البعلبكي قسطا بن لوقا
( 205 – 288 ه / 820 – 900 م )
- بعلبك :
نتعرف على بعلبك ولكن من منظور آخر، فإذا كان التعرف على مدينة بذكر مايجاورها ويحدها من جهاتها ، فإننا نتعرف على بعلبك من خلال تسميتها مدينة الشمس ؛ فإذا كانت الشمس منبع النور وفيض الضياء فإن حدود مدينتنا هي في مدى ما يترامى من أشعتها ويفيض من ضيائها ، أجل فأشعة شمس بعلبك ومنذ ذلك الزمن ترامت إلى أرجاء الدنيا علما ومعرفة وحضارة ، وماإلى ذلك من جوانب الإبداع والعطاء ، ولم يكن ذلك وقفا على حقبة زمنية دون سواها ؛ فقد أهدت بعلبك العالم على مدى التاريخ وما تزال ، أعلاما كان لهم شأنهم في الحضارة الإنسانية .
من أولئك الأعلام ووفق تسلسل زمني :
- القديس الشهيد جلاسيوس ، الممثل البعلبكي من أعلام القرن الثالث الميلادي ، أي ما قبل الإسلام بقرون ، كان جلاسيوس قد امتهن الكوميديا وكان عضوا بارزا في فرقة تمثيلية مارست عملها في مدينة بعلبك زمن الإضطهاد الكبير الذي ساد الأمبراطورية الرومانية أواخر القرن الثالث الميلادي . فهل أن إقامة صاحبنا هنا في بعلبك كانت تتيح له مساحة من حرية الرأي والتعبير إزاء ذلك الإضطهاد ؟!
- البعلبكي محمد بن سليمان بن أحمد بن ذكوان أبو طاهر، من أعلام القرن الثالث الهجري : المؤدب ، المؤذن ، المقرىء الذي حفظ القرآن دون مساعدة .
- إبن ملّي الأنصاري العاملي ، نجم الدين أحمد بن محسّن ، من أعلام القرن السابع الهجري ، أحد أذكياء الرجال وفضلائهم في الفقه والأصول والطب والفلسفة والعربية والمناظرة ؛ كان متبحرا في العلوم كثير الفضائل ، أسدا في المناظرة ، فصيح العبارة ذكيا متيقظا، حاضر الحجة حاد القريحة مقداما .
ولم تكن المرأة بعيدة عن ذلك الميدان وإنما كان لها حضورها في التراث البعلبكي فقد كانت هناك المحدثات والمسندات روى عنهن علماء مشهورون مثل الحافظ الذهبي وسواه ، منهن :
- ست الأهل بنت علوان بن كامل في القرن السابع الهجري ، أسمعت من البهاء عبد الرحمن الكثير ، كانت ديّنة خيّرة .
- أمة القاهر بنت عبد الرضى قاسم بن محمد بن عمر بن الياس بن الرشيد من أعلام القرن الثامن الهجري وأمة الرحمن بنت محمد شيبان ، وغيرهن الكثيرات .
نستعرض ذلك لنقول أن قسطا بن لوقا كان درة في عقد ممن جادت بهم بعلبك على الإنسانية .
- البعلبكي قسطا بن لوقا :
ويقال له قسطوس كذلك ، عالم موسوعي شملت علومه وتصانيفه الطب والرياضيات والفلك والطبيعة ؛ برع في الترجمة والنقل من اليونانية والسريانية إلى العربية … عاصر علماء عربا كثيرين منهم الكندي (ت 260 ه ) ، ثابت بن قرة (288 ه) ، حنين بن إسحاق وسواهم . تجول في بلاد الروم طلبا للعلم وبهدف الإطلاع على علوم اليونان وكتبهم ومؤلفاتهم .
كثيرة هي المراجع التي ترجمت له ، وعلى أهمية تلك الروايات نقف على اثنتين منها ، هي الأوفى والأشمل ، إضافة إلى مكانة مصنفيها في تأريخ التراث العربي الإسلامي :
عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ، والفهرست لابن النديم ، ومعظم الترجمات أخذت عنهما
يورد إبن أصيبعة عن قسطا بن لوقا قوله : ” كان مسيحي النحلة ، طبيب حاذق ، نبيل ، فيلسوف ، منجم ، عالم بالهندسة والحساب ” ، ويضيف ابن النديم : ” أن قسطا كان بارعا في علوم كثيرة منها الطب والفلسفة والأعداد والموسيقى … فصيحا في اللغة اليونانية جيد العبارة بالعربية ؛ توفي بأرمينية عند بعض ملوكها ” .
يضيف ابن النديم : ” نقل قسطا كتبا كثيرة من كتب اليونانيين إلى اللغة العربية ، وكان جيد النقل فصيحا باللسان اليوناني والسرياني والعربي ، وأصلح نقولا كثيرة ” .
إجتذبه سنحاريب إلى أرمينية وأقام بها ، وكان هناك من الفضلاء أبو الغطريف البطريق من أهل العلم والفضل فعمل له قسطا كتبا كثيرة ، جليلة نافعة ، شريفة المعاني مختصرة الألفاظ في أصناف من العلوم .
بقي قسطا في أرمينيا حنى نهاية حياته ، ” … مات هناك فدفن وبني عليه قبة وأكرم قبره كما أكرم الملوك ورؤساء الشرائع ” ؛ ذكرت ثلاثة تواريخ لوفاته : 286ه /899 م كما في تراث الإسلام ، 300 ه / 912 م وهو الأرجح ، و310 ه / 922 م .
وهنا ما يلفت النظر ، فالأعيان وأعلام الفكر والمعرفة تكون العاصمة عادة مكان إقامتهم ، وكانت العاصمة بغداد مؤئلهم آنذاك ، فلماذا اختار صاحبنا أن يقيم في أرمينيا وحتى وفاته ؟!
فقد عاش قسطا في ظل الدولة العباسية وعاصر الخليفتين المستعين بالله والمقتدر بالله ، أيام خبا فيها بريق الحضارة الإسلامية ووهج العز والفخار ، قياسا بأيام الأمين والمأمون ، فالمقتدر مثلا كان كما ذكر المؤرخون ” منهوبا باللعب والجواري لا يلتفت إلى أعباء الأمور … متلافا للأموال ، محق ما لايعد و لا يحصى ” .
ما يعني أن الفساد كان مستشريا ، وكما هو معروف عندما يستشري الفساد فإنه ينسحب على كافة الصعد السياسية والإجتماعية والإقتصادية وحتى الدينية ؛ فهل أن قسطا بن لوقا ، إضافة إلى حظي به من حفاوة وتكريم في بلاط سنحاريب ملك أرمينيا ، نأى بنفسه عن ذلك الفساد في بغداد ؟!!!
مهما يكن من أمر فإن عبقرية قسطا بن لوقا تجلت في سائر ميادين العلم والمعرفة ، وقد أحصى المصنفون 92 مؤلفا ، منها 42 مؤلفا في الطب ، 11 مؤلفا في الرياضيات ، 8 مؤلفات في الفلك ، 13 في المنطق والفلسفة ، و6 مؤلفات في الطبيعة والفيزياء ؛ إضافة إلى مؤلفات في النبات والموسيقى والتاريخ ؛ إضافة كذلك إلى ترجمنه لما يزيد عن 12 كتابا في كافة العلوم .
نذكر من آثاره :
- في الطب :
- المدخل إلى علم الطب ، من عنوانه نتلمس شموله وأهميته في الدخول إلى عالم الطب .
- كتاب في الفصد .
- الإستدلال بالنظر إلى أصناف البول .
- كتاب في الكبد وخلقتها وما يعرض لها من الأمراض .
- كتاب أوجاع النقرس .
- كتاب في النبض .
- مقالة في الوباء .
- مقالة في الدم .
- كتاب في العين .
- ورسالة في تدبير سفر الحج ,
- في الرياضيات والفلك :
- المدخل إلى علم الهندسة .
- شكوك كتاب إقليدس .
- البرهان على علم حساب الخطائين .
- حساب التلاقي على جملة الجبر والمقابلة .
- المدخل إلى علم النجوم .
- هيئة الأفلاك .
- العمل بالأسطرلاب .
- في الفيزياء والطبيعة والأوزان والأثقال :
- كتاب في القرسطون أي ميزان الذهب .
- كتاب الجزء الذي لا يتجزأ .
- في الفلسفة والمنطق والتاريخ والفلسفة :
- كتاب في آداب الفلاسفة .
- مسائل في الحدود على رأي الفلاسفة ، (أهميتها في الفلسفة ورسالة الكندي في الموضوع ) .
- كتاب في الفصل والفرق بين النفس والروح ( مثار جدل بين الدين والفلسفة ) .
- مقالات فلسفية .
- المدخل إلى علم المنطق .
- إيساغوجي .
- الفرق بين الحيوان الناطق والصامت أو غير الناطق .
- كتاب في النوم والرؤيا .
- كتاب في السياسة وكتاب الفردوسي في التاريخ .
تتجلى أهمية هذه الكتب في تعدد مخطوطاتها ووجودها في معظم المكتبات الشهيرة : المكتبة البلدية بالإسكندرية ، المكتبة الخديوية بالقاهرة ، مكتبات استانبول في تركيا ، مكتبات ليدن بهولاندا ، المكتبة الوطنية بتونس ، مكتبات أكسفورد ببريطانيا ، والظاهرية بدمشق وسواها .
إهتم المستشرقون بالكثير من هذه الكتب تحقيقا ونشرا وترجمة ، خاصة المستشرق كارا دي فو الذي نشر قسما منها في المجلة العلمية الفرنسية ، كما نشر الأب لويس شيخو اليسوعي شيئا منها في مجلة المشرق .
وإذا كانت هذه مؤلفاته فإن ترجماته لاتقل أهمية ، فقد استدعاه الخليفة المستعين بالله إلى بغداد (248 – 252 ه) وعهد إليه بأعمال الترجمة لعدد من الكتب الطبية وإعادة النظر في ترجمات قديمة .
فترجم قسطا لن لوقا عيون الكتب في التراث اليوناني منها :
– كتاب الأصول لأقليدس .
- أصول الهندسة لأفلاطون .
- في الفلاحة اليونانية أوالرومية .
- المجسطي .
- كتاب أرسطو عن النوم والأحلام وطول العمر .
- مبادىء الفلسفة لأرسطو والكون ، والفساد لأرسطو كذلك .
- تعاليم الفلسفة أحد أهم المصادر الرئيسة التي اطلع العرب من خلالها على الفلسفة القديمة .
من خلال هذه الترجمات وخصوصا الطبية منها تجلت أهمية قسطا بن لوقا في الترجمة بشهادة كثيرين أمثال إبن سينا الذي قال فيه أنه ” كان ناقلا خبيرا باللغات فاضلا في العلوم الحكمية وغيرها ” .
لقد أجمع المؤرخون على التنويه بمكانة صاحبنا في الترجمة وعلى طول باعه فيها من خلال حذقه للغات اليونانية والسريانية والعربية ؛ وإذا كان هناك من يرى في حنين بن إسحاق المسمى ” ربن إسحاق ” أي المعلم والذي كان المأمون يعطيه ثقل ما يترجم ذهبا لأهمية ترجماته ، فإن هناك من يذهب إلى أن قسطا بن لوقا تجاوز حنين في الترجمة ، حيث كلف بمراجعة الكثير من الترجمات القديمة وإعادة النظر فيها ، وفي ذلك يرى إبن النديم ” أن قسطا بن لوقا كان يجب أن يقدم على حنين لفضله ونبله وتقدمه في صناعة الطب ” .
- رحلاته :
هذا الزاد من العلوم والمعارف ، وتلك الذخائر من المؤلفات كان ثمرة دأب من صاحبنا طاف من أجلها في سائر مواطن الحضارة آنذاك حيث المخطوطات النفيسة والمؤلفات والكتب القيمة ، زار بلاد الروم وتركيا بهدف الإطلاع على مؤلفات اليونان وكتبهم ، وحمل معه منها ما تيسر له أثناء عودته إلى بغداد ، وترجمها إلى العربية .
- رسالة في تدبير سفر الحج :
إنها نظام طبي للحجاج إلى مكة المكرمة ، وهي رسالة توجه بها قسطا بن لوقا إلى إبن مخلد ، الحسن بن مخلد بن الجراح المكنى أبو محمد ؛ كان مسيحيا واعتنق الإسلام ، وكان قد خدم قي بلاط المتوكل (232 – 247 ه) ، ثم وزر للمعتمد مرتين (232-247 ه) .
كان إبن مخلد قد عزم على أداء فريضة الحج ، وكان قسطا على ما يصرح يرغب بمرافقته لكن ذلك لم يتم : يصرح بذلك في سياق حديثه إلى ابن مخلد أنه كان يتمنى مرافقته ” لولا صبية أغراء لا يمكن التغرب عنهم ” ؛ فهل حقا أن هذا السبب كان وراء عدم مرافقته ، وهل يحق له وهو مسيحي أن يتوجه إلى مكة ؟!
مهما يكن من أمر فقد توجه قسطا بهذه الرسالة إلى إبن مخلد لتكون زاده في سفره إلى الحج ، ودليلا يرجع إليه في كل ما يمكن أن يتعرض له في سفره ، وينوّه بأنه قدم فيها ” كل ما يحتاج إليه بهذه المعاني على ما قاله الأوائل في ذلك ” . إذن الرسالة تنوب عن حضور صاحبها بعض النيابة ، ويستهلها مخاطبا إبن مخلد : ” التأهب أعزك الله لما لا يؤمن حلوله ، والإستعداد لكل ما تحتاج إليه من قبل وقت الحاجة إليه من الحزم وقوة الفكر وصحة التمييز ، وقد اعتزمت أعزك الله من هذا السفر على ما أسأل الله أن يعظم بركته عليك وأن يرزقك فيه السلامة ومحمود العافية ، ويجزل لك الثواب ويحسن صحابتك فيه ” .
تكتسب الرسالة أهميتها من وجهين :
- تتضمن التدبير الذي يحتاج إليه الإنسان في السفر بالجملة ، بشكل عام ، في كل زمان ومكان
ب – ثم ما يحتاج إليه من التدبير في السفر إلى الحج خاصة .
يوضح قسطا بن لوقا المعاني العامة للأسفار بقوله : ” الأشياء التي تحتاج إلى علمها من أمر تدبير الأبدان في الأسفار بالجملة هي أربعة معان :
الأول منها العلم بالتدبير في وقت الراحة والطعام والشراب والنوم والباه .
الثاني العلم بأصناف الأعياء والشيء الذي يذهب بكل صنف منه ,
والثالث العلم بالعلل التي تعرض من هبوب الرياح المختلفة وعلاجها .
والرابع العلم بالتحرز من الهوامّ وعلاج آفاتها إذا وقعت .
فهذه الأشياء التي تحتاج إلى علمها والعمل بها في الأسفار كلها .
أما سفر الحج ، فمع الحاجة فيه إلى هذه المعاني قد تخصه أربعة معان أخر:
الأول منها العلم باختلاف المياه وإصلاح الفاسد منها .
والثاني الإحتيال في عدم الماء وقلته وما يقطع العطش .
والثالث العلم بالتحرر من الأشياء التي يولد منها العرق المدني وهيجان البواسير .
والرابع التحرز من الحيات والعلاج من آفاتها .
هذا في ما تتضمنه الرسالة على العموم ، ويفصل قسطا هذه العناوين قي 14 بابا يوردها على الشكل التالي :
- الباب الأول : كيف ينبغي أن يكون التدبير في نفس المسير وأوقات الطعام والشراب والنوم والباه .
- الباب الثاني : في الأعياء وعما يحدث وكم أنواعه وبأي شيء يعالج كل شيء منه .
- الباب الثالث : في أصناف التغميز وذلك أسفل القدم ، في أي حال يحتاج إلى كل صنف من أصناف التغميز وفي أيها يحتاج إلى ذلك القدم .
- الباب الرابع : في العلل التي تتولد من هبوب الرياح المختلفة الهواء .
- الباب الخامس : في وجع الأذن الذي يعرض كثيرا من هبوب الرياح الشديدة الحر والبرد وعلاج ذلك .
- الباب السادس : في الزكام والنوازل والسعال الذي يعرض من اختلاف الهواء وعلاج ذلك .
- الباب السابع : في علل العين التي تعرض من اختلاف الهواء والغبار والرياح وعلاج ذلك .
- الباب الثامن : في امتحان المياه المختلفة ليعلم أيها اصلح .
- الباب التاسع : في إصلاح المياه الفاسدة .
- الباب العاشر : في عدم الماء الإحتيال لما يقطع العطش .
- الباب الحادي عشر : في التحرّز من جميع الهوام ّ.
- الباب الثاني عشر : في علاج لسع الهوام كلها .
- الباب الثالث عشر : في البيا بماذا يتولد العرق المدني وبماذا يتحرز من تولده .
- الباب الرابع عشر : في وصف علاج العرق المدني إذا تولد في البدن .
واضح من أبواب الرسالة ومضامينها أن قسطا بن لوقا يرى أن الجسم البشري يحتاج إلى عناية خاصة ليقوم بواجبه ووظيفته القيام الصحيح ، معتبرا أن الغذاء هو أول ما يجب أن يعتنى به ، من تناول الغذاء في أوائل المسير أو في وسطه وليس في أثنائه ، ويذكر ما يتغذى به المسافر من كعك وسكر مع الماء البارد وشراب الخوخ والإجاص ؛ وفي حالة الإعياء تكون الحمية من جميع الأشياء الظاهرة الحرارة التي تولد أخلاطا رديئة حارة ، ويلفت النظر إلى أهمية الماء وتقيم الفاسد منه .
يظهر قسطا أمينا عندما يشير إلى أنه يقدم في الرسالة ” كل ما يحتاج إليه من العلم بهذه المعاني على ما قاله الأوائل ” ؛ ومن خلال مصادر ثقافته الطبية فإن أبرز أولئك الأوائل هم أبقراط وجالينوس وبولس الإجيني .