الرئيسية / أبحاث / بحث بعنوان : في مواجهة التطبيع الثقافي

بحث بعنوان : في مواجهة التطبيع الثقافي

IMG-20140521-WA0016

باسمه تعالى
بحث بعنوان : في مواجهة  التطبيع الثقافي
إعداد : الأستاذة نبال رعد – لبنان
كلمة لمؤتمر أدب المقاومة ومواجهة الحرب الناعمة – كلية الآداب، زحلة

الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنّ الثقافة اليوم بمختلف أدواتها تشكل الميدان الارحب والسلاح الأمضى لتغيير معتقدات الشعوب وقيمها وعاداتها وتقاليدها. إنّها أداة غسل الادمغة وجعلها قابلة للتشكل، مطواعة تقبل ما يعرض عليها. فباسم الثقافة والانفتاح وقبول الآخر ترفع شعارات التطبيع مع العدو، فتغدو كل النتاجات الثقافية والادبية والفنية وحتى الاستهلاكية مقبولة دون أي تردد أو مراجعة أو تدقيق، فتختلط الحقائق وتتشوه الصورة حتى تكاد تكون مبهمة يضيع اللبيب في كشف أسرارها وتضرب الغشاوة عيون الجماهير.
لقد اتخذت الثقافة شكل الحرب منذ أوائل السبعينات حيث أطلق عليها تعابير وأدبيات مختلفة من قبيل الغزو الثقافي، الإغارة الثقافية، حلف الناتو الثقافي، واخيرا الحرب الناعمة.
ولأن لكل فكر مرجعية ارتايت أن تكون مرجعية ما سأقدمه في مقالتي حول الغزو الثقافي والحرب الناعمة هي مرجعية الامام السيد على الخامنئي حفظه الله.
إن التمييز بين الغزو الثقافي والتبادل الثقافي أمر شديد الدقة ، فالتبادل الثقافي مسألة لا تخفى ايجابيتها على أحد، التبادل الثقافي أغنى الشعوب ونهض بها نحو الرقي والتقدم والحضارة، وإن  الديانات على اختلافها ما كانت اتنتشر لولا التلاقح الفكري والتبادل الثقافي. هذا القول دقيق وصحيح ولا يجرؤ أحد على معارضته، إلى أن أًلبست الثقافة لبوس الغزو والمآرب السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأصبحت أسلوبا من أساليب الحرب واستراتيجية لا يقل خطرها عن القوة الصلبة ولا يؤمن جانبها، فبتنا امام مقولتين يكاد الفرق بينهما  يكون شاسعا لدرجة التضاد.الغزو الثقافي مقابل التبادل الثقافي.

يسوق الامام الخامنئي المثال التالي للتمييز بين المقولتين فيقول:” إنّ الأمة في خضم الغزو الثقافي تكون عبارة عن انسان مريض ملقى على الارض ولا يقدر على الحراك ويأتيه عدو له ليداويه بدواء يختلف جوهريا عن الدواء الذي يختاره المريض بنفسه وبارشاد الطبيب” .
إن التمايز بين الغزو الثقافي والتبادل الثقافي يبرز في أمور عدّه أهمها، أنّ التبادل الثقافي يكون في حال القوة، أما الغزو الثقافي فيكون في حال الضعف، فعندما يتكون لدى شعب من الشعوب ثقافة ذاتية تدافع عن حيثية ذلك الشعب، فإنّ أوّل خطوة تلجأ إليها الدول الغزية ثقافيا هو سلب الثقافة من أصحابها، وفي هذا المجال يذكر السيد الخامنئي القصة التالية ” أن عدّة لصوص ذهبوا لسرقة أموال ناس نيام، يقول ، إن اوّل عدو هجم عليهم كان نائما معهم، قام هذا العدو الداخلي بشد أعينهم وتقييد أيديهم، ثم ظهر العدو الخارجي وأتى على ما لديهم”.
فالغزو الثقافي تماما كالعمل الثقافي يتم بهدوء ودون ضجيج إنه يشبه تماما ما يقال عن أن شخصا سأل الآخر ماذا تقعل فأجابه أقرع طبلا، قال لماذا لا يخرج منه صوت؟؟ أجابه سوف يخرج صوته غدا.
وعليه فلو لم يتيقظ الشعب والمسؤولون الثقافيون فإن صوت انهيار القيم المعنوية الناشئ عن الغزو الخفي للعدو سوف يسمع بعد فوات الأوان ولات حين مناص.
إن العولمة التي غزت العالم تؤكد الكثير من المعطيات السلبية لمفهوم الغزو الثقافي، حيث تهميش الثقافات الفرعية، والهيمنة على قيم الشعوب الأخرى ومفاهيمها واستزراع قيم جديدة متصالحة مع قيم العولمة والتي تتحالف فيها مؤسسات السوق والثقافة على حد سواء.
أمام هذه الحقيقة تأتي الدعوة إلى تأسيس وعي جديد يقوم على مبدأ المقاومة الثقافية، وقد طرح السيد الخامنئي عددا من الطروحات تخدم هذا المبدأ ومنها:
–    إن مفهوم الغزو الثقافي خطر لا بد من الاعتراف به وبالتالي الاستعداد لمواجهته خاصة وأن التبادل الثقافي حاجة للشعوب والأمم فلا ينبغي إغلاق الباب أمام الثقافات الاخرى ، لكن ينبغي نقد الواقع الديني القائم واعتباره دون مستوى مقاومة الثقافة الأخرى ومحاورتها. ولذلك تنشأ بعض التيارات الثقافية التي تتبنى أطروحات الغرب الثقافية دون وعي ومناظرة.
–    إننا اليوم في عالم لم يعد متاح لنا فيه إلا أن نتعامل مع دخول الثقافة الغربية والغزو الثقافي، بالأخص بعد أن سقطت الجدران والأسوار الحديدية التي كانت تحيط بعض البلدان، ولم يعد أحد بقادر على رفع سياج حول بلده، لا بل حول بيته.
–    إن الغزو الثقافي الذي نتناوله في بحثنا ليس فقط غزى العالم الاسلامي أو شعوب الدول النامية ، إنما ايضا يطال الدول المتطورة والدول الاوروبية، ففي فرنسا صدر العديد من المؤلفات والكتابات التي تتحدث عن هذا الغزو الثقافي وتحذر منه مثل كتاب ( الحرب الثقافية لهنري غوبار Henry Gubar  وفرنسا المُستعمَرة لجاك تيبو Jack Tubo ) بالاضافة إلى معالجات تناولتها الصحف الفرنسية كان من بينها ما كتبه رئيس تحرير LE monde في شهر تموز 1980 العدد الرابع بعنوان حيث تنتصر أمريكا.
–    إنّ ما يهدف اليه الغزو الثقافي هو خلخلة البناء الاجتماعي لمجتمع الدولة والى تحييد القطاعات الشابة وعزلها عن الدولة من خلال تحويلها الى فئات عاطلة، فاسدة، مخربة، عرضة لاغراءات عملية ولافساد سلوكي، لا يفلح الفكر والتوجيه وحده في مواجهته، بل لا بد من تحصين المجتمع وتأمين حاجاته حتى لا ينفلت الفرد ولا ينهزم أمام غزو الواقع. لأن الغزو الثقافي ظاهرة تتحرك في المحيط الاجتماعي وتعكس حركتها ومضمونها بأوضح ما يدل عليها.
يقول الامام الخميني (قده) إنّ أخطر أنواع تبعية الشعوب المستضعفة للقوى العظمى هي التبعية الفكرية والداخلية، لأنّ التبعيات تنبع منها ما لم يتحقق الاستقلال الفكري لشعب ما، لن يحقق استقلاله في الابعاد الأخرى، وللخروج من سجن التبعية، يجب ان نستيقظ من الغفلة التي فرضت على بعض فئات الشعب، لا سيما العلماء والمفكرين والمثقفين، وأن نعي هويتنا ومفاخرنا ومآثرنا الوطنية والقومية والثقافية ، لأن الافراد والمنظومات البشرية تتعرض للاخطار دائما من ناحيتين، الاولى من داخل أنفسهم والثانية من ضعفهم وتذبذبهم.
ولكي يخاض الغزو الثقافي بطريقة فعالة تؤتي أُكلها، كانت استراتيجية الحرب الناعمة التي لا يتوهمن أحد أنها منفصلة عن أي تحرك له صلة بالعمل الاستخباراتي والعسكري والعملاني على الأرض، فهذه الحرب ليست فقط حربا اعلامية أو ثقافية أو سياسية. يقول المنظر العسكري التاريخي كارل فون كلاوزوفيتز ” الحرب الناعمة عي عمليات مستمرة من العلاقات السياسية ولكنها تقوم على رسائل مختلفة، إن لكل عصر نوعه الخاص من الحروب والظروف الخاصة والتحيزات المميزة”
ففي معادلات القوة الناعمة نرى أنّ كل فضائية تعادل سرب طائرات، فوسائل الاعلام في هذا العصر لها قدرة تدميرية تعادل القنبلة الذرية، وكل مقالة أو تصريح يوازي كمينا بعبوة ناسفة متفجرة في قوته الناعمة، وكل موقع أو شبكة انترنت تعادل مدفعا ثقيلا.
فهل لنا ان نتخيل الغزو الثقافي وتأثيراته الكبيرة فيما لو قيس بالحرب الصلبة.
إن تكليف المثقفين والشباب للمواجهة في هذه الحرب يجب أن يكون وفق أساليب وآليات الرد الثقافي والاعلامي والكلاسيكي، إذ أن أي صنف من الرد العادي والكلاسيكي المتعارف عليه في عالم الثقافة والاعلام الذي يرتكز على أساس أنّ هناك صراعا حضاريا وفكريا وثقافيا ينم عن فهم مبتور للقضية برمتها. بل ينبغي الرد من خلال تأسيس فضائيات ومواقع انترنت وصحف ومؤسسات تعمل على ابتكار استراتيجيات وتكتيكات إعلامية وثقافية مضادة على ضوء المعارف والخبرات والمعادلات العملية لمواجهة الحرب الناعمة في إطار خطة مدروسة ومضادة لا تهدر الطاقات ولا تضيع الاوقات في بث برامج ومواد خارجة عن السياق ولا صلة لها بمواجهة هذه الحرب الدائرة.
يقول جوزيف ناي  ” إن القوة الناعمة تعني التلاعب وكسب النقاط على حساب جدول أعمال الآخرين بدون أن تظهر بصمات هذا التلاعب ، وفي نفس الوقت منع الآخرين من التعبير عن جدول أعمالهم وتفضيلاتهم وتصوراتهم الخاصة، إنّها علاقةجذب وطرد وكراهية، حسد وإعجاب.”
إن هذه الحرب ترتكز على كل المؤثرات والرموز البصرية والاعلامية والثقافية والاكاديمية والبحثية والتجارية والعلاقات العامة والدبلوماسية، وكل مورد أو مفردة أو أداة لا تدخل ضمن القدرات والامكانات والادوات العسكرية المصنفة ضمن القوة الصلبة، وبناء عليه فكل مورد للقوةلدى الخصم يصبح هدفا في إطار الحرب الناعمة ويجب على هذا الأساس اعتبار الطلاب ورجال الاعمال ورجال الاعلام والكتاب والشباب ورواد الانترنت وعلماء الدين وبالعموم كافة النخب نخب المجتمع والرأي العام أهدافا محتملة للحرب الناعمة والغزو الثقافي.
وإن أكثر ما يخيف في هذه الحرب هي القدرة على اجتذاب الناس نحو البيئة والسياق والفخ السياسي المستهدف في إطار  وغلاف وظروف ديمقراطية أو تحت شعار مطلبي أو اصلاحي ملائم، وهذا أسهل  من إرغام الناس على تنفيذ  التوجيهات المباشرة بصورة فجة وصريحة. بكلام آخر إدارة دفة الأحداث بأسلوب ناعم وبدون بصمات.
يشبه السيد الخامنئي أسلوب الحرب الناعمة بمسرح الظل فيقول :” إن طريقة العدو في إدارة اللعبة عن بعد عبر صناعة كاريكاتور ثورة اسلامية مضادة من الداخل، ترفع شعارات مضادة ويقومون بتحريكها مثل الظلال التي تتبع وتقلد حركة البطل، فيقومون بتقليد دور الأبطال ودور الثوار . إنّ خلط الأوراق وإثارة الأحداث من وظائف الحرب الناعمة، أي أنها تخلط الحق بالباطل وترفع شعارات اصلاحية وعقلانية تصل الى قيام العدو بإدعاء مدّ يد العون وهذا ما يضيع البوصلة الصحيحة للأحداث والقضايا. إنها تضليل للشعب” الرأي العام” بشعارات ظاهرها حق ولكن محتواها باطل.

أمام تعقيدات هذه الحرب نجد أنّ ثلاثية البصيرة واليقظة والعزيمة، التي اشار اليها السيد علي الخامنئي، ترسم أطرا أساسية للتعامل مع هذه الحرب. فالوظيفة الاساسية في مواجهة التطبيع الثقافي والحرب الناعمة تتجلى في توعية وتثقيف الناس وكشف أهداف العدو أمامهم، والعمل بصورة عكسية، فإذا كانت اهداف العدو بث التشاؤم ينبغي بث الأمل، وإذا كان العدو يهدف الى تمزيق اللحمة الوطنية فيجب أخذ الإجراءات الكفيلة بتعزيز الوحدة.
إنّ من ابشع المفارقات التي نشهدها اليوم هي التطابق الذي يكاد يكون حد اللحمة بين مصالح العدو ومصالح ابناء جلدتنا ومعظم أنظمتنا العربية.
لذلك علينا السعي بكل طاقاتنا لنتمتع بقوة ناعمة مميزة من الجانب العلمي والثقافي والايديولوجي والسياسي، كي نتمكن من التأثير لا من التأثر ولكي نكون الفاعل لا المفعول به، فالبلد الذي يمتلك قابليات ثلاث ” الجاذبية الثقافية”و” النموذج السياسي الفعال الكفوء” و السياسة الخارجية المقبولة”، يؤثر على ثقافة ونماذج القوالب الاجتماعية للبلاد الأخرى ويفرض إرادته عليهم بشكل مباشر أو غير مباشر ويعمد الى حفظ مستوى الثقة ببيئته القومية الوطنية.

دمتم بأمان الله وحفظه
نبال رعد
في 21-5-2014

شاهد أيضاً

الدكتورة هبة العوطة: دراسة حول رواية “والهة على درب زينب”

دراسة حول رواية “والهة على درب زينب” الدكتورة هبة العوطة* بسم الله الرحمن الرحيم ،والحمدُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *