقه، غير أن خطوة الخروج

 

1_ف”ذلك الذي تتجاوز ممتلكاته حاجاته يطفر من فوق حدود العقل والعدالة البدئية ويسرق ما يخص الآخرين. إن كل فائض هو اغتصاب”.

كارل ماركس، فريدريك أنجلز، الإيديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق،ط1، 1976، ص575.

2_شاكر نوري، سعود السنعوسي: حالة التقمص جعلتني أرى مجتمعنا بعيون الآخر، الشرق الأوسط، الأحد 17 جمادى الثاني 1434 هجرية  28 ابريل 2013، ع 12570.

عن المعتاد السلبي أساسية لمغادرة الكبوة، علّ المسار يعتدل، ويصحح الاعوجاج. إن خطوة السقوط الأولى لدى الثائر، ما هي إلا لحظة الوثبة البكر التي ينتظرها العالم أجمع. وقد تحدّث نيتشه عن الصيرورة(1)، أي ما يجب أن يكون عليه الإنسان بغية الارتقاء. كما أنّ هيجل يبين “كيف أنّ الفكرة تحقق ذاتها في ميدان المجتمع الإنساني…ويتم لها ذلك خلال الاتحاد الوثيق بين الفكر في نشاطه الدؤوب وبين الواقع، ومسلمته الأولى هي أنّ العقل يحكم ويجدد تطوره… هذا الوعي بالجوهر ينعكس على صفحة تطور الإنسانية، التي تنطلق بدورها تدريجا نحو الوعي بالحرية… فالحرية تصبغ الحضارة الإنسانية بصبغتها النوعية وتطبعها بطابع الخاص(2)”.

يبدو لي أنّ قرارات غنيمة الإصلاحية قد أتت دائما سطحية، تراعي معتقدات المجتمع، ومرهونة لصالح طرف دون آخر، فتجلت بذلك ظالمة لعيسى، وأمه. إنّ الاستغلال هو سر عذاب البشرية، لذلك لا بد من القضاء عليه. لقد تبدى لي مجتمع الجدة في ممارساته ذات قشرة واهية، ومأساته مجذرة لمحدودية تفكيره، وإمعانه في استعباد الآخر، الأقل شأنا، والسعي لإذلاله، من دون مراعاة إنسانيته. لقد عاش عيسى عمره مقسوما قسمين عنيفين منصهرين بالعذاب، والقهر، فكان مقودا لظلال الفقر في عالم أمه، ثمّ صار رهينة لعقائد مجتمع أبيه، غير أنّ ما يجمع المكانين والزمنين الجهل، لذلك بدت شروط نهوض عيسى منعدمة.

أحسب أنّ عيسى قد تجلى في النص من ضمن بشر، خاضعين لقيادة حيوانية، قد تخفي هزءها بمن تعتقد أنّهم دونها. إنّ عيسى من فئة ليس لها أن تعترض على ما ينقصها، أو على الذي يغلّف وجودها بغلاف يأس. بكلمة مجملة إن ما يتخلل النص من بدايته إلى نهايته استعراض لفئتين متعارضتين، هما: القادرة المتسلِّطة، والمستضعفة المتسلَّط عليها. ولعل الهدف هو رفع الغطاء عن الظالمين، ومنح المستضعفين دورهم ومكانتهم. لقد بدت علاقة عيسى، وأمه بأسرة راشد علاقة انفصال تام، لا إمكانية لولادتها.

لم يحل الزمن المشكلة، ولم يحوّلها لمصلحة جوزفين، وابنها، فقد انتهت الحكاية بالإخفاق، وأتت النتائج قاتمة. لقد بدا عيسى كأنّه في معتقل تتوالى الضربات فيه.

تتعاظم الهموم في حياة عيسى، فلا نجده حرا في خياراته  بشكل عام، إنّما مرغم على تبني غالبيتها.  ارتباطه من ميرلا ابنة خالته آيدا، التي أحبها، وأحبته في نهاية الرواية يكاد يكون هو الخيار الأوحد في حياته.

يبدي النص، وبوضوح أنّ مثل هذه العلاقات بين راشد وجوزفين تنشأ غالبا في العتمة، وتنتهي في نفس الموقع من السواد. لقد أتى ختام علاقة عيسى، وأمه مع آل راشد عقيما، بعيداً عن نظم الإسلام، الرادع عن كلّ ما هو مشين. كأنّ اللاشرعي أهون الشرور، لتلافي سخرية المجتمع. لقد تبيّن لنا أنّ الموانع الدينية تهزمها المواضعات الواقعية. قال تعالى في كتابه العزيز: “…فلا تخشَوُا النّاسَ واخشَونِ… ومَن لم يحكُم بِما أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرونُ(3)”. لقد كانت المخايلة، والمخاتلة

1_هيدجر، مارتن، نيتشه، المجلد الأول، ص431(النص الألماني)).

2_هيجل، إعداد كامل عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1993،ص 30 و32.

3_سورة المائدة، آية 44.

سيّدا الموقف، لذلك بدا التعاطي مع جوزفين، وابنها لا حشمة فيه، ومزدانا بأقبح النوايا. لم تعترف أسرة راشد المسلمة بابنها عيسى الأسود، وهكذا بات ما ورد في القرآن مجرد كلام، لا صلة لهم به. هم إسلام فقط في الانتماء الديني، لا في تطبيق الوصايا، وهم بذلك ليسوا من أولي الألباب(1).

عندما يغادر عيسى الكويت من دون أن يحصل على حقوقه، يدرك القارىء سلبيات الزواج وعواقبه من فلبينية، والإنجاب منها. كما نعي قبح التمييز العنصري، وقتامته.

لقد بدت أسرة راشد ، وعلى رأسها الجدة غنيمة مادية، منحطة، بعيدة كل البعد عن القيم الخلقية السائدة بين البشر، المترفعين عن الصغائر. لقد كانت علاقتها بابن ابنها نفعية، لذلك تحللت منها من دون أن يرف لها جفن، أو يرهقها أي رادع أخلاقي. لقد جسدت دور الأم القاسية، المرهونة لطقوس مجتمعها. إنّها استغلت وجوده في بيتها، فراح يدلك قدمها، ومع ذلك لم تعدّل الواقع لمصلحته. ثمّ إنّ انتماءهم إلى الإسلام هو ظاهري إلى حد ما كما أسلفنا، وبالتالي، فإنّ حضارتهم هي خانعة لأفكار التواري، والتستر وراء أقنعة مزيفة تزيّن نفسها ببهرجة خادعة، هدفها إرضاء معتقدات مجتمع بائد. هي معتقدات لا تصون كرامة الإنسان، هي معتقدات ترسّخ الظلم، بأساليب ملتوية، بعدما تدّعي نظافة الواقع، ونقاوته لحلولها فيه، واندماج البشرية ضمنه. هي متبعات تنهك الذات من الداخل، وتعتم على ماضيها، ومستقبلها، كما تؤرق حاضرها، فيما هي تدّعي خلاف ذلك. كانت علاقة أسرة راشد مع عيسى تضج بالغليان، ويعمها الحقد، كما كانت متفسّخة، غير مؤتلفة، لذلك تبلورت الأزمة، ونضجت بشكل سلبي، فكثُفت المصاعب، ولم يستطع أفرادها تحرير أنفسهم من موبقاتها.

 

لم يلتزم راشد بما أجراه في حياته من تعديل، ولم يتمكن من تطبيق معتقداته، أو لم يستطع أن يقيم توازنا بين ما يريده هو، وما تريده أسرته ومجتمعه. لقد جزمت أم راشد أنّ البقاء مع جوزفين يعني انهيار أسرتها، فبناتها لن يتمكنّ من العيش مع أزواجهن، إن أعلن ارتباطه بجوزفين.

وهنا نسأل: كيف يمكن أن يؤسس لواقع صلب في ظل إنكار الإنسان لدينه، حين يشعر أنّ امتثاله للدين سيخسره حياته الدنيوية، نظرا لما يدعو إليه من رفع الغبن عن المستضعفين!؟

إن آراء غنيمة اضطرت راشد لمغادرة التزاماته، فاستخف بما ينص عليه الشرع والقانون، وأهمل حقوق إنسان مغاير لكثير من مواصفاته(2). أحسب أنّه كان من المفروض أن يكون راشداً الكاتب، والمفكّر ملجأ المهمشين، لذلك يبدو لي أنّه كان

1_قال تعالى في كتابه العزيز “كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب”.القرآن الكريم، سورة “ص”، آية 29. وُضِعت مضامين القرآن للدفاع عن حق الإنسان، وإلغاء بهيميته، وإعلاء بشريته. .(“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” القرآن الكريم، سورة الحجرات، آية13.).

وهنا نسأل: بما أنّ راشد، وأسرته ينتمون إلى الإسلام، فأيهما أهم في حياتهم قوله تعالى: “ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما”. أم قوله : “المال والبنون زينة الحياة الدنيا”؟ و أيهما له الأولوية على الآخر في الآية الثانية المال ، أم البنون!؟

2_ أقصد جوزفين.

عليه ألا يخالف أفكاره التي آمن بها، ويمتثل لآراء أمّه المتعنتة.

وهل هذا يعبر أنّه غير متمسك بقراراته، وأنه عشوائي، ويتصرف من غير مسؤولية حيال امرأة اختارها زوجة وأنجب منها؟ لِمَ فتُرَت همة راشد بسرعة، ولم يتحدّ مجتمعه، فرضي أن تبيت من اقترن بها طواعية في غياهب المجهول؟ إن رفض غنيمة إقامة المساواة بين جوزفين وبين ابنها، ناتج عن اعتبارات تتعلق بوضعهم الاجتماعي، لذلك تضغط على راشد ليخرج جوزفين وعيسى من حياته. وهكذا يوضع راشد أمام خيارين مؤلمين، فهو إما أن يحترم دساتير مجتمعه، ويفقد رعاية أعز الناس، وأغلاهم على قلبه، وإما أن يضرب عرض الحائط بموروثات محيطه، فيخسر إرثه من أبيه، بعدما هددت أمه في ارتكاب هذا الأمر، وتحصل مجزرة تدمّره، كما تقضي على أمه، وأخواته.

ويغادر المنزل عيسى كي لا تتركه خولة أخته(1). ويروح يعمل في مطعم، لكن بعد مدة يحرم من عمله هذا، وقد كانت نورية عمته هي السبب في ذلك(2). ويتحاشى حينها غسان، لئلا يزعجه، فقد بات من دون مأوى، وعمل(ص385). وتضيق الكويت عليه “توصد أبوابها الأخيرة… شعرت فجأة أنّ هذا المكان ليس مكاني، وأنني كنت مخطئا لا بد حين حسبت ساق البامبو يضرب جذوره في كلّ مكان(ص382)”.

ولم تكن هند مرشحة الانتخابات(ص364)، والعاملة في مجال حقوق الإنسان أكثر أخلاقا من أختها نورية، فهي لم تعامل عيسى معاملة حسنة، عندما عاش في بيت جدته غنيمة. وهذا يعني أنّ الأقوال تبقى دون الأفعال، لقد تحالفت هند مع تقاليد مجتمعها، وتجاهلت حقوق الإنسان، وصرفت عيسى من حياتها، وحياة أسرتها. إن هذا يبدي التناقض القائم بين العقيدة والواقع. لقد رفضت هند حضور عيسى بينهم، ونفذّت حكمها. ما قامت به غنيمة، ومن معها، ولا سيما هند. يبرز ما ورد يبرز أنّ ما يعتد به المرء شيء، وما يمارسه شيء آخر. لقد صعب على هند، ومن حولها الخروج من عقائد زمانهم، شأنهم شأن معظم بني البشر في المجتمع العربي.

يجلي النص تجارب الواقع من غير خبث، أو رياء، ويبدو أنّه يؤمن بقيمة الإنسان، ويدعو إلى ضرورة الدفاع عن حقوقه. يقول حجازي عن التخلف، وإمكانية معالجته: “التخلف ظاهرة كلية، وعلاجها يجب أن يكون شموليا، …وأشد نقاط المقاومة

استعصاء على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف، بما تتميز يه من قيم ونظرة إلى الكون(3).

يتطلب تقدم المرء التخلي عن الدناءة، ويستوجب تطور الوعي الكثير من المرونة، القادرة على تفكيك إلحاد المجتمع برؤية عليا جديدة. هي رؤية ترتقي من خلالها

1_يتحدّث عن وداعه لأخته خولة، وعمته عندما أراد مغادرة الفلبين: “ضمتني خولة بشدّة مصرة على عدم تركي…دسّت عمتي ذراعها بيني وبين أختي تضمها إليها…”.    سعود السنعوسي،ساق البامبو، ص393.

2_أما عمتاه هند وعواطف فكانتا على خلاف شديد مع نورية التي كانت وراء فصله من العمل. يقول في هذا الصدد: “هاتفتني خولة بعد أيام: “هل تم فصلك من عملك؟”… تباً! فعلتها عمتي نورية!”. دبّت الخلافات في بيت الطاروف. عمتي هند وعمتي عواطف على خلاف شديد مع نورية التي كانت وراء فصله من العمل: “أتركي الفتى في حاله”.

م.ن ، ص380.

3_مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور،  ص106.

الذات على لحظات كانت تراها سامية، بينما هي في الحقيقة فاشلة وقاتمة، تشلّ قدرة الإنسانية، وعطاءها. يقول د. مصطفى حجازي عن التمسك بالتقاليد:” المجتمع المتخلف، مجتمع تقليدي جامد، متوجه نحو الماضي، يضع العرف كقاعدة للسلوك وكمعيار للنظرة إلى الأمور. والإنسان المتخلف كائن تتحكم به التقاليد وتقيد كل حركة أو انطلاقة نحو المستقبل لديه. فعنصر القهر واضح تماما في المجتمع التقليدي الذي يمتلك أبناءه ويلغي مبادراتهم… لذلك فإن حالة التوتر الداخلي، شائعة عند الفئات المغبونة في البنية الاجتماعية التي يتحكم فيها التقليد. هذه الفئة لا تملك إلا الرضوخ خارجيا، رغم ما يعتمل في ذاتيتها من صراع ورغبة في التمرد وكسر القيود. الخوف شديد من هذا التمرد الذي تقابله بتشدد مطلق، الجماعة التي تشكل تهديدا دائما لأفرادها بالنبذ أو التشهير أو التصفية إذا حاولوا المساس بالعرف السائد(1)”.

وإذا عرف المتلقي أنّ غنيمة، وأولادها يمارسون طقوس الإسلام، استغرب كيفية تعاطيهم مع جوزفين أولا، وعيسى ثانيا. يذكر عيسى ما يحصل  في رمضان، وهذا بعض مما يورده: “الصلاة أيضا، تكثر في هذا الشهر. حتى وقت متأخر من الليل كنت أشاهد النور ينبعث من نافذة ماما غنيمة. خولة تقول إن جدتي تصلي طوال الليل(ص261)”. لم تتآلف أفعال غنيمة مع ما يمليه الدين دائما، فهي، وإن صلّت غير أنّها بدت عديمة الإنسانية عندما ألغت من عيشها زوجة ابنها، وابن ابنها، لاعتبارات دنيوية. لقد تناست أن الدين الإسلامي جاء لينصف الناس جميعا، يقول محمد الغزالي: “إنّ حقوق الإنسان في الإسلام ليست منحة من ملك أو حاكم، أو قرارا صادرا عن سلطة محلية أو منظمة دولية، وإنّما هي حقوق ملزمة بحكم مصدرها الإلهي، لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل ولا يسمح بالاعتداء عليها ولا يجوز التنازل عنها(2)”. وإذا عرفنا من خولة أن الجدة كانت تمارس طقوس رمضان، و”تصلي طوال الليل(ص261)”.تساءلنا، وقلنا: هل تبدو الجدة متناقضة في تصرفاتها، أم أنّها تحسب لمحيطها، وتفاعلها السلبي أو الإيجابي، الذي سيطرأ إن عرفوا حقيقة ابنها كل حساب؟ وكيف لها، وهي المسلمة المؤمنة، التي تمارس طقوس الإسلام طواعية أن تخضع لسلطة المجتمع، ولا تهاب الدين؟ هل في النص دعوة صريحة إلى ضرورة إصلاح الوضع في البيوت، بغية إصلاح النفسيات في المجتمع، فينعكس هذا بدوره على الفكر، ويتجسد تصرفات مسكونة بالأخلاق، فلا تعود الحلول مجرد أقنعة؟ وهل يعني ما ورد في الرواية أنّ هذا سائد في المجتمعات العربية، ولا سيما الإسلامية منها؟

لا يريد النص على ما يبدو، أن تكون الإصلاحات سطحية، أو خارجية، مغلفة بغلاف، مذوّق الشكل، كريه المحتوى. بدت الجدة، وبناتها من  المسلمين، الذين يمارسون طقوس الإسلام، من غير الالتزام الكلي بما يدعو إليه من تماسك إنساني. لعلّ غنيمة، وأولادها يمثلون المجتمع المسلم، الذي تتحكم فيه سلطة المجتمع أكثر من

الدين.  إنّ بعض الناس، أمثال غنيمة، وأولادها، يمارسون طقوس الإسلام، لكنهم لا

1_ مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور،  ص106.

2_محمد الغزالي، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، القاهرة، دار الكتب الإسلامية، ط3، 1984، ص231.

يستطيعون المزاوجة بين فكرهم الديني وواقعهم، لذلك تظلّ المشاكل تستشيط في نواياهم، فيعانون التناقضات. إذا، إمكانية خلاص المجتمع من عيوبه مستحيلة، لأنّ محكمة المجتمع لن تَرحم،  كما لن تُعرَف ردود أفعالها الهمجية على

من يغادر أعرافها، وتقاليدها البالية. هي أعراف ساحقة لقدرات الإنسان، مقيّدة لخطواته التصاعدية، لما فيها من قواعد صارمة لا مبالية بروحية البشري.

يبرز النص عقد الواقع العربي، كما يوضح كيف تتحكم الموروثات في مسيرة حياة المرء وتبدلها، فتقضي على خصوصيته وأمنياته، ويحرم بذلك أغلى ما لديه، ويقضي بقية أيامه متحسرا، لانسلاخه عمن يهيم بهم. كما يبدي النص كيف يمكن أن يعيش المرء بين الناس معلنا خلاف ما يضمره، فيعاني بذلك انقساما وتشتتا بين ما يريده، وما ينبغي أن يكون عليه. لم يعش راشد راضيا عن نفسه، وقد أعلن عن ذلك غسان لعيسى. لقد قال غسان أنّ راشداً عاش مكبلا، مضغوطا عليه. وأحسب أنّ نضجه الثقافي قد زاده ألما. لم يلتزم راشد بمواثيقه، وكلامه، فوقع فريسة تعنت أمه الممثلة وجه المجتمع القبيح بأكمله. يحتاج المجتمع إلى امتلاك الحكمة الصائبة، كي لا يعيش المرء في ذاته تحقيرا ضمنيا لأعماله، وتمجيدا معلنا لها في آن معا. إن راشداً الذي لم يدافع عن حقوق زوجته، خشية من محيطه، قد حقق مهابة خارجية أرقها بالمقابل اندحار ضمني، قاتل للهفته السرية حيال امرأته وابنه.

لعلّ الراوي أراد من خلال صراع الشخصيات الفكري، إسقاط قناع الزيف عن أناس مقدّرين في المجتمع، غير أنّهم لا يملكون إلا أبخس القيم واقلها شأنا. إنّ علاقة راشد وأهله بالمبادىء واهية، لانهيارها عند الامتحان الصعب غالبا(1). كي ينهي عيسى صراعه مع الكويت، يتركها، ويتوجه إلى الفلبين، وهو الذي يكون قد شرع في كتابة رواية. يتزوج في الفلبين من ابنة خالته ميرلا التي يحبها.

يمثل عيسى الشخصية البطلة في الرواية، العامل الذات. ويتمثل العامل الموضوع برغبته في تمتين جذوره في بلد محدد، يشعره بوجوده، ويؤكّد أصوله، وأهميته من خلال انتمائه لموضع في هذا العالم الشاسع. أما العامل المرسِل، الذي يحرك الشاب، فهي الذات الباحثة عن هويتها، والعامل المرسَل إليه هي الذات أيضا، التي تريد تثبيت انتمائها الجغرافي. هكذا يندمج العامل المرسَل إليه مع العامل الموضوع.

يسعى عيسى لتحقيق هدفه، فتساعده أطراف، وتعارضه أخرى ، ويمكن أن نبيّن ذلك من خلال ما يأتي:

1_ ممثلو العامل المساعد: تكثر العوامل المساعدة، وسأذكر أبرزها:

آيدا: هي من تربي عيسى، وترعاه بعد زواج أمّه.

ميرلا: هي ابنة خالته التي أحبها. تفرح رسائلها عيسى، وهو في الكويت. يتزوجها، ويرتاح، وينجب منها الأولاد عندما يعود إلى الفلبين(ص393، و395، و396).

التدليك: يعمل في هذا المجال، ويكسب المال. كما يدلك الجدة غنيمة، ويكسب رضاها لأمد زمني قصير(ص250).

1_يقول ماركس وانجلز في هذا الصدد: “إن الحق روح المجتمع”…”إذا كان للمجتمع إرادة، إذن فهذه الإرادة هي الحق على وجه الدقة؛ إن المجتمع لا يوجد إلا بفضل الحق”.

كارل ماركس وفريدريك أنجلز، الإيديولوجية الألمانية، ترجمة د.فؤاد أيوب، دمشق، دار دمشق للطباعة والنشر، ص348.

 

العمل: يقوم بأعمال متعددة تساعده على تجاوز وحدته، وتحصيل المال سواء في الكويت، أو الفلبين(ص141، و333).

تشانغ: يسكن معه عندما يترك بيت جده ميندوزا، ويعرفه إلى مركز عمل صيني للتدليك(ص133)، فيعمل هناك(ص141).

غسان: يستقبله في الكويت، وتتوطد علاقته معه، ويعطيه مفتاح شقته(ص231)، ويصطحبه إلى قبر والده(ص251). يشعر عيسى أنّ غسان والده(ص394).

ابراهيم سلام الفلبيني: يتعرف إليه في المسجد، ويتحاور معه(ص270 و271). لقد أعار ابراهيم عيسى مرتبة ولحافا(ص301)، وساعده على إيجاد عمل(ص312).

عقد الزواج: موجود هذا العقد مع عيسى، وهو يثبت اقتران راشد من جوزفين. وقد وقع العقد وليد، وغسان، وهذا قد أثبت لعمات عيسى أنّه ليس ابن زنا(ص372).

 الكتابة: يكتب رواية، ويسلّم  فصلها الأوّل إلى ابراهيم سلام ورقيا(ص394).

خادمة فلبينية: هي موجودة في بيت غنيمة، وهذا الأمر يسعده(216).

خولة: تعايده أخته في عيد رمضان، وتعامله بحب، وتساعده( ص275، و388، و228).

2_ ممثلو العامل المعاكس:

الهوية:يظل طوال الرواية باحثا عن مكان يشعر من خلاله أنّه ثابت الجذور كشجرة “ساق البامبو”.

الفقر: قام بأعمال مرهقة نتيجة الفقر، كما انتقل من عمل إلى آخر بحثا عن لقمة عيشه. وقد كان سبب معاناة أمّه.

الجد ميندوزا: يتركه عيسى، ويروح يفتش عن عمل بعيدا عنه هربا من لؤمه.

الكويت: لا يحب التوجه إليها. يعود إليها تلبية لرغبة أمّه(ص312)، غير أنّها تخذله(ص304)، ويتركها طوعا.

أعراف المجتمع: ترهق راشد، وتجعله يمتثل لآراء أمّه المتعنتة خشية على سمعته، وسمعة أخواته، وهذا ينعكس سلبا على عيسى وأمه.

غنيمة: تطرده مع أمّه من الكويت عندما كان صغيرا، بعد أن ترغم والده على إخراجهما من حياته. وهي من تكتم هويته عندما يعود إلى الكويت، وتعامله كخادم.   يخشاها عيسى(ص215).

العمات: يرفضون وجوده بينهم(ص224)، فعواطف تطرده من الكويت(ص369 و373)، وهند الناشطة في مجال حقوق الإنسان، لم تعامله معاملة حسنة(ص364)، أما نورية فتحرمه من المال، وتمنعه من العمل في المطعم(ص379).

الظن: يعتقد أنّ غسان ينتقم منه، فتتحول مشاعره حياله(ص287و289).

رهافة حسّه: بعد أن طردته الجدة من منزلها لا يتوجه إلى بيت غسان لئلا يضايقه(ص385).

وفاة أمير البلاد: هذا الأمر يؤخّر دخوله إلى بيت الطاروف، الأمر الذي يجعله يتشاءم، لتشابهه مع دخول أمّه خادمة إلى المكان نفسه(ص188 و189).

إيمان: تقرر زوجة الوالد الثانية هذه ألا تبقى خولة ابنتها في البيت ما دام عيسى يعيش في نفس المكان، وتؤيّد الجدة هذا القرار.

المسكن: عندما يخرج من بيت الطاروف لا يجد مسكنا(ص385).

الخدم في بيت الجدة: يتجنبهم كي لا يكشفوا هويته(ص242).

السائق راجو: يريد معرفة هوية عيسى عندما كان في منزل الجدة(ص247). ويتصف بلؤمّه(ص263).

الجابرية: مكان يكرهه، ويضطر أن يسكن فيه(ص301).

3_ممثلا العامل الملتبس:

جوزفين: هي التي تحضن ابنها، وتأخذه معها بعدما تطردها أسرة الوالد راشد من الكويت إلى الفلبين، غير أنّها هي التي أصرّت أن يعود عيسى إلى الكويت ليعيش مع أسرة الأب، ويتنعم بالمال، وقد امتثل لآرائها مرغما. لطالما تألّم لأنّه ابن امرأة فلبينية خادمة.

راشد: يتزوج راشد والد عيسى جوزفين الأم، ثم يتخلى عنها، ويضطرها أن تغادر مع ابنها إلى الفلبين، فيعيشان حياة تعيسة. وعندما يعود عيسى إلى الكويت سعيا لتحصيل ثروته من أبيه، يجد أنّ الأب لم يترك له ثروة تقيه شر العوز.

 

وما يلفتنا في الرواية هو صراع آيدا أخت جوزفين مع والدها ميندوزا، وهذا ما يدعونا إلى رصد مأساة هذه  المرأة المستَغَلة في الفلبين، ومعرفة كيفية مواجهتها الظلم.

ب-   نموذج الشخصية السيكولوجية المرهوبة في رواية “ساق البامبو”.

 فلبنية، ومواجهتها  لمستغِلها:

تخرج الفلبينية آيدا خالة عيسى في سن السابعة عشرة إلى العمل، وقد أجبرها الفقر على الشغل في مراقص وحانات المنطقة. وقد قدمت الصغيرة، آنذاك، جسدها لكل من يسألها ذلك مقابل أن يدفع مبلغا يحدده سمسارها. وقد “صارت آيدا مصدر دخل العائلة، تعود مع ساعات الفجر الأولى حاملة حقيبتها الصغيرة في يدها(ص21)”. كما انغمست آيدا في هذا العالم المخيف، وأدمنت الشرب وتدخين الماريجوانا… وحملت أكثر من مرة، غير أنّ حملها لم يكن يستمر. وعندما حملت بابنتها ميرلا، وكانت في الثالثة والعشرين من عمرها، أخفت أمر حملها عن الجميع. ولما شاع خبر حملها طردت من عملها. أحسب أن تحمل المراة وحدها من دون الرجل تبعات تصرف شاركها فيه، أمر بغاية الخطورة، لمخالفته الحق، إذ إنه عمل يعادي العدل، لتوجهاته الخاطئة.

وتختلف آيدا مع والدها لأنها تنجب ابنة من غير زواج. ويروح يعنفها، وينعتها بالعاهرة، لذلك تستشرس عليه(1). وتبيت آيدا مخيفة لوالدها، الذي صار يتحاشاها، بعدما استحالت ديكا، يشيح بنظره إلى أي اتجاه بعيد، متحررة بذلك من عبوديتها(ص27). يبدو ميندوزا قادرا مقتدرا على ابنته التي رماها صغيرة في عالم رخيص كانت تبيع فيه جسدها للرجال، لتعود من بعدها إلى أسرتها بمال يمكّنهم من تأمين مستلزماتهم. إنّ ما فجر آيدا ضد والدها هو تراكم الظلم، وتحميلها ما لا يمكن احتماله. قد يصعب على آيدا أن تعبر عن سخطها بشكل آخر، ولعلها لا تملك سلاحا

1_تقول أيدا منتقدة واقع رجال الفلبين: “كل الرجال الذين قدمت لهم جسدي… ديوك”.

سعود السنعوسي، ساق البامبو، ص24و25.

تدافع به عن نفسها غير الذي استخدمته، لذلك تروح تقطّع رؤوس الديكة، وترميها في كلّ اتجاه، مثيرة بذلك الرعب في قلب من حولها(1). “فالفعل الحر ليس له مقدمات عقلية… والإنسان لا يفطن إلى أن حريته مقيدة إلا عن طريق “الفشل” الذي يصيبه في الحياة، وعندما يفشل الإنسان يلجأ إلى “اجترار” هذه العقبات ليست كلها مفروضة عليه من الخارج، بل ليجعلها تبدو وكأن نصفها على الأقل نابع منه هو وأنها من وضعه هو أو أنّه شارك في وضعها بطريقة أو بأخرى… فالوجود الإنساني عند الوجوديين مهدد في كلّ لحظة من لحظاته بالسقوط في العدم(2)”.

تسعى آيدا إلى قهر من قهرها، واستلاب راحة من استلب حياتها(3). وتستطيع أن ترد اعتبارها أمام والدها، وتقابله بقسوة لا تقل حدتها عن قسوته، التي جردته من شعوره الأبوي حيالها.

يبدو لي أنّه مجتمع لا يتيح للمرأة أن تعبر عن آرائها، أو تدلي بما يدور في خاطرها. إن نبذ ميندوزا لابنته، بعدما استغل تعبها سابقا يوضح خطط الرجل الأب

الملتوية، المحقرة للمرأة، والمحتكرة لقدراتها، ومن ثم اتهامها بالدناءة، وقلة الحياء، وعدم الفهم. إنّه احتكار للأنثى، قد نجد مثيلا له في أكثرية المجتمعات، من دون وجود وازع يردع الظالمين. وقد يوضح ما يورده حجازي ردة فعل آيدا(4).

إنّ تحرر آيدا من تعنت أبيها قد بدا ممسوخا، ومغفلا، لأنه كان محكوما بشروط قاسية، سببت لها الانهيار، وحطمتها إلى أقصى الحدود في نهاية المطاف(5).

ما حصل لآيدا قد يحصل لغيرها من الفتيات في جميع الأصقاع، والنتائج التي صارت إليها تبدو طبيعية، لأنّها حاصلة بعد معاناة شديدة، ومؤلمة، ممتدة على مدى أزمنة. يقول د. مصطفى حجازي في هذا الصدد: “وضعية القهر التي تفرض على المرأة تتخذ أوجها متعددة… . ولقد لخص بعضهم هذه الأوجه في استلابات ثلاثة تتعرض لها المرأة بقدر متفاوت في حدته. وهي الاستلاب الاقتصادي، والاستلاب الجنسي، والاستلاب العقائدي… ولكن هذا الاستغلال لا يتم بشكل خام ومباشر… إنه بحاجة إلى طمس طابعه الاستغلالي من خلال إحاطة المرأة بمجموعة من الأساطير تجعله يبدو مشروعا، وحتى طبيعيا…(6)”. كما تحدّث عن الاستلاب الاقتصادي “تتعرض المرأة لعملية تبخيس دائم لجهدها، مما يسمح للرجل باستغلال هذا الجهد دون مقابل أحيانا… كما تتعرض لتبخيس إمكاناتها(7)”. إنها حالة تمّ طرحها في

1_و”انقضت على الديوك الأربعة تنتزع رؤوسها عن أجسادها بيديها وتلقي بها باتجاه أبي الذي كاد يسقط مغشيا عليه. انتصبت آيدا واقفة في مواجهتنا كفاها ملطختان بالدماء، توجه سبابتها إلى أبي: _في المرة القادمة.. سوف يكون رأسك!”.                                              م.ن، ص26.

2_كامل محمد عويضة، جان بول سارتر فيلسوف الحرية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1993، ص63.

3_كامل محمد عويضة، كارل ماركس، الماركسية والإسلام، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1993، ص4.

4_يقول: “من خلال السلاح يحدث انقلاب جذري في الأدوار، يتحول الضعف إلى قوة، ومن هنا مباهاة الإنسان المقهور باستعراض سلاحه، استعراض كيانه الجديد الذي قضى نهائيا على الرضوخ… وبما أنّ الحاجة إلى التحرر واستعادة الاعتبار الذاتي ملحة ومزمنة، فإن الشعب المقهور لا يستطيع الانتظار طويلا، إنّه يريد نتائج عاجلة وآنية، عملا ملموسا يطمئنه، إنه يريد حلا سحريا، ويستخدم السلاح كعصا سحرية، تقضي على الماضي الأسود اليائس إلى غير رجعة”.

مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، ص53.

5_ فهي بعد صراعها مع والدها صارت تمشي بعينين جامدتين وهي تضحك.

م.ن، ص60.

6و7_ مصطفى حجازي، م.س، ص221.

النص بجرأة، علّه يتم القبض على الباطل. تُعرَض الوقائع التي يمكن أن يحصل مثلها في أكثر من مكان، وأحسب أنّ الهدف هو معالجة القضايا، كي لا يستمر اعوجاج العلاقات بين الجنسين . لا يريد النص على ما يبدو أن يتمادى المجتمع في تبرئة نفسه من وباء يعيش فيه. إنّ ميندوزا من المتعنتين، وضعاف العقول، من المتسلطين من غير وجه حق، من قصيري النظر، من محدودي الأفق، لم يرد أن تحمل ابنته من دون زواج، وكيف يمكنها أن تحقق توازنا، وألا تنجرف وراء ضياعها، وهي التي عاشت في وحل حياة مريرة، بين أحضان رجال يتقاسمون جسدها، وهي لا تملك سلطة الاختيار !؟

 

خاتمة:

تتناول رواية “ساق البامبو” شخصيات متنوعة، تتراوح بين الغني والفقير، والمتعلم والأمي. كما تعرض لواقع أفراد ينتمون إلى ديانات مختلفة كالإسلامية، والمسيحية، والبوذية، وتبرز كيفية ممارسة طقوسهم الإيمانية المنقوصة غالبا. وتبحث الرواية في تناقضات الفرد النفسية، وحالة الانفصام في المجتمعات. وتركّز الرواية على آلام الأفراد وطريقة تسلّطهم بشكل عام، سواء أكانوا من الجهلة، أو من المتعلمين… .

نقلتنا هذه الرواية إلى موضوع قلّ نظيره، وهو موضوع الاقتران من امرأة آسيوية

والإنجاب منها. لقد عرضت هذه الرواية عواقب الزواج من امرأة آسيوية، كما بيّنت الآثار السلبية على حياة كل من الرجل والمرأة المختلفي الجنسية، واللون، والانتماء الديني، إثر اقترانهما من بعضهما. عكست هذه الرواية، وبصدق، ومن دون مواربة الإعاقة النفسية لدى العربي المسلم، الذي يمارس طقوس الإسلام، ولا يلتزم بما ينص عليه من رحمة لدى بني البشر، كما حصل من قبل غنيمة، وبناتها، وابنها.

كتب حازم صاغية عن موضوع الخادمة الأجنبية في كتابه “أنا كوماري من سيريلانكا”، وأمر زواجها من مسلم. وقد خصص لكوماري عملا روائيا مستقلا، فتناول عذاباتها، وقسوة عيشها، وكيفية تنقلها من بيت إلى آخر، ومن بلد إلى آخر بغية تحصيل لقمة عيشها من خلال خدمة المنازل، كما تحدث عن استغلالها ماديا من قبل الزوج. لقد استُغلت جوزفين من قبل مسلم عربي في رواية “ساق البامبو”، كما استُغِلَت كوماري من قبل زوجها منير المسلم(1).

 

1_يقول صاغية: “أولع بفتاة مغربية… كانت كثيرة التطلّب، بحيث أنفق عليها في أسبوع واحد 3 ألاف دولار من أصل ال10 التي ادّخرتها له. وفوق ذلك أراد أن يتزوجها… قلت له إثر شجار بيننا: اذهب وتزوّج امرأة بيضاء ومسلمة تكون مثلك”.

حازم صاغية، أنا كوماري من سيريلانكا، بيروت، دار الساقي، ط1، 2013، ص85.

د. لميس حيدر:
_ دكتوراه في اللغة العربية وآدابها؛ عنوان الأطروحة: تشكّل العالم الرّوائي عند حسن داوود حتى العام 2000
_ دبلوم دراسات عليا؛ عنوان الرسالة: تحقيق (تعليقة لطيفة) للشرف الأيوبي الأنصاري
_ أستاذة في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية
_ كتبت عدداً من القصص القصيرة والأبحاث الأدبية.
_ صدر لها رواية “ناي لعصفور الجنة”، ومجموعة قصائد شعرية.

شاهد أيضاً

الدكتورة هبة العوطة: دراسة حول رواية “والهة على درب زينب”

دراسة حول رواية “والهة على درب زينب” الدكتورة هبة العوطة* بسم الله الرحمن الرحيم ،والحمدُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *