الرئيسية / قصص / شظايا

شظايا

coffin

سعيد ابو نعسة:
ترِكّ تراك .. ترِكّ تراك .. ترِكّ تراك…….
هذا الصوت ليس دقّات ساعة رتيبة ؛إنه وقع أقدام .
أسمعه يتناهى إليّ وأنا بين الصحو و النوم .
لن أتزحزح من مكاني حتى ينجلي الأمر ؛ ما هي إلا لحظات و يُقرع باب البيت إن كانت الأقدام تُجرجر نفسها نحوي؛ و لربما يتخافت الصوت شيئا فشيئا حتى يطويه النسيان إن كان السائرون مارّين من أمام البيت. بعد انصرافهم سأعود إلى الاسترخاء في نوم عميق عميق .
لكنّ ظنّي يخيب فلا الباب يُقرع و لا الصوت يتلاشى .
وقع الأقدام يطوّقني .. يجتاح سمعي بوتيرة واحدة ،لا تتبدّل و لا تتغيّر .
هوَ لا يشبه وقع أقدام الراقصين في حلقات الدّبكة الشعبية ،إيقاعه الموسيقي مشوَّش هنا ؛يتداخل فيه صوت احتكاك النعال بالطريق مع ثرثرات مُنتعليها .
أسمع أحدهم يصرخ بصوت عالٍ: وحّدوا !
وأسمع مُصدري الأصوات المبهمة يقطعون ثرثراتهم صارخين : لا إله إلا هُوْ .
أين تراني رأيت مثل هذا المشهد ؟
أين ؟ أين ؟
أجل ! الجنازة بكل تأكيد .. الجنازة !
ولكنني لا أسير في جنازة .. الظلام مطبقٌ عليّ.
يا إلهي أيعقل أن تكون هذه جنازتي دون أن أدري ؟
أنا لا أرى شيئا على الإطلاق .. ظلام دامس يلفّني .. و جوّ خانق يحجب عنّي الهواء .
مَنْ حشرني في هذا الظلام ؟ أنا الميت إذًا .. و هذا الذي يتمايل بي فوق الأكتاف هو التابوت .
ماذا يجدر بي أن أفعل ؟
إن تحرّكتُ داخل التابوت فسيشعر حاملوه بحركتي المفاجئة و لسوف يستبدّ بهم الرعب فيلقون النعش أرضا كيفما اتّفق و قد أموت فعلا من شدة الارتطام .
المساكين يخافون الموتى؛ فماذا يفعلون إزاء الأحياء ؟! لعلهم يقطنون مملكة الرعب ..لست أدري .
متى انتقلتُ إلى رحمته تعالى ،كي أُحمل على هذه الشاكلة ؟
لا أعي من سكرات الموت حتى الآن غير هذه الهزهزات الشبيهة بهدهدات أمّي و هي تهزّ سرير
طفولتي بيمناها .
لا بُدّ من أنّ أصداء العويل قد تجاوبت في الحيّ حين نُقلت إلى منزلي في سيارة إسعاف ؛ولا بُدّ من أنّها ازدادت حدّة حين أعلنت مكبّرات الصوت خبر وفاتي .
لا أذكر شيئا من هذا كلّه !
حتى عندما كُببت على بلاط المدخل و ارتطم رأسي و جسدي بالأرض لم أُبدِ حراكا ولعل هذا ما جعل الناس يتأكّدون من وفاتي .
ولا أعي شيئا ممّا فعله الأطبّاء في المستشفى بجسدي : فتح الجفون – قياس النبض والضغط – درجة الحرارة – شحنات الكهرباء – لا بُدّ من أنّ مؤشّراتها جميعا قد لامست الصفر .
كان عليهم أن يصبروا قليلا و لا يتسرّعوا في إصدار الحكم مقرّرين : ” رحمه الله ! سارعوا في مواراته الثرى . إكرام الميت دفنه .”
ربما كانوا على حقّ ولكن مَن يخبرني كيف يكون إكرام الحيّ؟!
كما لا أذكر مشهد الغسل، مع أنّ المتبرّع بغسل الموتى هو صديقي – هوعلى ذمّته يقول إنه يقوم بغسل الموتى مجّانا لوجه الله ، و أنا على ذمّتي أقول :إنّه يَقبل بما يُدسّ في جيبه من مال .
و قد مازحني ذات يوم قائلا :” حين تموت سأترك ماء غسلك يغلي حتى يتخطّى عتبة المئة درجة مئوية ؛سأوقد تحته نخلة نخرها السوس ؛ و سأضحك و أنا أسدّ مخارج جسدك بقطع قماش خشنة بدل القطن شبيهة بتلك التي تُصنع منها الخيام . ”
ليتني صحوت من غيبوبتي في أثناء الغسل لأرى ردّة فعل صديقي ؛و من يدري فلربما قمت أنا بغسله ؛ و لربما لم أُغسل أصلا ،فأنا لا ألمس كفنا يحشرني في طيّاته ..أعضائي طليقة .
أين صارت الجنازة الآن ؟ و هل ستقام صلاة الجنازة لراحة نفسي في باحة المقبرة أم تراها أُنجزت في المسجد ؟ .. لا فرق على الإطلاق . المهم أن ينال المصلون الأجر حتى و لو تثاءبوا جميعا و لم يخشعوا في صلاتهم .
أسمع اللحظة صرير أبواب المحلات التجارية و هي تُغلق إجلالا لي و أعلم علم اليقين أنّ أصحاب المحلات يقومون بهذا التقليد رياءً، و أنهم لن يمشوا في جنازتي ؛ سيفضّلون أجر الدنيا على أجور الآخرة ؛ موكبي يخترق السوق إذًا . افرحي يا أمّي .. صار لي موكب .. استُجيب دعاؤك .
كنتِ تجلسين بعد إتمام الصلاة ؛ تفتحين كفّيك ضارعة إلى الله : اللهم ارفع مقام ابني و اجعل الناس يلهجون باسمه و يحملونه تاجا على رؤوسهم .
تَحقق الشطر الثاني من الدعاء؛ و ها أنا أُحمَل على الأكتاف .
لم يبق الكثير حتى تصل جنازتي إلى المقبرة .أريد أن أكشف المشهد ،سأرفع غطاء التابوت ولا أعتقد أنه محكم الإغلاق ؛و لماذا يوصد بالأقفال ؟ هل سأهرب مثلا ؟
ما أروع حزم الضوء تكحّل عينيّ من جديد !
وجها لوجه أقابل الحقيقة ؛ أرى و لا أُرى . صرنا خارج حدود القرية .. خارج حدود المكان ؛ و يظنّ السائرون خلفي أنني صرت خارج الزمن . هم أيضا خارج الزمن منذ أمدٍ بعيد .
لم يكتشف أحد أنني عدت إلى الحياة و أنني أشاهد جنازتي من شق التابوت .حتى و لو مططت رأسي وأخرجت لساني في وجوههم فلن ينتبه منهم أحد؛ لا ينظرون إلى الأعلى إلا عندما يُلحفون في الدعاء والتضرّع . أنظارهم على الدوام مطأطئة إلى الأسفل ؛ نحو آثار نعالهم .
أسمع أحدهم يقول : ( رحمة الله عليه ، كان عنيدا؛ رأسه أقسى من حجر الصوّان ؛ لا يعرف المسايرة و لا المسايسة و لا يعترف بأنصاف الحلول ؛ قال له الجندي :” إرجع من حيث أتيت.” كان عليه أن يرجع من حيث أتى ؛أن يخضع للأمر ؛ لا عناد مع العسكر ؛ يفهمون مقولة وحيدة :
نفّذ ثم اعترض(.
بودّي أن أصرخ في وجه هذا المتحذلق المنهزم : لماذا أنفّذ ؟ الحاجزالعسكري يحتلّ فوّهة الدّرب و بيتي يشكّل خطّ نهايته ؛ والمنازل مزروعة عشوائيا على جانبيه ، ملتصقة ببعضها التصاق أقراص العجين .
حاولت أن أشرح للجنديّ وجهة نظري فقال : إرجع من حيث أتيت !
قلت له : إنه بيتي و لا بيت لي إلاّه ! فردّد كالببغاء : إرجع من حيث أتيت !
صرخت في وجهه: إرجع أنت من حيث أتيت ؛لا طريق إلى بيتي إلاّ من هنا ّ .
لقّم سلاحه وهو يبتعد عني متّخذا وضع الاستعداد،لإطلاق النار؛مردّدا بغضبٍ لازمته الوحيدة :
إرجع من حيث أتيت !
خَطوْت نحوه نافضًا كفّي في وجهه : قلت لك أريد أن أعود !
فانقضّ عليّ دافعا صدري بفوّهة بندقيّته ؛ لم أتراجع ؛ أنشبت أصابعي في عنقه ؛ ولحظتها ربما أطلق النار ؛ لأنني فقدت الاتصال بالحياة ؛ و لم أفق من غيبوبتي إلاّ قبل لحظات .
أين تراه زرع الرصاصات ؟ فلأتفحّص جسدي انطلاقا من القاعدة : رجلاي سليمتان ؛بطني قد نجا من الثقوب ؛ في صدري ثقبان ملتئمان و في رقبتي مثلهما .
جندي لعين ؛ لم يستهدف إلاّ أعضائي العليا .
كم نزفتُ من الدماء يا تُرى؟ سؤال عديم الأهمية في نظري طالما أنني عدت إلى الحياة .
متى حصلت الحادثة ؟ لن أُجهد عقلي في تذّكر الزمن .ربما حصلت اليوم و ربما بالأمس و ربما قبل أسابيع . ما الفرق ؟ الماضي صار ورائي . زمن واحد يعنيني و سأتعلّق بأهدابه : المستقبل .
قد يُعدّ هذا حرصا على الحياة و مَن منّا لا يحرص على الحياة ؟
الجندي أيضا حريص على الحياة ؛ بل على حياة .. أية حياة ؛ و إلاّ لما بادلني الصفعة بالرصاص .
أيّ صفعة ؟ قل محاولة صفع .
أين صرنا الآن ياترى ؟ ليت الطريق يطول نحو المقبرة ،كي أشبع من هذه التجربة الفريدة ، و أنا أتهزهز مُلتحِفا السماء مفترشا التابوت .
مَن مثلي و أنا أفترش رقاب العباد ؟
سأمدّ نظري لاستجلاء الموقف . عليّ أن أكون حذرًا في حركتي ،حتى لا يميل بي التابوت يمينا أو يسارا ؛ لا بُدّ من أن أدرس حركتي بدقّة .
الأمر بسيط ، ما عليّ إلاّ أن أُلصق كفّي اليُسرى بأرضية التابوت ، ثمّ أُصعد هامتي ببطء شديد :
إلى أية جهة ينبغي لبصري أن يتّجه ؟ اليمين أم اليسار؟
ما أغباني وأنا أطرح هذا السؤال! الاتجاهان يقودان إلى الجنازة . و أية جنازة ؟ جنازتي أنا ؛ سأكون أوّل إنسان يشهد جنازته بأمّ عينه .
ما شاء الله ! جنازتي مهيبة ،تُخفي معالم الدرب .
طيّبون فعلا أهل قريتي ! يتسابقون و يتدافعون حول النعش إكراما لي، و تعزيةً لأهلي .
تُرى هل فعلوا ذلك يوم ولادتي ؟ أجزم بالنفي إذ لم أسمع بمظاهرة تحتفي بولادة إنسان .
أناس طيبون فعلا , يحملون أكاليل الزهر المختلفة شكلا و حجما ، المؤتلفة في الجوهر ،كي يصفّوها حول ضريحي . ليتهم حملوا إكليلا واحدا بدل التباهي بالأكاليل و التطاول فيها .
ما أجمل ضريحي و قد طوّقته الزهور ! سيَحْلو لزوّار المقبرة أن يقفوا طويلا أمامه متمتّعين بشذاه ، قارئين الفاتحة ، معدّدين أسماء الشخصيات و الجهات التي قدّمت الأكاليل . قد أُحسد على هذه الحفاوة ،و سأُحسد بالتأكيد على الشهادة .
ها هو والدي المسكين يُجرجر قدميه و يطأطئ رأسه كمَدا على فراقي ، يسنده شابّان جلدان هما أعزّ أصدقائي . لم يتخلّف من أقاربي أحد .. كلّهم زحفوا عن بكرة أبيهم للقيام بالواجب . بالأمس فقط كنّا نتشاجر ..نُرغي و نُزبد و يرفع بعضنا السلاح في وجوه بعضنا الآخر ؛ كلٌّ يدافع عن حقّه في شبر من كرمِنا المتنازع عليه .
آخر سمعة .. الموت يُوحّد و الحياة تُفرّق .
رحم الله والدتي ! لو كانت حيّة لزغردت لشهادتي و لرقصت رقصة البندقية ، كما فعلَت يوم استشهد أخي (سعد) و لربما رقصت في جنازتي بفرح أكبر؛ لأنّ سعداً لم يُقتَل بأيدي الأعداء مِثلي.أغبطه الآن كثيرا ،كانت جنازته عرمرمية ؛ فاقت جنازتي تنظيما و حشدا و احتفالا ؛ تسابقت الفرق الموسيقية تعزف له لحن الشهادة . أما أنا فجنازتي مألوفة كأيّ جنازة : رجال يثرثرون خلف نعشي و نعال تخبط الأرض خبطات رتيبة : دِجّ .. دِجّ .. دِجّ …..
و صوت الشيخ الموكل بتلقيني يتعالى بين الفينة و الأخرى صائحا : وحّدوا !
فتجاوبه الجماهير لاشعوريا : لا إله إلا هو .
الشيخ يكرّر الأمر مرارا وحماسة الجماهير تتخافت تبعا لتباطؤ سرعة الجنازة بشكل تنازلي . وصلنا إلى المقبرة إذًا .كيف سأتصرّف الآن حتى لا أُفاجئ الناس بعودتي إلى قاعدتي سالما بعد تجوالي في عالم الأموات ؟
هل أُطِلّ برأسي من التابوت في هذه اللحظة بالذات و نحن نعبر بوابة المقبرة و قد تفرّق الناس عنّي و انتشروا بين القبور فاتحين أكفّهم يقرأون الفاتحة لراحة نفوس أقاربهم و ذويهم ،مفضّلين الاستظلال بالسقيفة ؛ أم أنتظر ريثما يُنزل النعش عن الأكتاف ،ثم أبتسِم في وجوه القلة القليلة التي آلت على نفسها إلا أن ترافقني ، حتى اللحظة الفاصلة ؛ لحظة انقطاع آخر خيط من خيوط النور عني ؟؟
مهما يكن من أمرٍ فلن أسمح لأحد بأن يدفنني حيًا .
الموكب يتّجه نحو الجناح المخصص للشهداء حيث الرخام يزاحم الرخام و الشواهد تطاول الشواهد.
لا بدّ من الاسراع في اتّخاذ القرار، و توخّي الدقّة في الاختيار .
موعد إعلان عودتي إلى الحياة ليس حدثا عابرا و سيفجأ الكثيرين .
أضعتُ وقتا طويلا في الثرثرة الفارغة مذ صحوتُ. كان عليّ أن أُخطط للحظة الحاسمة حتى لا أفجع أحدا .
هكذا أنا دائما؛ يختزلني الإهمال . أنتظرُ حتّى أُحشرَ في عنق الزجاجة و أتسرّع في اتّخاذ القرار و أنا ألهث وراء الدقيقة الأخيرة .
ما هي إلا خطوات معدودات ويُرفع النعش عن الأكتاف قبل أن يستقرّ قرب فوهّة القبر ، عندها سيكبّر الناس وسينشدون نشيد الوطن ؛ ما زلت أحفظه : فدائي .. فدائي..
فدائي يا أرضي .. يا أرض الجدود
فدائي .. فدائي ..
فدائي يا شعبي .. يا شعب الخلود)
ويْحِي ! أيكون أحدٌ قد سمعني و أنا أهمس بهذا النشيد؟
و لماذا الهمس ؟ لماذا الهمس ؟
وجدتُها .. وجدتُها. بدايةً سأنشده بصوت خافت هكذا؛ ثمّ أتدرّج به صعودا.. أعلى .. أعلى.. أعلى..
يُدهش المشيّعون .. يتلفت بعضهم إلى بعض مستغربين ، تتركّز أنظارهم على التابوت ..يتأكدون من مصدر الصوت ،فيسارعون إلى وضع التابوت أرضا .
يُفاجأون ببسمتي تقهر اصفرار الموت و يشهقون متعجّبين مطلقين صيحات التكبير ، فيتقاطر المشيّعون متكتّلين فوق النعش للتحقّق من الخبر.ينكبّون فوق رأسي مقبّلين غاسلين الموت عن جبهتي بعبَرات الفرح ثم يرفعونني على الأكتاف من جديد بعد أن يلقوا بالتابوت جانبا ويعودوا بي إلى البيت في مظاهرةِ ولادةٍ هي الأُولى من نوعها ، ترافقها صرخات التكبير و التهليل تشقّ أجواز الفضاء في انتظار جنازتي الثانية؛ جنازةٍ سأرسم لها خطة محكمة تبدأ فصولها عند الحاجز العسكري تماما ، و تنتهي بي شظايا إنسان يُكفّنها علم بلادي.

شاهد أيضاً

لهفة مخادعة

  د. لميس حيدر*   لهفة مخادعة ملخّص القصة: يعود الرجل لقراءة نص حبيبته الذي …

تعليق واحد

  1. سمير عبد الرحيم اغا

    قصة جميلة ولغة اجمل وموضوع ارقى
    تحية للكاتب سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *