الرئيسية / أبحاث / قراءة في رواية “على مائدة داعش” لزهراء عبدالله

قراءة في رواية “على مائدة داعش” لزهراء عبدالله

على مائدة داعش

قراءة في رواية “على مائدة داعش” لزهراء عبدالله

للباحث والناقد الدكتور علي مهدي زيتون

يمثّل الإهداء الذي توجهت به زهراء عبدالله إلى الايزيديات المختطفات لدى داعش إشارة مزدوجة: تكشف إحداها عجز العالم عن تخليص المظلوم من براثن الظالم، سواء أكانت الساحةُ القدسَ، أم قرية كوجو، أم المنامة، أم العواميّة. وتطلّ الثانية على بؤس القلم حين تحاصره الظلاميّةُ فلا يستطع أكثر من أن يذرف دمعة، حتى لكأن الثقافة يتيمة ضائعة على مأدبة اللئام.

وتصلنا مأدبةُ اللئامِ الغربية، التي تحدّث عنها طارقٌ بن زياد بمائدة داعش التي تحدّثت عنها زهراء عبدالله . فما أشدّ الشبه بين الوجبتين! كلاهما تبطن مواجهةً مرّة بين ثقافة إنسانية ومفاهيميّة عدائيّة. ومهما يكن من أمر، فإن ثقافة زهراء تشفّ عن الإنساني من خلال وجهه المشرق، وتخاف عليه فتحاول إخفاءه تحت قميصها الصوفيّ الجميل. تواجهك، مع السطر الأول، بثنائيّة ضديّة قوامُها الظلمة والنور، تتناوشُ الوجودَ الإنسانيّ في هذا العالم. تقول: “يقذف بنا الظلام بقسوةٍ خارج الأرحام، لا يترك لنا فرصةَ أن نقرّر، أو نختار، لنجد أنفسنا مرغمين على تقبّل النور” (ص 7)، فتقدم حضورَ الإنسان إلى هذا الوجود حضوراً قدْريّا، لا حول له فيه ولا طول. والانتقال من العدم إلى الوجود مثلُه مثلُ الانتقال من الوجود إلى العدم. “كم كان الظلام متعجرفاً! يظنّنا سنعود إليه لتطمئن فيه أرواحُنا إلى الأبد. ولم يتيقّن بعد، أن من يلتحم بالنور لا يمكن له أن يعود إلى الظلام إلاّ منسلخاً، مرغماً، كما غادره” (ص 7). وتصل بنا هذه الموازنة إلى أنّ الانسلاخ عن النور مثلُه مثل الانسلاخ عن الظلام. وزهراء بهذه المساواة إنما تعلن عدم رضاها عمّا قُسِم للإنسان في هذا الوجود. فهل يمثل الانسياقُ القدْري، بقطع النظر عن الجهة التي يجري إليها، حاكميّةً ظالمة، أم أنّ هذه المساواةَ علامةٌ دالّةٌ تشير إلى خللٍ أخلاقي مقيم داخل الإنسان نفسهِ؟ وهل أرادت الأديبة أن تقول لنا: إن الظلم الذي يمارسه قويّ ما، على ضعيف ما، من دون أن يكون للعدل الإنساني موقفٌ فاعل، هو الذي ينتقل بالشكوى من أن تكون موجهة إلى الظالم وحده، لتطال الوجود البشريّ على الأرض؟

ومهما يكن من أمر، فإنّ مثل هذا التساؤل لا يقدّم لنا زهراء عبدالله مثقفة واعدة فحسب، ولكنه يقدّمها أديبة واعدة أيضاً، خصوصاً أن تعجبّها من قسوة الظلام ومن تعجرفه قد شكّل لغة شعرية رائقة أوحت إلينا بأن الظلام فاعلٌ والنورَ حياديّ لا يمارس أيّ فعل، ومن يمارس الفعل داخل النور هو الإنسان من خلال تمسكه به. وانسلاخه عنه إشارة واضحة إلى وجود من سلخ، إلى وجود الظلام. ويوصلنا هذا إلى أنّ الظلام متعال على النور، وأن الشرّ غالبٌ الخيرَ. وزهراء عبدالله من خلال هذه الأيقونة التعبيرية التي بدأت بها خطابها الروائيَّ قد رسمت مسار العالم المتخيّل المرتبط بيوفا الايزيدية. وذلك من خلال رؤيتها إلى ما جرى للايزيديات في جبل سنجار على يد داعش.

ومع ثِقَل الهمّ الوجودي الذي أشاعته تلك الأيقونة في نفوس القرّاء، فإن اشارتيْ البدء والختام قد حملتا من معاني الصمود ما حملتا . أرانا  تخطيط عنوان الرواية على صفحة الغلاف، ومنذ الوهلة الأولى، معادلة متفائلة، فالمائدة الداعشيّة السوداء معادل دلالي موضوعيّ لكلمة (د ا ع ش) المفكّكة. وتتلاقى هذه المعادلة مع ما تمثّله شخصية أم سليمان التي أطلّت علينا في آخر الرواية لتؤويَ يوفا، وتؤمّنَ لها الخروج من المدينة المصيدة، مقدّمة الإسلام الحقيقيّ القادرَ على كشفِ زيفِ إسلام داعش.

ويبقى أن همّ يوفا الوجوديّ وعدم رضاها كانا أنيناً معلناً ناجماً عن ممارسات داعش المجافية لأيّ حق من حقوق الإنسان. فقد انتحرت شيرين الايزيدية، حين أُتيح لها ذلك؛ لأنها لم تتحمّل أن تكون سبيّة يتداول جسدها الفائزون بالمزاد العلني، في كل مرّة، تُعرض فيها للبيع. ولعلّ تعليقَ أبي جُنيد الوجيزَ على هذا الانتحار: “راحت عليه القطّة ابو كفاح” (ص 70)، خيرُ دليل على الانحطاط الذي انحدرت إليه الداعشيّة. أزال هذا التعليق المسافة بين المرأة السبيّة والقطة من جهة أولى، ثم تعدّى ذلك إلى أن قدّم موت إنسانِ مثاراً للسخرية. ولقد أرادت زهراء لهذا التعليق أن يكون علامة دالّة تشير إلى مفاهيميّة منابذة للثقافة الإنسانية. هذه المفاهيميّة التي تلبّست شعار النخّاس الداعشيّ، “البضاعة التي تباع يمكن أن تبدّل أو تردّ” (ص 72)، فخرجت من بين كلماته بسلّم قيمي ترجح فيه كفّة البضاعة الماديّة على الإنسان. ولا يقلّ دفاع أبي محمد الرقّاوي عن حقه في مباضعة البضاعة التي اشتراها إزراءً بالإنسان عن الشعار الآنف. ها هو يخاطب يوفا قائلاً: “لقد دفعت ثمنك بالدولار، أنت ملكي” (ص 85). وإذا آلم هذا الخطاب هذه الأيزيدية أيّ إيلام؛ في المرّة الأولى التي بيعت فيها، فإنّ تكرار البيع والشراء سيؤدي بها إلى حال أُخرى. قالت يوفا زهراء: “أنْ أُباع ويُدفع ثمني أمامي… بات شيئاً شبه عادي” (ص 136). وفي هذا إشارة إلى مرحلة من التدجين يُخشى معها أن ييأس الإنسان (المرأة) من إنسانيته، وأن تصبح المهانةُ قاعدة تسيّر سلوكه، وتحدّد مواقفه. واتجاه المفاهيميّة الداعشية بالإنسان هذا الاتجاه لا يمثّل إشارة إلى ثقة الداعشي بحسن رأيه وموقفه فحسب، ولكنّه يوميء إلى واقع وجوديّ مرّ يتعلق بالايزيديّات المسبيّات أيضاً. ولقد تبدى مستوى من مستويات استسلام يوفا لمصيرها، حين قالت: “كل شيء حدث، وحدث مراراً، وما عاد يخيفني، إن حدث مرّات أخرى” (ص 105). ولئن اومأ هذا الكلام إلى صرخة الذبيح من فم السكين، إلا أنه لم يعنِ خضوعاً لمشيئة الظالم، فقد ردّت يوفا على المفاهيميّة الداعشية بمفاهيميّة مقاومة: “كنت مؤمنة أن بكارتي التي خسرتها لم تفقدني بكارتي التي (تكمّشتُ) بها بعقلي، رغم كلّ الاغتصابات” (ص 126). إنها تعلن نصراً خاصّاً من خلال محافظتها على بكارتها المعنوية، صمودِها النفسيّ . وهذا النصر لا يخلو من أوجاع مرافقة. أرتنا يوفا مرارتها بالعين المجرّدة، حين فرّغها شاريها لتنظيف الثياب بعد أن فرغ من مضاجعتها. أعلنت “أنها أعمالٌ أكثر من شاقة، أن أُنظّف ثياب سجّاني المتسخة بدمائنا” (ص 92). وتبدّت تلك المرارةُ أكثر حين سلّمها شاريها إلى امرأته قائلاً لها: انها سيّدتك، فقدّرت تقديراً خاطئاً، وساد بداخلها “شعورٌ طفيف بالراحة” (ص 77) إذ بدا لها انها ستكون “خادمة لها (لأمرأته) وليست جارية له” (ص 77). وأن يثير في نفس يوفا نوعاً، ولو طفيفاً، من الراحة في أن تكون خادمة لا سبيّة، يعني أننا أمام علامة شديدة التعبير عن الحال المزْرية التي وصل إليها الإنسان في أكناف داعش. ولعلّ هذه المرارة المستخلصة من بين تضاعيف تلك الراحة النفسية إنّما تمثّل إشارة إلى نوع من الصمود النفسي عرفته يوفا وهي تنتقل “من مدينة إلى أخرى.. ومن بيت إلى آخر… ومن رجلٍ إلى آخر” (ص 160)، خصوصاً أنّ المكان الوحيد الذي ظلّ يقبع فيها هو” جبل سنجار.. وملجأها السرّي هي وسيروان” (ص 160). وهذه المقاومة إنما تعني من بين ما تعنيه احتجاجاً على وضعيّة الإنسان في هذا الزمان. من أحلّ للقويّ أن يظلم؟ قوتُه أم ضعف شوكة الثقافة؟ وهذا ما دفع يوفا لتتساءل: “هل يكون ربيّ هو نفسه ربّه (أبو محمد الرقاوي)” (ص 73)،مثيرةً في وجه الثقافة السؤالَ الأمرّ.

ولعلّ أوجع ما في قضيّة الايزيديات هو أن تكون المرأة الايزيدية شابّة. تتذكر يوفا، وهي في قبضة من اشتراها، نذْرَ والدها، حين “نذَرَ أنه سيذبح الأضاحي، ليوزعها على الفقراء، ويشعلُ الفتائل لعشرة أيام متوالية بكلّ أنحاء معبد لالش، إنْ رزقه الله بفتاة بعد أن كان لديه خمسة فتيان” (ص 68). وتعلَّق على هذا النذر قائلة: “لو علم أبي ما الذي سيحلُّ بأمنيته المقدّسة، لما كان طلب تحقيقها” (ص 68). معيدة أيانا إلى ما كانت الرواية قد بدأت به، إلى ثنائيّة (الظلام/ النور)، أي (العدم/ الوجود). وتمنّي يوفا لوأنّها لم تولد، إنّما يعني أنّها قد رضخت بحزنٍ خانقٍ مقلقٍ، لتعالي الظلام والعدم على النور والوجود، مع ما يمثّلُه هذا التعالي من إدانة للتاريخ وللثقافة. ويدفعنا اختناقُ يوفا الوجوديُّ لنسأل نحن الذين لم نقع في قبضة داعش: هل تستطيع الثقافة الدفاع عن نفسها؟ ولماذا لم تستطع هذه الثقافة إنشاء بنيانها الأعصم الذي يعجز الداعشيون عن اختراقه؟

لقد عشنا ذات يومٍ زمناً شبيها بزمن الايزيديات أسميناه زمن الخوف أيّام المماليك والعثمانيين. فهل تقضّى وتقضّى معه زمن داعش؟. إنّه السؤال الكبير الذي أطلقته رواية زهراء عبدالله وربطته بسؤال طبيعيّ آخر: ماذا تهيئ الثقافة والمثقفُ لتفادي حضور داعشٍ أخرى؟

إنّ أسئلة بهذا الحجم تثيرها هذه الرواية تعني من بين ما تعنيه أننّا أمام أديبة راقية، ومثقّفة لافتة عرفت كيف تضع قدميها على الطريق الصعب.

 

شاهد أيضاً

الدكتورة هبة العوطة: دراسة حول رواية “والهة على درب زينب”

دراسة حول رواية “والهة على درب زينب” الدكتورة هبة العوطة* بسم الله الرحمن الرحيم ،والحمدُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *