الرئيسية / توقيع كتاب / دراسة الدكتورة فاتن المر حول كتاب “الشعرية بين الرمز والعرفان”للدكتور علي زيتون

دراسة الدكتورة فاتن المر حول كتاب “الشعرية بين الرمز والعرفان”للدكتور علي زيتون

د.فاتن

يتساءل القارئ المتابع نتاج الد. علي زيتون الأدبي: كيف تتماهى كتاباته النقدية  مع كتاباته الشعرية؟ كيف يلتقي أسلوب المبدع بأسلوب رجل العلم الذي يقرأ النص من خلال مقاربات راكمت نظريات ودراسات العديد من المنظرين؟

ذلك لأنه اختار أن يقرأ النصوص التي يقوم بدراستها قراءة ثقافية مبنية على الإحاطة بشخصية الكاتب وبما يشكل هويته وبالتالي رؤيته أي النظرة التي يلقيها على الحياة والكون. في هذا الإطار، لا تقل ثقافة الناقد أهمية عن ثقافة الكاتب، فنرى ثقافة الد. علي زيتون ظاهرة بشكل جلي في نصوصه النقدية كما في نصوصه الإبداعية.

وثقافته هي من ثقافة هذا الوطن الذي يحمل همه، من ثقافة المفكرين الذين يبحثون عن مكمن الأمراض التي ضربته ويفكرون بحلول، كما إنها من ثقافة الناس، الغالبية المظلومة من أهل هذا الوطن، وهي تعبر أيضاً عن انفتاحه على الآفاق التي رسمتها الثقافة الغربية أمام توقه للدرس والاطلاع على القديم كما الحديث من العلوم الإنسانية والأدبية. ثقافته علم ومبادئ، قيم اجتماعية وايمان بالله وبالانسان، تراكم غني لنظريات الكبار من الكتاب العرب أو الغربيين، وإضافة شخصية تقدم نقداً منسجماً مع البيئة التي ولد فيها. تلك القيم تتجلى أيضاً في النوص التي يختار أن يدرسها، وخياره هذا، وإن أخذ بالاعتبارات الشخصية كالصداقة والمحبة، قائم بالدرجة الأولى على ملاءمة تلك النصوص ورؤيته للوطن والإنسان.

ويحمل الد. علي زيتون الناقد المطلع على آليات النقد الحديثة مسؤولية ايصال الرسالة التي يريدها الشعر الحديث إلى جمهور القراء متلافياً بذلك الأزمة التي عبر عنها أبو تمام حين أجاب عن من انتقده قائلاً إنه “يقول ما لا يفهم” بسؤال: “لماذا لا يفهمون ما يقال؟” ويشير إلى قصور أدوات النقد الأدبي وعجزها عن مواكبة الكبار من شعراء عصرنا هذا، داعياً الناقد إلى النهوض ليصبح قادراً على طرح أسئلة على ثقافة المرحلة توازي تلك التي يطرحها عليها الشعر.

يعتمد الد. علي زيتون في دراسته النصوص مختارة المنهج الثقافي الذي يربط بناء النص وأسلوبه، كما الرموز التي يتضمنها بثقافة كاتبها.

في الفصل الذي يحمل عنوان “الشاعر من هو” يرى أن أهم ما يميزه، بالإضافة إلى الموهبة، هو امتلاكه ثقافة عصره والحوار الذي يقيمه مع تلك الثقافة، فيؤدي ذلك إلى كشف خباياها. فالشاعر الحقيقي يذهب إلى أبعد مما وصله غيره من المثقفين ويطرح على ثقافة عصره أسئلة تحاصرها وتكشف ما لا يراه الآخرون فيها.  يقول: “الأدب متصل بالثقافة من دون أي وسيط معرفي (ص.20) ويعرف الشعرية بوصفها النظرة التي يلقيها شاعر كبير على العالم المرجعي ذي الجوانب المتعددة التي يصعب حصرها، فتشكل رؤية الشاعر الذي يمثل ثقافة عصره كشفاً لعمق من أعماق هذا العالم (ص.45) وهذه الرؤية تترجم بأسلوب الشاعر. وفي هذا الإطار يرى علي زيتون أن مطولة الشاعر عمر شبلي “إلى الحسين بن علي عليه السلام شاهداً وشهيداً!” قد أقامت حواراً مع ثقافة عصرها فحملتها أسئلة محرجة وتحملت منها هموماً مرتبطة بالهم الوطني كما بقضايا الإنسان الكبرى، فكانت شعريته هي رؤية شاعر كبير لا يعرف الاستكانة ويحمل على كتفيه وبين سطوره مسؤولية الكشف كما المساءلة.

في دراسته حول ديوان “النازلون على الريح” للشاعر محمد علي شمس الدين، ربط الكاتب بين الشاعر والعارف، فكلاهما من أهل النظر الذين يسعون إلى كشف أسرار الوجود والتعبير عنها بلغة مناسبة. يقول: “الشاعر والعارف كلاهما، بما حملاه من ثقافة، هما القادران الوحيدان على التقاط المآزق التي تعتري كلاً من العقل والثقافة، وهما القادران وحدهما أيضاً على الإشارة إليها وعلى كيفية الخروج منها.” والخروج منها أو على الأقل ايجاد السبيل إلى الخروج، ليس أمراً حتمياً، فالشاعر، وإن كان كالعارف قادراً على كشف أبعاد ليست منظورة من الآخرين، هو أيضاً عالق في متاهة الأزمة، إذ يصل علي زيتون إلى استنتاج أن سلوك شمس الدين العرفاني الذي جعله يدرك أبعاد مأزق الثقافة الحالية المتفرع من المأزق العلمي لا يصل به إلى النشوة العظمى، لأنه، كغيره من المثقفين، عالق في المتاهة الثقافية من دون أن يرى لها منفذاً. إذ لا يمكن له أن يتحرر بشكل فردي، فتحرره مرتبط بتحرر مجتمعه وهذا الأخير قد لا يرى ضرورة الخروج من المتاهة، أي أن أزمته الثقافية خطيرة لدرجة أنه غدا مثل المريض الذي لا يعي مدى إصابته فلا يبحث عن علاج.

ويعطي الكاتب أفضلية للشاعر على غيره  في النمو الثقافي مشيراً إلى أن تطلعاته تجعل منه متابعاً لكل جديد في عالم الثقافة على الصعيدين المحلي والعالمي، مما ينعكس تطوراً في أدبه، فالثقافة النامية مثار لإنتاج رؤية نامية ويستتبع نمو الرؤية نمواً في الرؤيا وفي اللغة الشعرية.” (ص.93) وفي هذا الإطار، يراقب التطور بين مجموعتي الشاعر محمود نون “النهر أنت والبحر مداك” (1991) و”نوافذ المطر” (1997) ويرى أن البعد الحداثي في شعره ناتج بالدرجة الاولى عن حضور شخصيته المتماسكة ثقافياً في نصه وعن متابعته التطورات الثقافية في العالم بالإضافة إلى وعيه التحولات التي يعيشها مجتمعنا. ويؤكد زيتون أن الشاعر الحقيقي هو من زاوج بين الاطلاع على نتاج الثقافة الغربية في كافة الحقول المعرفية وبين الحوار الخلاق مع تراثنا فيصبح ممثلاً ثقافة عصره.

ويحسم علي زيتون الجدل الذي غرق فيه الكثيرون في حقبة زمنية سابقة حول كون الحداثة صناعة غربية قائلاً: “ليكون الشاعر شاعرأ يجب أن يكون حداثياً لأي زمن انتمى.” (ص.183)

وفي الإطار الثقافي كان لا بد للكاتب أن يلتفت إلى الأزمة التي تكاد تكون وجودية والتي تواجه كل الكتاب، وهي غياب الجمهور الذي تسمح له ثقافته بمماشاة ما يكتب. ويخص بالذكر الشعر الحديث الذي، بحسب تعبيره، “يكاد يكون شعراً بلا جمهور”. وفي هذه اللفتة إشارة إلى الأزمة الثقافية الكبرى التي يواجهها مجتمعنا والتي قد تكون أحد الأسباب الرئيسية لكل المآزق والحروب والمآسي التي يعاني منها بشكل عام أبناء شعوبنا العربية الذين انقطعوا، ليس فقط عن الحديث من الشعر ولكن عن القراءة بشكل عام، فسهل جرهم إلى المواقع التي يريدها لهم أعداؤهم، وغرقوا في حروب طائفية ومذهبية وفي الانقياد وراء خطط تؤدي إلى دمار بلادهم وضياعهم.

مما لا شك فيه أن المقاربة الثقافية التي لجأ إليها في دراسة نصوص الشعراء الذين تناولهم الكتاب مقاربة قيمة تحاكي العلوم النقدية الأكثر حداثة في عالم اليوم وتضيف إليها رؤية متولدة عن ارتباط ثقافي بالتاريخ وبالجغرافيا. بالإضافة إلى ذلك، لجأ زيتون إلى أداة تشكل فتحاً في النقد الأدبي الحديث الذي يدرس التفاعل بين الكاتب والقارئ، مشيراً إلى ما يطلق عليه النقد الحديث اسم الوظيفة التأثيرية fonction thymique  التي تتجلى في المشاعر التي ينجح الكاتب في بعثها لدى قارئه فيشير مثلاً إلى اللذة التي يشعر بها الكاتب في السيطرة على المتلقي والتي تقابلها لذة القارئ في التحرك ضمن حدود قراءته الخاصة للنص. أما في الشعر على وجه التحديد، فيتحدث الكاتب عن الرعشة التي تجتاح القارئ “لحظة وقوعه في أسر القصيدة” (ص.46) والتي تعود إلى فرادة هذه القصيدة والرؤية الجديدة التي تقدمها والتي تساهم في أدبيتها. ويحدد السؤال الذي يجب أن يطرح لدى النظر في نتاج شاعر ما: “هل اسستطاعت قصيدته أن تثير دهشتنا إلى درجة الانخطاف؟” (194)

يبقى أن أقول أن الدكتور علي زيتون يدفع بنا، في كل كتاب من كتابته لنلحق بركب علم النقد الحديث الذي تخلفنا عنه، بينما هو متابع لكل جديد، عالم في النقد الأدبي يغوص في الكشف النفسي والاجتماعي والتاريخي، بالإضافة إلى اللغوي. د. علي زيتون، كم نحن محظوظون لأنك اخترتنا لنكون من تلامذتك ننهل من معرفتك ومحبتك، نخجل من تفانيك ونقتدي بإنسانيتك.

شاهد أيضاً

ندوة حوش الرافقة حول كتاب “بين الشعر والجرح قرابة”

  أقام الملتقى الثقافي الجامعي بشخص رئيسه الدكتور البروفسور علي مهدي زيتون ندوة ثقافية نقدية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *