الرئيسية / خواطر / يوم رحل العماد

يوم رحل العماد

p02_20110714_pic1

ماجدة ريا:
اهتزّ السكون، جيوش من الغيوم الداكنة جاءت من هنا وهناك، تصادمت محدثة شريطاً لامعاً طويلاً، ودوياً استيقظ معه كل كائن من شدّته، انكشف معه ظلام تلك الليلة الحالكة السواد، استمرّ ذلك الشريط اللامع يرتجّ أمام العيون التي نهضت فزعة من سباتها لتنظر إليه، فتشيح عنه مسرعة لشدّة توهّجه.
نهض حيدر مسرعاً، تسمّر أمام النافذة، يحدّق نحو البعيد، يحاول أن يستكشف ما يجري..
متسائلاً في نفسه: “هل هو حلم؟”
أطال النظر في السماء يبحث عن جواب يهدّئ روعه، فتستكين أعصابه التي جعلته يرتجف كما لو كان في يوم عاصف شديد البرودة، لم يأته جواب شاف، وكأن شيئاً لم يحدث…
ذلك القنديل الكبير ما زال معلّقاً في مكانه حيث تركه البارحة قبل أن ينام، وما زال يتلألأ وسط تلك اللآلىء المتناثرة في السماء، حتى الهواء ما زال ساكناً بالكاد تتحرّك معه أغصان الشجر.
وضع معطفاً على أكتافه، وخرج يتمشّى في الحديقة، رغم برودة الطقس، برودة تلازم أيام شهر شباط ولياليه، خرج لأنه كاد يشعر بالإختناق داخل غرفته، مشى ببطء، وكأنّه يعدّ بلاط الرواق حيث ثبّت نظراته، أما أفكاره فكانت ما زالت مشوّشة فيما أحسّ أنه رأى، يحاول أن يتأكد، هل كان ذلك حقيقة أم حلماً.
تهيّأ له أنه يسمع أصوات تكبير وتهليل تتردّد في السماء، أصاخ السمع جيداً، آذانه تسمع بوضوح ذلك التكبير، تساءل برهبة “أيمكن هذا؟ ربما هو رأسي المشوّش الذي يجعلني أسمع وأشعر.. ولكن ما الذي يحدث لي؟!”
كانت ليلة طويلة، بزغ بعدها فجر يوم جديد، مشى بخطى متثاقلة نحو عمله، كان متعباً لأنه لم ينم جيداً، ولأن ما جرى أثناء الليل ما زال يتردّد صداه في ذهنه، يحاول أن يبحث عن هدوء يُفترض أن يعيد إليه طبيعته وسكونه، فإذا به يواجه في مكان العمل صمتاً ثقيلاً لم يعهده من قبل، وكأنه ترقّب لحدث صاعق.
جال بعينيه المتعبتين في المكان، فتراءى له أنه يرى صاعقة الليل في عيون الجميع، وشبّت في قلبه نار حامية، وكان آخر شيء وقع نظره عليه في تلك الغرفة التي جمعته ببعض الزملاء، هو التلفاز حيث كان يبث قراءة للقرآن الكريم، وخبر مكتوب عن استشهاد قائد جهادي كبير..
تجمّد في مكانه، وشخصت العيون باتجاه التلفاز لمعرفة من هو هذا القائد، وعندما قرأ الإسم حرفاً حرفاً، مسّت الحروف أعماق قلبه، هناك حيث كان هذا الإسم ينبض بصمت “الحاج عماد مغنية”
“لا … لا يمكن! كيف يحدث هذا”
لم يستطع أن يمنع تساقط دموع حارة على خديه، وكانت كل الخدود قد ابتلت، والقلوب التهبت، وثارت الدماء  تغلي في العروق.
كان حيدر من بين قلة من الناس الذين يعرفون أن الحاج عماد مغنية هو ذاته الحاج رضوان، وكان يدرك تماماً ما هو موقع هذا الرجل العظيم وما معنى اندماج هذين النورين في نور واحد ارتفع فجأة إلى السماء، فأصبح أكثر توهجاً وسطوعاً لينير دروب العالم بأسره من عليائه، بعد أن كان سنى نوره قد تغلغل في دروب المقاومين شعلة ضياء لا تنطفىء.
وقف حيدر غاضباً، أخذ يروح ويجيء في الغرفة ويفرك في كفيه والنار تتوثب في عينيه، تبحث عن سبل لحرق المعتدين، لم يكن قادراً على الوقوف في مكان واحد.
أخذ يتفرّس في وجوه الرفاق حيث بدا الحزن واضحاً، والنقمة جليّة في وجوه الجميع، وكأن الإستنفار العام قد أعلن على حين غرة، والجميع متحفّز لنقطة الإنطلاق، لكنهم ينتظرون صافرة لم تطلق بعد.
دخل إلى غرفة حسين زميله ورفيقه ليجده قد وضع يديه في قبضة تحت ذقنه وكأنه يمسك قبضته من أن تفلت منه لتلاكم ما يصطدم بطريقها، وكانت نظراته لا تقل توثّباً عن حيدر، اقترب منه هذا الأخير واضعاً يديه على المكتب وقد التقت نظراتهما في حقل من حريق، سأله:
“هل سمعت؟ هل سمعت الخبر؟!”
هز رأسه، واختنق بعبرته!
“هذا أمر عظيم! لم أتصور أنه يمكن أن يحدث يوماً!”
“إن قائداً عظيماً مثل الحاج رضوان، لا يمكن أن تنتهي حياته إلاّ بهذا الشكل، شهادة عظيمة تفتح لنا الطريق أمام مجد آخر للمقاومة”
“لكن هذا مؤلم جداً! لا يمكن احتماله”
“سننتقم لدمائه الزكية يا حيدر.. سننتقم”
“أكيد سننتقم! أكيد”
كان يقول ذلك بحدّة قويّة حتى لكأن كل عضلة من جسمه هي التي تتوعّد.
جلس دقائق قليلة شعر بها وكأنها دهر طويل، لكنه كان يشعر أن دماءه تفور، نهض مسرعاً وهم بالخروج فاستوقفه حسين بقوله:
“إلى أين أنت ذاهب؟”
” لا تلمني حسين، أشعر أنني لست قادراً على المكوث في مكان واحد، سأذهب إلى علاء لأرى ماذا لديه.”
هز رأسه موافقاً معه، فهو يعرف كم أن حيدر شديد العصبية والتوتر، لكنه أردف قائلاً:
“إذا علمت شيئاً أخبرني”
“ان شاء الله”
كان علاء يبدو هادئاً رغم هذا الخبر الصاعق الذي فجّر غضباً في كل القلوب، لكن نظراته كانت تبدو أكثر حزماً ومليئة بالتحدي، وجّه كلامه إلى حيدر قائلاً:
” هلاّ هدأت قليلاً؟”
” كيف أهدأ بعد الذي حدث؟ لا استطيع”
“بل عليك أن تهدأ”
” يجب أن نفعل شيئاً، يجب أن نرد بقوة”
“بالتأكيد سنرد يا حيدر، ولكن الرد الإنفعالي لا يجدي، هذا الرد لا بد وأن يكون غير كل الردود”
” وهل سننتظر طويلاً؟ أشعر أنني بحاجة لأن أفجر نفسي في ذلك الكيان الغاصب”
“هلاّ هدأت يا حيدر؟ كل شيء في أوانه جميل”
كانت نبرة صوت علاء تشي بالقوة والصرامة، مما دفع حيدر إلى الصمت لكن الثورة في داخله لم تهدأ أبداً.
” والآن علينا الكثير لنفعله، علينا الذهاب للمشاركة في التحضير للتشييع”
مسح وجهه براحة يده محاولاً خنق عبراته، وهو يحسد رفيقه على رباطة جأشه رغم معرفته بمدى حبه وإخلاصه للشهيد، لكنه رجل يستطيع أن يتحكّم جيداً بعواطفه.
كان يوم التشييع مهيباً، لم يشهد له لبنان مثيلاً من قبل، تذكر حيدر مباشرة يوم احتشد الناس في مثل ذات الشهر قبل سنين، كان ذلك في 16 شباط من عام 1992 يوم استشهد سيد المقاومة السيد عباس الموسوي رضوان الله عليه، كان أيضاً يوماً عظيماً، هكذا تكون أيام القادة الشهداء وهم يحملون على أكفّ أحبتهم، عظيمة، زاخرة بالعطاء، لا تنسى.
اليوم المشهد ربما أقوى وأشد، سيما وأن مؤيّدي المقاومة في تزايد مستمر، وبعد كل تلك السنوات، وبعد الإنتصارات التي كان الشهيد الحاج رضوان قائدها، جاء المشهد أقوى من كل الكلمات والعبارات.
كان حيدر يتزاحم مع الكثيرين من أجل الوصول إلى نعش الشهيد، حيث ارتفعت الأيادي للتبارك منه، ولم يستطع أن يغالب دموعه عندما استطاعت يده أن تمر على نعش الشهيد، شعر كأنه يلمس قطعة من الجنة، ولكن النيران في قلبه بقيت مستعرة لا يطفئها سوى رد يقصم ظهر العدو.
عندما عاد في أواخر النهار إلى المنزل، كانت زوجته قد عادت أيضاً لتوّها من الحسينية التي اجتمعت فيها النساء، من أجل المباركة بالشهادة، وإقامة العزاء.
كان التأثّر بادياً على محيّاها، والحزن جلياً في رنّات صوتها:
“أتعرف يا حيدر أن والدة الشهيد امرأة عظيمة؟”
“يكفي أن تكون قد أنجبت وربّت مثل الشهيد عماد لتكون عظيمة”
“نعم لكنني أقصد موقفها اليوم، لقد فاجأ الجميع”
“أعرف رباطة جأشها وحبها للمقاومة، ليست هذه المرة الأولى، فقد قدّمت شهيدين قبل الآن”
” أتعرف ماذا قالت اليوم؟”
“ماذا قالت؟”
“إنها حزينة لأنه لم يعد لديها أبناء لتقدّمهم شهداء في هذا الطريق، لقد خجلنا من كلامها، كانت النظرات تلاحقها بذهول بينما هي تقبع في عرش تواضعها، هنيئاً لها..”
لفظت كلماتها وهي تغالب دموعها، ولم تستطع إلا أن تجهش بالبكاء.
“هنيئاً لها”
في اليوم التالي كان حيدر يسير في الطريق فتلتقي عيناه بتينك العينين اللتين ما زالتا تضجّان بالحياة، حتى وهما في صورة احتلّت كل الأماكن والقلوب، كان يبدو وكأنهما تتحدّثان مع الناظر إليهما تسألانه: “لكم عشت بعيداً عنكم وانتم في قلبي ووجداني، فهل عرفتموني الآن؟”.
هي صورة تشدّ الناظرين إليها بخيط الحنين إلى الأرض ومشهد الأسطورة المتبلورة من الإنتصار في تموز.
كان يطيل النظر إليه وكأنه كان يتحدث معه، ثم يتابع طريقه وكل نبض فيه يتوعد أن يقتص من العدو الصهيوني، وعندما التقى بحسين سأله هذا الأخير:
“أتعرف؟ لم يتجرّأ العدو الصهيوني على تبني العملية”
“الجبناء! لكن أصابعهم واضحة مهما أنكروا؟ كما أنني سمعت رئيس الموساد يتكلم عن العملية وعن نجاحها”
“صحيح لكن جبنهم يمنعهم من تبني العملية مباشرة ، أما رئيس الموساد فيعتبر ذلك انجازاً عظيماً حققه بعد سنوات من الجهد والملاحقة لقائد عظيم مثل الشهيد عماد، فهل تريده أن يتخلى عن الإعلان عن انجازه الآن؟ إنهم يعيشون لدنياهم فقط..!”
“نعم، لكنهم سيقعون في شر أعمالهم، وسيرى هو ورؤسائه في أي جحيم أوقعهم هذا الإنجاز!.”
“أنه أكثر من جحيم، لقد أعلنوا أعلى درجات الإستنفار في كل اسرائيل تحسباً لأي رد”
“كم أتحرّق لتلك اللحظات، لن تنطفىء نار قلبي إلا بها”
“توكل على الله يا رجل، فالرد آت لا محالة”
“ونعم بالله”
كان علاء قد وصل لينضمّ إليهما وقد سمع الجمل الأخيرة فخرجت منه كلمات بدا واضحاً أنها تحوي الكثير من السخرية بهذا العدو:
” تقول أعلنوا الإستنفار في اسرائيل؟ ”
“صحيح، هذا ما سمعته”
“بل هم أعلنوا أعلى درجات الإستنفار في كل العالم، في كل بقعة يتواجد عليها إسرائيلي، إنهم يعيشون في حالة من الرعب الحقيقي، يطلبون من كل الإسرائيليين في العالم أخذ الحيطة والحذر، أما المسؤولون.. فلا تسأل.”
قال حسين: “حماية وأمن مشدّد.. ولكن أين سيهربون عندما تحين الساعة القاضية.”
مسحة ابتسامة ساخرة من احتياطات العدو علت وجه علاء وهو يجيب:”صحيح”
“إنها أخبار طيبة، لكن لن يشفي غليلي إلاّّ..” قال حيدر ذلك وهو يضم قبضة يده ويلقي بها نحو الطاولة بحركة تنم عن عصبية ظاهرة، فسأله علاء:
“حيدر! هل تشك في أنه سيكون هنالك رد على هذا الإغتيال؟”
أجاب حيدر بشكل حاسم: “بالتأكيد لا، لا أشك في ذلك أبداً”
علاء: “إذاً لا تستعجل الأمور، قلت لك أن كل شيء سيأتي في أوانه”
حيدر: ” نعم، لا بدّ وأن ذلك اليوم سيأتي!”
وهنا تدخل حسين قائلاً:
” وحتى ذلك اليوم دعهم يعيشون جحيم الرعب من هذا الرد قبل أن يتذوّقوه.”
أغمض حيدر عينيه وهو يتمتم:
“اللهم انصرنا على أعدائنا يا رب العالمين.”

شاهد أيضاً

لقاء مع الفنانة الدكتورة خولة الطفيلي

شارك الملتقى الثقافي الجامعي بشخص رئيسه البروفسور علي زيتون وعدد من أعضائه في اللقاء الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *