الرئيسية / أبحاث / دراسة الأستاذ الشاعر محمود نون حول كتاب الدكتور علي زيتون “الشعرية بين الرمز والعرفان”

دراسة الأستاذ الشاعر محمود نون حول كتاب الدكتور علي زيتون “الشعرية بين الرمز والعرفان”

الشعرية 1

مع أهمية الأجناس الأدبية المتنوعة وما فيها من جمالية، سوف يبقى الشعر محور الإبداع الإنساني؛ بما يتطلب تجليه من شروط قد لا يتطلّبها أي جنس أدبي آخر.

لذا، فحطُّ الرحال في دراسة الشعر، يتطلّب القامة الملمّة بكل مكوّنات الإبداع لتبيان ما فيه من جماليةتؤكد حضوره، أو غيابه، على حد تعبير الدكتور علي، فالجميل لا يظهره إلا العمل الفني، كما يقول هايدغر، والذي يبيّن مواطن الجمال في الجميلمن الأعمال الفنية، هو مبدع، ومقيم في جدلية دائمة مع الكشف عن أسرار الجمال، وخفاياه.

يقول هايدغر: “الجمال هو أسلوب الحقيقة وكينونتها”؛ في هذا القول ما يشير إلى أن “الرعشة” التي تنتابنا من الجمالية في الشعر، هي وليدة تلازم أقانيم ثلاثة: الجمال، والحقيقة والكينونة؛ ويؤشّر أيضاً إلى أن الشعر يستمدّ حضور جماليتهمن الطواف في فضاء هذه الأقانيم، الأقانيم عينها، التي هي مكوّنات منظومةالقيم الإنسانية الخالدة، وهذا يستدعي أن يكون الشعر، بالضرورة، كما يرى الدكتور علي “عابراً الزمان، وعابراً حركة الثقافة، على امتداد العصور وتطاولها”؛ إذ أن الثقافة وحدها، على أهميتها، وفاعليتها، لا تستطيع أن تصنع شعرية، أو تقدّم شاعراً، خارج القدرة على إثارة “الدهشة” التي تتجلّى “بالرعشة” وتجعلنا نقول: “أويا”! على حد تعبير “لوركا”، أو “الله.. الله” على حد تعبيرنا، لحظة انبهارنا بأي جمال؛ علماً بأنّ الجمال الذي يفعل بنا تلك “الرعشة” ما هو سوى قبس من الجمال الكلّي كما يقول “الحلاّج”. ما يعني أن مظهر هذا القبس لا بدّ له، إلى جانب الثقافة، من امتلاك مكوّنات القدرة على إظهار هذا القبس؛ وهي مكوّنات نراها في شعلة الروح، وحبر التوهّج، وعمق الرؤية؛ ونراها في الموهبة، والثقافة، والبصيرة، تمدّنا بما يجعلنا مؤهلين للكشف “عن المآزق الخبيئة داخل ثقافة العصر” كما يرى الدكتور علي، ومن كل خبيئ في الوجود، أيضاً؛ وهذا يستدي بالضرورة، خروجنا من باحة الأيديولوجيا إلى رحابة الفضاء الإنسانيّ، لما للأيديولوجيا من انعكاس سلبيّ على مضمون الإبداع، بما فيها الأيديولوجيا الإسلامية التي لم تستطع “إنتاج نظرية أدبية منتمية إلى ثقافة حديثة مؤسسة على الثقافة القرآنية” كما يرى، أيضاً، الدكتور علي.

خروجنا هذا، الذي يؤدّي إلى الطواف في الفضاء الإنساني، ليس حصوله بالسهولة التي نتصورها، إذ يتطلّب ذلك من الشاعر اختراق الثقافة القائمة، ليتفرّد الشاعر برؤيته، ويرتقي إلى درجة المفكر في حقل الشعر، كما يقول الدكتور علي. ولعمري، هذه الرؤية لا تأتي إلاّ من ناقد، وباحث، ومبدع، ذي فرادة ورؤية متميّزة ترتقي إلى درجة الإبداع في النقد، وتؤهّل أصحاب الموهبة  للدخول في دائرة الشعر، والثقافة والإبداع.

وتنتابنا “الرعشة”، فنغمض العيون، أو نرفع الحواجبإعجاباً، لإدراكنا الدقة في اعتماده المنهجية العلمية وما يرفدها من سعة ثقافيةومعرفية طوال تتبّعه تشكّل المفاهيموالرؤى التي عملت على إضاءة الحقيقة الشعرية، بدءاً من الجاهلية، مروراً بالعصور الإسلامية، وصولاً إلى العصر الحديث؛ وذلك بلغة فيها من الشعرية ما يشدّنا دائماً إلى استيعاب الرؤية، وبلوغ المرتجى!

إنّها الفرادة، والمغايرة في الكشف عن المآزق الخبيئة من الثقافة!

وتنتابنا “الدهشة” أيضاً، فنطلق “أويا” أو “الله.. الله!” حين دخولنا إلى رؤيته في معالجته مفهوم الشعر في العصر الحديث؛ إذ يرى “أنّ الرؤية هي البصمة التي تجعل مما يكتبه الشاعر شعراً خاصاً به”، وأنّها “سرّ فرادته” وأنّ وظيفتها “تمكين صاحبها من إدراك لخاص يتعلّق بشيء من الأشياء، لبعد من أبعاده غير المتناهية التي أبدعها الله!”.

ونغتني بالمعرفة، إذ يقدّم لنا، بما قلّ ودلّ،رؤى منظري الشعرية: من “الحيد” أو “الإنزياح” و “النفي افضافي” عند جان كوهين، إلى “الدهشة” و “إدخال “المتلقي” في دائرة الشعرية، عند كمال أبو ديب، إلى “الثقافة” و”مكوّنات بنية القصيدة” لدى أونيس، ليخلص إلى تقديم رؤيته الخاصة، ويؤكد أنّ غنى الشعرية يكمن في غنى الرؤى، وأن ما يراه الشاعر “إنّما يراه باللغة” وأنّ الرؤية الأعمق بحاجة إلى التعبير الأفضل؛ ما يذكّرنا بقول معمر بن المثنى: “الشعر جوهر لا ينفذ معدنه” وبقول النّفري: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”؛ ما يعني أنّنا مدعوون، بالضرورة، إلى اعتماد “الرمز”، والتزوّد لذلك بالغنى في الثقافة وفي فهم “العالم”، ليس من باب المعاصرة، وحسب، بل أيضاً، من باب التراكم الحضاريّ للدلالات التي يعبّر عنها هذا “الرمز”.

وعليه تباين الشعرفي حضورهامن نص لآخر، تبعاً للتعبير الأفضل، والأجمل، لأنّه ليس هناك من تعبير يرتقي إلى مستوى الكمال؛ وهذا يستدعي قول النّفري: “أوقفني في الباب، وقال: الحرف يعجز عن التعبير عن نفسه، فكيف يستطيع أن يعبّر عني؟!”؛ ما يعني أن الشاعر هو في حال من السيزيفية الدائمة، إن صحّ التعبير! فالقصيدة هي الضخرة، والشاعر سيزيفها، والكمال قمّتها؛ ما يعنين أنّ الإبداع يكمن في المدى الذي يصل إليه الشاعر في حركته السيزيفية لإنتاج القصيدة؛ لأنّه، أي الشاعر، يستمدّ طاقته في حركته الإبداعية، من مكوّنات الشعرية، فلا يصل أبداً إلى القمّة والكمال، لأن الكمال أو الإطلاق، هو من خصوصية الخالق؛ والخالق سيد الخلق، الواحد الأحد، لا مثيل له ولا شبيه، والخلق من فعله، وكمال نتاجه لا يدركه أحد، لأن الخالق فري، متفرّد، متميّز بتدفّق اللامتناهي من الصور عنه، صور يعجز الشاعر/المفكّر عن التقاطها جميعاً، فليس للشاعر سوى واحدة منهافي لحظة انبثاق الشرارة المؤذنة بالرحلة السيزيفية؛ أما ما تبقى من الصور اللامتناهية فمصيرها العدم.

من ذلك نستنتج أنّ مقولة القائلين بأنّ الشاعر يخلق عالمه الخاص من خلال القصيدة، هي مقولة غير دقيقة، وتحتاج إلى كثير من التبصّر، فالشاعر طوافه يقبض على صورة واحدة، من صور العالم في حركته الأبدية؛ وهذه الصور اللامتناهيةلا تقوم إلاّ في العالم، وبالوجود؛ وما على الشاعر في كشفه عن الصورة ودلالاتها سوى أن يقدّمهاإلى المتلقي، مزوّداً لذلك بدهشته وعقله؛ فالشاعر لا يخلق العالم الذي يقدّمه إلى المتلقي، من خلال القصيدة، بل يولّده، أو يهجّنه، في أحسن الأحوال! والقصيدة، التي تتجلّى بها هذه الصورة ودلالاتها، هي التي تثير فينا بجماليتها الدهشةالتي تودع فينا الرعشة، وتدفعناإلى “أويا” أو “الله..الله!”.

ولئن كان “الحيد” يثير فينا تداعيات ثقافية، ومعرفية، وإنفعالية، فإنّ هذا البحث في الشعرية، جاء غنياً بالمنطلقات المؤديية إلى فهم الشعر والشعرية، فامتلك “حيّده” النقديّ، وأثار بالتالي تداعيات يرتقي كل منها إلى مستوى الإشكالية، على قاعدة الكشف والتوليد في قول النفّري: “المعرفة التي ما فيها جهل، هي جهل لا معرفة فيه” ومن هذه الإشكاليات التي أحدثها البحث لدينا، والتي نأمل أن يتوجّه إليها الدكتور علي لدراستها في أبحاثه القادمة:

1 _ هل ترتبط الحداثة ومضمونها بالمعاصرة والتقنية، أم بالنظرة إلى الحياة، والكون، والإنسان، والكشف عمّا هو مجهول، واستنبات ما يسمو بالإنسان والحياة؟!

2 _ كيف يمكننا صناعة حداثة أدبية في العالم العربيالإسلامي المعاصر، صناعة ترتقي بنتاجها الأدبي إلى مستوى العالمية؟! علماً بأنّ عالمنا العربي الإسلامي ما يزال يستمدّ فاعليته السياسية والإجتماعية من مراحل العصور السابقة، فأوصلنا إلىهذا الدرك من التّشتت والتخلّف؟!

3 _ هل يقتصر الكشف عن “المآزق الخبيئة” على ما هو كامن في ثقافة العصر، أم يتمدّد ليطال مراحل الحضارة بأكملها، بما فيها من إشكالياتالحياة، وأسرار الوجود؟!

4 _ إذا اعتمدنا مكوّنات الإبداعفي النص القرآني سقفاً إبداعياًللنص المعاصر، هل يصبح بإمكاننا تصنيف ما يسمّى بقصيدة النثر في باب الشعر؟ وما هي الأسس التي سنعتمدها لهذا التصنيف؟ وكيف يصنّف النص في رحاب الشعر، خارج الإيقاع؟ علماً بأنّ الإيقاع في النص القرآني هو من المكونات الأساسية للدهشة التي تصيبنا بالرعشة، وتدفعنا خارج إرادتنا إلى أن نردّد “الله.. الله!”؟!.

شاهد أيضاً

ندوة حوش الرافقة حول كتاب “بين الشعر والجرح قرابة”

  أقام الملتقى الثقافي الجامعي بشخص رئيسه الدكتور البروفسور علي مهدي زيتون ندوة ثقافية نقدية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *