الرئيسية / أبحاث / أدبية الصراع في رواية( ما تبقى لكم) لغسان كنفاني

أدبية الصراع في رواية( ما تبقى لكم) لغسان كنفاني

 

مؤتمر6

بحث: الدكتور عادل عبد الساتر

أدبية الصراع في رواية( ما تبقى لكم) لغسان كنفاني
–    تمهيد:
إن  الأدب هو وسيلة التعبير الفضلى في ترجمة المجتمعات الإنسانية، فيتمثل بالصور اللفظية التي تجسد الأبعاد المختلفة لكل مجتمع من المجتمعات، ولا بد من القراءة الواعية كي نستطيع الفهم الموضوعي للبيئة التي أنتجت سلوكا وفعلا وأدبيات ، والتي تعتبر الخلية الحقيقية للنشاط الأدبي.
فالأدب كلام جميل يعبّر عن مجموعة من الأفكار والأحاسيس و يؤثر في القارئ من خلال جمال القول أو جمال التعبير ، وينقل الفكرة من الأديب إلى تللك الأشكال اللفظية التي تؤثر بدورها على القارئ وتوثق تطلعات الشعوب وآمالها.
والجمال في الأدب هو في القدرة على التعبير الذي يجب أن يكون غنيّا من جهة ومؤثرا من جهة أخرى، غنيّا” من حيث امكاناته الايحائية ومؤثرا” من حيث ما يشتمل عليه من شاعريّة وفن .
فمفهوم بنية الرواية يرتبط بالبناء المنجز من ناحية، وبهيئته وبطريقته من ناحية أخرى. وهذا ما يسمح بشرح علاقات الأشياء الداخلية، وبتفسير الأثر المتبادل بين هذه العلاقات، وأي عنصر من عناصره، لا يمكن فهمه إلاّ في إطار علاقته في النسق الكلي الذي يعطيه مكانته في النسق.”
ما يعني أن فهم العلاقة بين العناصر يقتضي عملية  تفريع للعناصر ومن ثم فهم العلاقة السببية فيما بينها ، وتفسير الترابط في عملية تحليلية تأخذنا إلى عالم الدلالات الرحبة وتفضحها أمامنا  عارية دون أية سواتر تحجب المشاهد الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية في بيئة من البيئات.
” فحقيقة العلاقات بين الأجزاء، هي التي تحدد الكل، وتعطيه شكلاً مميزاً، وخصائص مميزة.”
لذلك فإن دراسة الأبعاد تقتضي الاطلالة على العناصر الأدبية المختلفة لتفاعلها مع الشخصيات ما يجعلها متماهية معها، تعيننا على فهم الواحدة من خلال فهم الأخرى، فتتوحد المشتركات في الشخصيات وتصب فيها الدلالات في بوتقة واحدة تنصهر في شخصية مبنية من نسيج نفسي وثقافي وسياسي وفكري ، يرسم كل نسيج هيئة من هيئات الشخصية المتشابهة مع أشكال الحياة السلوكية والفكرية.
فالشخصية هي النبع الذي تتدفق فيه الحياة، وهي مؤلفة من بنيتين: بنية خارجية وأخرى داخلية و “مصطلح الشخصية يضم أية سمة أو صفة لها صلة بشكلٍ أو بآخر بقدرة الفرد على التكيف في محاولته الحفاظ على احترامه لذاته. ومن هنا يمكن القول بأن أي وصفٍ لشخصية الفرد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مظهره العام وطبيعة قدراته ودوافعه، وردود أفعاله العاطفية، وكذلك طبيعة الخبرات التي سبق أن مر بها ، ومجموعة القيم والاتجاهات التي توجه سلوكه . إن مفهوم الشخصية اصطلاح عام وشامل . ”
فقد بدا أن صفات وسمات الأفراد هي بالتكيف مع محيطها ومع ذاتها من أجل التوازن الذي يحفظ الشخصية على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.
ولا نفهم ذلك التوازن إلا من خلال الأفعال وردود الأفعال والسلوكيات المدفوعة بمجموعة من القيم والاتجاهات التي تفرز ذلك السلوك.
قد نفهم من السلوكيات المختلفة التي تمارسها الشخصية في المحيط الذي تمارس فيه هذه الشخصية نشاطها، ومن تعبيراتها الفكرية المختلفة قد نغوص معها إلى أعماق الخلفيات الفكرية والثقافية لبيئتها، سواء أكان ما تعبر عنه سلبا أم إيجابا لأن التعبير السلبي قد يفضح الأفكار ويكشفها وقد يبين الكاتب من خلال رفضه مواضع الخلل فيها ، قيقدم الصورة الأولى للمفاهيم ثم يقدم وجهات النظر المختلفة من منظاره الخاص فيغني الواقع بواقع آخر يشكل منهجاً اعتراضيا متكاملا يبتدئ بالرفض وينتهي برؤية إصلاحية فاعلة.
وعلى اعتبار أن الشخصية هي علاقات لغوية، فإنها تحمل في طياتها بعض ملامح الشخص المبدع أو غيره فكرياً، وليست الشخص ذاته، وحقيقة الانسان تكمن في المتحرك، والشخصية مثل الرواية تترجم عن ماهية الإنسان، لأنها نامية ومتطورة، تنزع نحو ما يمكن أن يكون.”
ما يعني أن العمل الأدبي والرواية خاصة تؤرخ فنيا حياة الناس بلغة متآلفة مع الزمن فتنمو الصيغ السردية كنمو الانسان وتتطور كتطوره وتنضج كنضجه بصور حياتية متلاحقة ومتكاملة.
وإذا أردنا دراسة الشخصية فلا بد من دراستها في إطارها المكاني، فلا أحداث بلا مكان ولا وقائع بدون المكان ولا سمات خاصة بالشخصية بدون المكان ولا سمات عامة اجتماعية بدون المكان ولاسمات كونية شاملة بدون مكان.
فهو قدر الإنسان الذي يتماهى مع وجوده، فبه نلمح تكيف الشخصية مع محيطها وبه نلمح سخطها أو رضاها، وبه نرى النفس المطمئنة أو القلقة.  “فالمكان هو العمود الفقري الذي يربط أجزاء النص الروائي ببعضها البعض ، وهو الذي يسم الأشخاص ، والأحداث الروائيّة في العمق .”  فيشكّل بوجوده وجود بنية الرواية التي لا يمكن أن تبنى بدونه ، فهو العمود الفقري الذي يرفع الشخصيات ويدفع الأحداث ، حاملاً عبء تفاعل تلك العناصر فيما بينها من ناحية، والتصاقها بالمكان من ناحية أخرى.
وهو ” دال على الإنسان قبل أن يكون دالاً على جغرافيّة محددة ، أو دالاً على تقنيّة تبرز حدوث الوقائع والأحداث ، فالمكان الروائي هو مكان الإنسان ، يحدد سلوكه وعلائقه ، ويمنحه فرصة الحركة، ويمنعه من الانطلاق .”   فيحدد المكان سلوكه وارتباطاته ، وأحواله النفسيّة ، ورؤيته التفاؤليّة أو التشاؤميّة ، متبنيّاً  بناء الإنسان الروحي ، راسماً ملامح الأحداث والوقائع المرتبطة به .

وقد يساهم في خلق المعاني  ، وبهذه الصورة فهو يجسّد حقيقة الانسان بكل أبعاده متخطيا حدود الواقع إلى أبعاد روحية ونفسية ترتبط بالمستقبل أكثر من ارتباطها بالماضي أو بالحاضر.
فالشخصية هي الموضوع وهي هدف الدراسة وهي المرآة التي تنجلي من خلالها هموم المجتمعات وتطلعاتها، وهي العنصر الحي في الرواية فبه تحيا ومن دونه تموت ، وهي القلب النابض بالحب والعشق والحنان من جهة وبالقسوة وبالسخط وبالغضب من جهة أخرى.
–    نبذة عن حياة غسان كنفاني:
غسان كنفاني من مواليد عكا (1936)، عاش مع أسرته في (المنشية) في يافا، وقد انتهت الطفولة السعيدة مع بداية النكبة لتبدأ رحلة الشقاء، تحمّل مسؤولية عائلته الكبيرة اللاجئة إلى لبنان، فعمل في مهن شتى، لكنه استطاع أن يتابع دراسته حتى وصوله إلى الجامعة ومتابعته الدراسة في قسم اللغة العربية، وفي عام (1955) انتسب إلى حزب القوميين العرب، ثم سافر إلى كويت، ثم تركها إلى بيروت ليتفرغ للعمل الثوري ضد الصهاينة، حيث كان نضاله بالكلمة المكتوبة (في الأدب وفي الصحافة) وقد انضم إلى هيئة تحرير مجلة “الحرية”، شارك في تشكيل برنامج منظمة التحرير السياسي وصياغة بياناتها، وأصدر مجلة الهدف (الناطقة باسمها 1969)،  أحست الصهيونية بخطر غسان كنفاني عليها، فاغتالته بعملية تفجير استهدفته في سيارته.
فكانت سيرة حياته سيرة نضال بدأت بالخروج من فلسطين وتوجت بالأستشهاد.
–    لمحة عن أحداث الرواية:
الأبطال هم حامد ومريم وزكريا والساعة والصحراء، فقد  لعب كل واحد منها دوره الدلالي بشكل دقيق وبتناغم جميل بسلاسته، وقد حاول إبراز بعد المقاطع بخط عريض ليدخل الخط بلعبة الدلالات وليس صدفة ذلك التمييز بل يقوم بدور مركزي ومحوري بتوقيف السرد  وبمتابعته من أجل الربط بين عناصر المأساة المختلفة لتكون شاهدة على مأساة جليلة ومأساوية.
فمريم هي الطفلة التي نزعت من حضن أمها، وتركت ضعيفة بين أسنان التشرد، حتى وقعت فريسة لأهواء زكريا ولنزواته، فوقعت في فخ الرزيلة، فزوجت لزكريا قسراً، هروباً من هواجس العار والفضيحة.
أما زكريا فهو شخصية استغلالية استفاد من ضعف مريم، ومن صغر سنها، كما كان من الشخصيات المنبوذة من محيطها، لفقدان الثقة بها، بعد أن وشى بأحد الأبطال الفدائيين ما أدى إلى إعدامه، تزوج مريم ونال مأربه دون الإهتمام بمشاعرها أو بمشاعر أخيها حامد، ولم يبال برحيلة بعد حفل الزواج المؤلم لحامد ، الذي ما توقف عن المناجاة قائلاً: لو كانت أمك هنا، لو كانت أمك هنا… فهو يرى أن الأم تجسد صورة من صور الوطن، وبقدان الأم وبابتعادها عن العائلة تكون العائلة قد فقدت أركان حمايتها، وأسوار حصانتها.
أما حامد فهو المنهزم أمام عواصف القهر، وأمام المصائب المتلاحقة ،فقرر البحث عن الأم في الأردن، فلا بد أن يتجاوز مراحل الموت الثلاث: الصحراء، العدو الإسرائيلي، والحدود الفلسطينية الأردنية المحفوفة بالمخاطر.
ولم يكن قراره بالرحيل إلا بعد فقدان الرجاء، والوعي بأهمية الحراك النضالي من أجل تحرير فلسطين لأنه لم يعد باستطاعته الانتظار ولم يعد ما لديه ما يخسره لذلك لم يتبق شيء ليخسره فكان لا بد من السير في طريق التمرد على واقع أشبه الموت.
أما الصحراء فهي رئة القضية بثها غسان كنفاني آلام الشعب الفلسطيني وعبرت عن عطفها لحامد لأنه يمثل كل الشعب الفلسطيني، فعبر من خلال الرواية عن صفاتها الإنسانية، وعبرمن خلالها عن تأوهاتها التي تدعو من خلالها أبناءها إلى النهوض من غفوتهم ونفض ترسبات الهزائم، والعودة إلى الحياة لإنقاذ فلسطين منعدو جزّار.
أما الساعة فوجودها رمزي، توحي بزمنين متقاطعين، الزمن الأول هو زمن الحق قبل النكبة وقد توقفت بعده الساعة وتوقف رقاصها لأنها معلقة على الحائط بطريقة غير مستوية، لأن زمن الباطل قد أثر على حركتها وأصبحت ترقب زواله .
فالرواية رمزية تشبه الجهل بأسباب الذي حصل ولأن الكل يتساءل عن أسبابه، جاء الرمز ليعبر عن منطق الضياع السائد في كل مفصل من مفاصل الرواية، بالتوازي مع كل مفصل من مفاصل الجغرافية الفلسطينية المغشية فرائحة الموت والدمار.
–    دراسة الصراع في الرواية
مقدمة:
تسهم الظروف الاقتصادية و الاجتماعية إسهاماً كبيراً في تشكيل شخصية الإنسان ، ولا يمكن للشخصية أن تنمو خارج إطار ظروفها الموضوعية، وقد شكلت أحداث عام 1948 منعطفاً خطيراً في حياة أبناء الشعب الفلسطيني، فقد انهارت طبقات وشرائح اجتماعية ، وتفككت العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة قبل النزوح الكبير ، وتحولت غالبية الشعب الفلسطيني إلى مجموعات من اللاجئين المشردين الذين تجمعوا في مخيمات خاصة أقامتها لهم وكالة الغوث في المناطق المتبقية من فلسطين، كما أن التفكك الإجتماعي كان سمة بارزة في وحدات المجتمع الفلسطيني، فتفككت الأسر وهاجر البعض وبقي البعض الآخر ، وانقطعت الروابط الإجتماعية وسادت غلبة القوي على الضعيف وفتحت شهية المتفلتين اجتماعيا ووطنيا فتفننوا في الأعمال الشنيعة معبرينعما يستبطنونه من خلفيات شاذة،يعبرون عنها بالأقوال وبالتعبيرات اللفظية المختلفة من ناحية وبالأفعال وبالسلوكيات الحسية من ناحيةأخرى .
من معين القضية الفلسطينية ومن عمق تجربة غسان كنفاني ومن إدراكهلأهمية الدور المهم  في عملية التنوير التي تعادل النضال المسلح أو هي التي تدفع به وتحدد مساره، نهل موضوعه وصاغ صوره اللفظية والتمثيلية  مستعينا بتيار الوعي بمهارة وعفوية وبجرأة فنية وسياسية .
فالجرأة الفنية على اعتبار الرواية المشحونة بالدلالات المرمزة تستهدفشريحة اجتماعية ضيقة ولا  تعتبر جماهيرية والأدب حياته الجماهير، ويفقد دوره في التدقيق بما هو كائن سعيا إلى ما يمكن أن يكون، وهو نشاط إنساني يتعدى دوره فيمقاربة الدوائر الفردية أو الجماعية إلى دوائر أرحب على مستوى الأمة والإنسانية جمعاء.
والجرأة السياسية هي في مقارعة المحتل بالكلمة وبالموقف، وباستثارة المشاعر الوطنية والإنسانية لإيقاظ الهمم المسترخية والضمائر المترهلة والدعوة إلى نهج ثوري ينفض الركود والاستسلامويستبدله بأحوال من العز والإباء تدفع إلى بذل المهج رخيصة في سبيل قضية سامية ونبيلة.
فطريق التنوير هو طريق شاق تسلكه النفوس الأبية التي تأبى الذل وترهن ذاتها لقضيتها،” فأدب الكاتب الروائي  هو التنوير الذي يسلطه وبقوة على الحالة الفلسطينية،اجتماعيا وسياسيا،بعد النكبة، في مرحلة الخمسينات أي قبل ظهور الحركة النضالية المسلحة، وهذا حتى يستجلي الفلسطيني أعماق قضيته”.
فالطرح الوطني التحريضي دعوة إلى الفعل الثوري عن وعي وتخطيط مسبقين يتلوهما تخطيط آخر باطار الفعل الثوري الفردي بأبعاده الاجتماعية المتنوعة. فتتحول الحروف والكلمات إلى رصاصات والمواقف إلى هواجس وكوابيس تقطع أنفاس المحتلمن جهة و تنفس الحياة في الأمة من جهة أخرى.
فكل عنصر منعناصرالروايةهو زيت القضية المضاء بمأساة الشعب الفلسطيني، فيؤدي دوره ضمنالسياقالعام ويسلمرايةالدلالات للعناصر الأخرى في تنسيقوتتابع تامين متكاملين.
والشخصيات هي من العناصر الفاعلة التي تجسد بواقعها الحقيقي وبرمزيتها الدلالات المختلفة التي خبأتها قريحة المبدع خلفأسوارالكلمات وبين جدرانها االحبرية النازفة.
فمفهوم الشخصية أنها:” ناتج تركيبي يمكن أن يتكون من مجموعة من السيمات التيتتكرر فتكون تركيبة قادرة أو تركيبةمعقدة عندما تضم علامات متناسقة أو متنافرة وهذا التعقيد أو التعدد هو ما يحدد شخصية الشخصية”.
ما يعني أن الشخصية الواحدة هي ناتج لتركيبة متناقضة ،تتنازعها المتنافرات التي فرضتها الظروف الإجتماعية أو السياسية فبانت تلك المتآلفات أو المتنافرات في الشخصية من خلال سمات عديدة هي مرآة الشخصية الداخلية بصفات معنوية أو بدلالات لفظية قد تعبر الشخصية عنها بنفسها أو من خلال سلوكيات تطبيقية لما تعتقده أو تؤمن به الشخصية.
فالشخصية ” عالم معقد شديد التركيب متعدد الأهواء والمذاهب والأيدولوجيات والثقافات والحضارات والهواجس والطبائع البشرية”.
وكل مكونات الشخصية هي ضمن مفهوم معين في تركيبة الشخصية، فهي أهواء ، وإيديولوجيات، ومخزون ثقافي متنوع بين المكتسب والموروث، وطبع جيني نسجته الفطرة االكونية في كل شخصية.
ولا بد من الإطلالة على تفريعات الشخصية الداخلية ليتسنى لنا جمع البيانات وإسنادها إلى مصادرها الحقيقة والحكم عليها بعد تعليلها بمقياس واضح الدلالات وبمعيار قيمي منطقي جامع هو منطق المجتمعات البشرية كافة.
وإن ركز بعضهم على الحتمية البيولوجية وتم إهمال كلاً من البعدين الثقافي والاجتماعي،على الرغم من أهميتهما ولا يمكن تجافي دورهما في تركيبة الشخصية بانصهار تام مع الحتمية البيولوجية،فقدقسمت الشخصية إلى منظوماتٍ ثلاثة هي :
1ـ الهو :
وهو المخزون الغرائزي ومخزون الطاقة النفسية، ومن أدواره خفض التوتر وإزالته بالإشباع لتحقيق اللذة.
2ـ الأنا :
وهي المنظم الموضوعي ، وتدفع الأنا إلى تأجيل الإشباع ،وتقيم توازنا بين الإشباع وتأجيله حين يحين موعده.
3ـ الأنا العليا:
وهي نسيج متداخل من المنظومات الأخلاقية للشخصية، وتلامس المثالية، بتجاوزها الواقع فتحكم عليه حكماً قيمياً(صواباً أو خطأ ) من خلال مكتسبات الشخصية منالواقع والبيئة التي تتفاعل معها.
فمن الصعب تغيير الصفات المزاجية للفرد، ومن تلك الصفات المزاجية للفرد : مستوى الحيوية والنشاط والمرح أو العبوس، والخجل، ودرجة الحساسية للمثيرات، والاندفاعية، وتقلب المزاج .
ما يؤكد التركيب المعقد للشخصية والعوامل المتعددة الفاعلة فيها وتقلباتها الخاضعة لتقلبات الظروف وطبيعتها، كل ذلك يدفعنا إلى شفافية الرؤية الباطنية للشخصية التي تتصارع فيها تلك المخزونات الدفينة تبعا لمعيارها القيمي الذي يدفعهاإلى التضحية برغبات الهو وبنوازعه الغرائزية المختلفة، على حساب الأنا وضوابطها  من ناحية، والأنا الأعلى وتوقها للمثال من ناحية أخرى.
من هنا ننطلق إلى آفاق الصراع بأوجهه المختلفة معتمدين على التحليل كالطبيب النفسي الذي يستعرض مقومات شخصية مريضه، ليحدد العوامل التي أدت إلى تناقضات الشخصية أو انحرافها.  ثم نعمد إلى التعليل، من خلال تفريعات الشخصية في مقوماتها الأساسية، ثم نقيمها تقييما اجتماعيا معللين سلوكها الإيجابي أو السلبي.
وسنتناول رواية ما تبقى لكم لغناها بالمواقف المتعارضة ولثراها بالدلالات الانسانية الأصيلة ولاختزانها عمق المأساة الفردية والجماعية وهي تأريخ لواقع الشعب الفلسطيني وصورة من صور مآسيه الإنسانية التي ترك التاريخ فيها ندوباً ستبقى تصرخ  وتأن من تحت رماد الذكريات لتذكر الجلاد بسياطه المؤلمة الملتصقة بلحمها كي تبقى مشهدية قمعيته تؤرقه و وتقلق خاطره وتجرح هدوء البال في سكينته فيتجرع سم حقده من الكأس الذي جرع منه ضحاياه.
وقد اتخذ الصراع في الرواية أشكالا متعددة لأن الظروف استحضرت أنيابها الفولاذية لتنهش من إرادة الشعب الفلسطيني ولتنسج المآسي في حياته فنونا وأشكالا ، لتمتحن الصبر الإنساني ولتسخر من قدراته الإحتمالية أمام ثقل المعاناة وسطوتها.
_الصراع النفسي:
إن رواية (ما تبقى لكم) تردد نشيد الإرادة الانسانية. وتتجلى المأساة فيها عبر أشكال متعددة كموت الأب وتيه الأم وسقوط الأخت وموت العمة. وقد انفصل الزمن فيها إلى زمنين: زمن المأساة الذي يتبعثر في مواضع مختلفة من الرواية والزمن الكرونولوجي الذي يخضع للتسلسل المنطقي في زمن خطي واضح المعالم من بداية الرواية حتى نهايتها.
وضمن هذين الزمنين تترعرع الأفعال والسلوكيات المتناقضة، فيبدو الصراع جلياً محكوماً بالعامل الزمني وبتأثيره على مجريات الأحداث كما عبر الراوي بقوله:”لو كانت جدتك الكبيرة هنا ” ..لو..لو..منذ ستة عشر عاماً، وهو يقول لها: لو كانتأمك هنا، إذا تشاجرا قال لها: لو كانت أمك هنا، إذا ضحكا، إذا انتابها الألم، إذاعجزت عن الطبخ، إذا طردوه من عمله، إذا وجد عملاً: لو كانت أمك هنا، لو كانت أمكهنا.
وأمه لم تكن هناك أبداً، على بعد ساعات من المشي، في الأردن، لم يستطع أحدأن يمشيها في ستة عشر عاماً”
إنه الصراع النفسي بين الكائن بفعل الواقع وبين المرتجى ، فالماضي حاضر في كل تفصيل في حياة حامد ومريم، ويعيش المأساة في صراع مستمر بين زمنين متباعدين تجمع بينهما المأساة والشخصية الواحدة التي تتوحد مع الماضي والحاضر .
فالماضي اسقرار واطمئنان ودفء عائلي وأم حنون يلجأ الأبناء إليها، فتؤمن لهم الأمل والرجاء، وحاضر يملؤه الفراغ ويتملك حامد ،فالحاجة وجودية لرعاية الأم في مرحلة الطفولة العمرية.
فالفلسطيني يملك نفسية خاصة ، لها سمات معينة أهمها “القلق والتمزق و الضجر و عقد الذنب ، والنزق الواقع على تخوم العقاب.”
وحامد هو نموذج لذلك الفلسطيني الممزق من الخارج بشتاته المفروض عليه، ومن الداخل بالمتنافرات المختلفة مع الأحكام المنطقية التي تحكم الحياة.
قد فرض التمزق على الفلسطيني انسلاخه عن نفسه، بالصراع بين زمانين و مكانين متباعدين أيضاً، فيعيش في غربة خاصة به ، غريب في الزمن وغريب في المكان وغريب في ذكرياته، فتنأى عنه صور الطفولة والصبا وصور الأم وباقي الأقارب،وتتحول آماله إلى شغف للعودة إلى الوراء،آملا أن يرسم مستقبله بالشكل الطبيعي وليس من خلال الصور الممزقة والقلق المدمر والشعور بعقد الذنب التي تجعل منه أسطورة من الأساطير اليونانية أوشخصية أوديبية يسير بها القدر إلى مصيرها المحتوم.
فبين الأم وأبنائها يقف المكان حائلاً وتتحطم السنون على عظمة الصحراء وقساوتها، إلى أن تتحول إلى كائن أليف، فيقول الراوي في ذلك:”وفجأة جاءت الصحراء.رآهاالآن لأول مرة مخلوقاً يتنفس على امتداد البصر، غامضاً ومريعاً وأليفاً في وقتواحد، يتقلب في تموج الضوء الذي أخذ يرمد منسحباً خطوة خطوة أمام نزول السماءالسوداء من فوق.
واسعةً وغامضة، ولكنها أكبر من أن يحبها أو يكرهها. لم تكنصامتة تماماً، وقد أحس بها جسداً هائلاً يتنفس صوت مسموع” .
فقد عبر الراوي عن الصراع النفسي بعبارات متناقضة الدلالات، تدل على ضياعه وعلى هيامه الفكري والجسدي، فالصحراء بالنسبة له مخلوق رهيب ، لا نهاية لضخامة كيانه ، يزرع الرعب في النفوس، ويجعل النفس تختلج بالغموض والرعب  من جهة وبالألفة والانسجام من جهة أخرى.
فللحب أسباب وللكره أسباب، قد استوطنا في نفس الراوي وتصارعا في ميدان الصحراء الرحب، فتحول المكان إلى حلبة صراع نفسي بين الشيء ونقيضه تودي به إلى أفق الخلاص ، فقد ينتصر فيها على ذاته فيخرج من قمقم الذل والهوان،وقد تودي به إلى الهلاكفيحقق ذاته بالتضحية في سبيل حياة كريمة.
فقد استهل الراوي سرديته بالانهزام النفسي وبالصراع الوجودي، فقابل بين مشهدين حسسيين: الأول هو صورة العائلة الممزقة والمشتته في شتى أصقاع الأرض ولا تقوى على الإلتحام العائلي مرة ثانية، عاجزة أمام قهر المسافات على الرغم من قصر المسافات بين مكان وآخر.فيقول في ذلك:”ولماذا تركتَ أمك على الشاطئ؟” لم أتركها , ولكن الزورق امتلأوستأتي في زورق آخر . إن الرجال يعتنون بها هناك , وكان لا بد لي من أن آتي معك، وخالتي أيضاً . كان عمره عشر سنوات فقط وكنت في العشرين وبدا أنه أكتشف كل شيء فيلحظة مجنونة واحدة”  .
فالصراع نشأ منذ اللحظة الأولى بالهروب من مصير مجهول ، لا أحد يفكر بالآخر  ، ولا أحد يفكر بالعمر ، فالقضية أكبر من  أن تؤطر بأعمار معينة، فلا فرق في المأساة، تتوحد بها الأجيال ويجمعها مركب الشقاء في متاهات المدى وفي اسرار المجهول.
فتركت الأم على الشاطئ من كثرة الهاربين، وطفلها حامد إبن بين المرتحلين، تعتصره الهواجس والهموم وتسحقه الكتل اللحمية المتراصة  من حوله. فقد فصلت بين العائلة المسافات الممتلئة بالماء، وقد جمعت بينها الهموم المشتركة والآمال الضائعة في صفحات الوعود.
فكيان الفلسطيني مجزر ككيانه العائلي، فقد تقطعت أوصال الوطن، وتجزأت نواحيه ، ونأت بعض مناطقه عن الأخرى، فيقف وحيداً عاجزاً تمضغه الغربة ذات اليمين وذات الشمال، يرجو الخلاص وهو مذهول لا يصدق مايجريحوله.
” يقف وحيداً في مواجهة العالم الذي حكم عليه بالانكسار النفسي الذي لا مثيل له ، و بدأ يشعر أن كيانه ناقص،غير مكتمل ــ ليس بسبب تقسيم العمل والتخصص كما في المجتمع الرأسمالي ــ و لكن لسبب أفدح و أعظم ،  وهو ضياع الوطن ، وتشتت الأهل ، ولفداحة هذا الظرف على نفسية الإنسان الفلسطيني .”
فيساهم العالم في صراعه النفسي، لأنه قرر هزمه نفسياً قبل أن يهزمه جسدياً، فيشعر بالضعف وبالقهر، يفر ناشداً الحياة والموت يلاحقه إلى كل مكان، لا أحد في هذا العالم يمد له يد العون بل يمنى بالوعود الفارغة التي لا تنقذه من مصير، يسيره في دروب مجهولة، صاغراً ناقماً ساخطاً، ينتظر كل منهم ساعة إعدامه بخوف وجزع شديدين.
وفقدان الوطن هو فقدان الذات بالإنسلاخ عن المكان الذي يجسد الوجود الإجتماعي، ويشكل حاضنة للعائلة بكل أفرادها،فيسير بهم مركب الحياة ، يجول بهم عبر أفانين الضياع المختلفة، يرنون بأعناقهم إلى شواطئ الأحلام علهم يحظون بفرصة من فرصها .
فقد ضاع الأمل بضياع الوطن، وتشتت الذكريات، وتبعثرت الأحلام بين الصور الغامضة والمبهمة الدلالات، إلى رجاء في عودة الماضي بلهفة وبحسرة.
وقد عبر بلسان الأشياء التي حاكت نفسه المحبطة، مستعينا بأشكال الخوف المختلفة، فتتسارع  الأحداث المتلاحقة مع انهزامه ، محاطاً بالعجز وبالخوف فيقول:”وانطوى الشاطئُ الفضيُّ متراجعاً إلى الأمام تاركاً لخطواته أن تُصدر فحيحاًمخنوقاً، مستشعراً ذلك الإحساس الذي كان يملؤه دائماً حين كان يلقي بنفسه في أحضانالموج: قوياً وضخماً ويتدفق بصلابة لا تصدق ولكنه مملوءٌ، أيضاً، بالعجز المهبضالكامل” .
صراع نفسي كبير، يجري في في كل كيان الشعب الفلسطيني، المتمثل بالبطل الروائي حمد، يجمع بين التجربة الفردية والتجربة الوطنية، وتتفاعل معهما الحقائق التاريخية التي تحيا في الوجدان الجماعي الفلسطيني المكلوم بجراح الغربة التي تذكره بقضيته وبظلمه وبمأساته.
فحمد هو رمز الشعب الفلسطيني المكون من المتناقضات الذاتية والموضوعية التي تؤكد التنافر النفسي الدائم في كل تفاصيل حياته الشخصية والإجتماعية.
فهو الشخصية المركزية التي تدور في فلكه كل الأحداث،وتنبع أهميتة من مدى تأثيره فيمن حوله، ومن الدور الذي يؤديه في المجتمع، وبقراءة، فلم نقع على حدث وهمي يقطع الصلة بيننا وبين تلك الشخصية، فيشدنا للتفاعل معه بكل  موقف من موقفه، ويغرقنا في عالم أحاسيسه ومشاعره الفردية والاجتماعية والوطنية، متربعاً على عرش البطولة في الرواية بواقعيته الشكلية”فالبطل عبارة عن حقيقة مادية وموضوعية مرتبطة بالزمان والمكان، وليس وهماً، ونبتعد أكثر عندما نقول: وليس استيهاماً، منطلقه من العامل الذاتي المشوه بسيكولوجياً(نفسياً)، والعاجز مادياً، أمام مواجهة العدو الطبقي الداخلي والخارجي، وتحويل الواقع في وقتٍ واحدٍ.”
وكما نرى شخصية البطل فقد نرى أيضاً شخصية العميل الخائن والمنهزم أمام الخوف والإغراء، المستسلم للواقع، فصراعه النفسي لا يختلف عن صراع الآخرين بل تتناوله التناقضات المؤتلفة مع انهزامه النفسي،يصنع لنفسه عالماً ورديأ، يبدو في تناقضاته مختلفاً عن الآخرين وغريباً عن محيطه. فيمثل الشريحة السلبية التي تتسم بالحياد، تراقب الأحداث دون أن تشارك في صنعها، وهي شخصية مترددة ضعيفة، تتلقى الأحداث كما هي، فإذا ما فشلت فإنها تصاب بالإحباط، وتبرر فشلها بسوء الحظ، وهذه الشخصية تخضع للعادات والتقاليد، سهلة الانقياد للآخرين، تتقبل آراءهم دون تدقيق، وتعاني من القهر والعزلة، تجتر آمالها وأحلامها، وتخلق عالماً وردياً لتعويض إخفاقها وفشلها في عالم الواقع.
وقد تتنوع الأسباب الدافعة لذلك الإضطراب النفسي وقد تواجهه صور الضياع التي هي البقع السوداء في عالم النفس التي تدفع إلى اللا شيء ، فتعزز الخلط بين المتناقضات ، وتفقد التمييز بين الجيّد والسيّيء، وتكسو العالم بحلة سوداء قاتمة، تميت الروح وتحجب الأمل وتقصيه.
فالصراع مع المجهول والوهم، والخصم هو شبح بدت أفعاله دون ملامحه، وترك بصمات جرائمه ندوباً متناثرة في النفوس وعلى الأجساد، وفنوناً من الآهات والعذابات.
فالمدى يخيف، وينذر  بمجهول غامض، لا تبشر الوقائع الماضية والحاضرة بنعيمه، وتشخص كل الصور التي تهدد الوجود، وقد مثل ذلك الضياع بقوله:” ولكنه مثلهم كلهم، خاف من الانبساط الذي لا نهاية له، حيث لا تلة ولا علامة ولا طريق، وظل واقفاً ينظر إلىسواد الأرض المتصل بسواد السماء في نقطة تقع مباشرة أمام قدميه” .
فلكل لفظة نصيب في ضياعه، قد تسلل الضياع إلى عباراته الممتلئة بإشارات القلق والغموض. فلم يفصل نفسه عن شعبه وهو وهم على مركب الوهم نفسه، هم وهو في يمِّ من الحتوف المتوثبة لإنتزاع مواد حياتهم، تلقي بهم المقادير لتتناولهم مقادير أخرى ، فلا الانبساط يجدي لرؤية قبس من الأمل ولا الأرض بمعالمها تشفي أملهم فيالخلاص من مطاردة الوحشة والضياع ، ولا سواد الليل ينفصل عن سواد الأرض المستوطن في نفسه، فحدود رؤيتهالا تتعدى نقطة من وهم أفكاره قد رسمها أمام قدميه واتخذها دليلا إلى اللا مكان المنبعث من أبواب الأمل الموصدة في فكره ووجدانه وكل أحاسيسه التي قد تربطه بالحياة وتذكره بوجوده.
والكاتب مسئول تجاه نفسه وتجاه فنه وتجاه قرائه، ومسئولية الأديب أمام قرائه هي أهم مسئولياته في عصرنا الحاضر.
_الصراع بين التصريح والتلميح
إن الصراع بين أسلوبين أدبيين: الأول توصيفي تصريحي يعمد إلى ذكر الوقائع، ووصف الشخصيات، واتباع ترسيمة واضحة المعالم في سرد الأحداث وتتابعها، وبذلك تعرض الصورة مباشرة على الرؤية التي يستطيع العقل ترجمتها بسهولة ويسر، أما الثانية فهي رمزية تتبطن في الألفاظ دلالات عامة قد صاغتها الظروف وفرضتها على بعض التركيبات اللغوية، وأصبحت لغة تواصل جديدة، قادرة على إغناء المعجم الدلالي برموز إضافية، تزيد في جمالية العمل الأدبي وتأثيره من خلال الرموز المعبرة عن كل حالة من الحالات.
فالقضية الفلسطينية تسترعي الرموز المختلفة لخدمتها، والأديب الفلسطيني هو الأقدر على نسج معاناته برموز معبرة، تجمع بين التصريح والتلميح من جهة، وبين الدلالات الحقيقية والدلالات الرمزية من جهة أخرى بتواؤم فني تتماهى فيه المسافات الفاصلة بين الأسلوبين.
وقد أغنى غسان كنفاني روايته بالرموز التي تحمل القارئ على أجنحة الخيال إلى عالمين: عالم الواقع المأساوي المرتكز على الوقائع التاريخية للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني الذي مازالت صور مآسيه شاخصة في ضمير الأمة ووجدانه من خلال مشاهد البؤس المغروسة في كل نواحي العالم العربي شأنها شأن الجراحات التي
التأمت تاركة الندوب التي لا تبرح الأجساد لتعيد الصورة إلى الذاكرة الإنسانية كلما استدعت الذكرى ذلك.

–    الساعة ورمزيتها:
وأولى تلك الرموز هي ساعة الحائط، في شكلها وفي مفاعيلها، ففي الشكل لم تعد تلك الآلة الخرساء الأمينة على تحديد المراحل الكبيرة منها والصغيرة، فقد تحولت إلى نعش يحتضن تاريخاً زائلاً، يؤسس لتاريخ جديد فوق رفاة القديم الذي ما زالت أنّاته تنبعث من تحت رماد القهر الذي فرض عليه الوأد الظالم، فيصفها بقوله:
“ونظر إليها بين ذراعيه: ” ساعة حائط , ولكنها تشبه نعشاً صغيراً , أليس كذلك.؟” و دخلنا، فاتجه مباشرة الى الغرفة التيكنا ننام فيها , كان المسمار الكبير مثبتاً مباشرة أمام سريره فعلقها وأنا أسند لهالكرسي . ثم نزل وابتعد وأخذ ينظر إليها برضى , إلا انها لم تتحرك . فكر قليلاًفقلت له : ” ربما تحتاج إلى تعبئة ” فرفع رأسه نافياً وقال : ” أعتقد انها ليستمستقيمة . إن ساعة الحائط ذات الرقاص لا تشتغل إذا كانت مائلة ”
فقد حدد آلية عملها، وهي بحاجة للإستقامة التي تجعلرقاصها يتحرك بتوازن وبديمومة واقعية، فرمز إلى عمقالعلاقة بينها وبين الواقع الذي يسيرعكس الزمن أو بزمن ليس هو الزمن الكرونولوجي الذي رسخته النواميس الكونيةوفرضت عزته وفخاره وسطوته على الأشياء ومفاعيله على كل شيء ليكون الصانع الحاذق في كل المراحل والمبدل لكل الأشياء على حساب نضارته وبهائه الذين يقهران كل الآباد والدهور.
ففي كل دقة  من دقاتها نداء استغاثة، علّ السامع الفطن يدركن أهمية الوقت، وخطورة اللامبالاة خاصة في القضايا الوجودية، فقد دقة ساعة موت الخالة ، وفي موتها فقدان لصورة من صور الماضي، فكأنها تنذره بالفراغ المنتظر، فهي مبتورة من جسد التاريخ المبعثر الأشلاء بين الأقطار المختلفة في الجغرافيا والمؤتلفة في الزمن الذي ينازع للخلاص من زفرات الموت الثقيلة لكي يولد زمن آخر، هجين هو وليدة المصالح والإيديولوجيات المفبركة.
فيصف أحاسيسه المتفاعلة مع ذلك التبدل قائلاً: “وقد ماتت هناك بعد أن دقت الساعة دقة واحدة ,في الليل. أحسست بذلك تماماً , فقد بدت تلك الدقة الوحيدة , المبتورة والقاسية بدت لنا جميعاًخطوة أخيرة . وقد نظرت إلي الساعة ثم إليً فيما مضت تتحدث إليه ”  فقد أدرك بأنها الخطوة الأخيرة، إلّا أنه أدرك أيضاً بأنها تحمله برمزية نظرتها إليه وإلى الساعة مسؤولية كبيرة، ليدرك الثروة المفقودة، التي عليه استرجاعها بالغالي من الأثمان. فقد سلبته عمراً، وهناءة، وأماناً، وخلعت منه خمساً وثلاثين سنة،هي من أجمل ورود حياته، فالعجز فيه، كما في عكاز الساعة المتعثر الخطوات، فيقول:”
“تحتتلك الدقات الرهيبة للعكاز الذي فقد إتجاهة , وبين أصابعك , يديك , شفتيك , وتحتعينيك , خلعت خمساً وثلاين سنة من حياتي سنة سنة وقطعة قطعة”  .
فلم يعش طفولته البريئة،بل عاش القلق والهروب، وانتظار الحلول لاستعادة حياته العائلية، المتباعدة بين  غزة والأردن ومابينهما من صحراء مرعبة ، لا يتوقع الفوز إن قرر اجتيازها لأنه دونها عقبات كثيرة متمثلة بالحدود التي فرضها الواقع السياسي اللقيط على الأرض الفلسطينية.
–    المرأة ورمزيتها
فالمرأة شريك أساسي في الصراع، وتعتبر العنصر الأكثر قهراً في الروايةالعربية، تحمل عبء العائلة ،ووتتوجس من ضعفها الذي يحبط من يحيط بها من جهة ، ويستفيد منها الآخر من جهة أخرى، هي العنصر الحي النابضب بالمشاعر الإنسانية، القادر على إعادة الحياة إلى إنسانيتها بمجرد  حضور أدوارها المتعددة في الرواية.
فالمرأة في القضايا المصيرية، تصبح القضية بعينها، تتوحد صفاتهامع صفات الوطن،وتمنح الأرض بعض مصطلحاتها التي تؤكد قداستها وقداسةالأرض، فتشترك الأرض والوطن بمفهوم الشرف، وتشتركان في مفهوم الإغتصاب، ويشتركان في مفاهيم العار والخذلان والضعف أمام قدرية القوة والهمجية، كما ويشتركان بمصطلحات العزة والكرامة والعنفوان والإباء الذي يتمظهر بقهر المعتدي والإنتقام منه.
وقد عبر عن تماهي المرأة مع الأرض، ووواءم بين الواقع الموضوعي والبعد التاريخي، فشخّصها وخاطبها قائلاً:
” أنت أرض خصبةأيتها الشيطانة أرض خصبة ,أقول لك”أرض خصبة مزروعه بالوهم والمجهول تتكسر كلانصال الفولاذ في العالم اذا مرت فوق صدرك الاصفر العاري , صدرك الأجرد الممتد الىأبدي والى آبادهم , والسابح بجلال في بحر من العتمة , كل انصال الفولاذ في العالمليس بمقدورها أن تحصد من فوقك عرقاً واحداً ” .
فخصوبة الأرض هي كخصوبة المرأة ،تغني الحياة وتجددها، وقد يكون زرعها مجهولاً، لا يعرف طبيعته أحد، ويخبّئ الوهم والقلق والمجهول والضياع.
والتاريخ له فعله، قطار الزمن فيه، يحمل مجموعة إلى تلك الأرض، ثم يقصيها ليأتي بغيرها،والكل عاجز أمامها، تسخر من عنفوان البشر وكبريائها، تخضع كل من يتوهم بقدرته على ترويضها، فهي تلقي عن ظهرها آثام البشر وشيطانتهم، وتحطم بصدرها الممتد إلى الآباد الغابرةكل الصدور الواهمة، فالكل ضعيف أمام قداسة طهرها والكل صغير أمام عظمة مجدها وتاريخها.
_ الصراع السياسي:
لقد تعددت أوجه الصراع السياسي في الرواية ، وتشكلت بين الصور الواقعية والصور الرمزية، وعبر الراوي عن مواجهة غير متكافئة بين الضحية والجلاد، وحول الصراع إلى مشهد تمثيلي قد يساعد في التعبير الدقيقي عن حلةالمواجهة الرهيبة التي يقف الطرفان فيها : الأول: متمكن من خصمه،مستهزئ به وبكرامته وبوجوده الإنساني، ينثر شرارات حقده على الجميع ، يظهر لهم الوحشية في الآتي من  بعيد إليهم، يريد منهم التعرف عليه جيداً ، فهو لا يرحم ومحكمته ميدانية، وسياسته هي فعل الموقف الذي هم فيه، فقد هدد الضابط الجميع لكي يرشدوه إلى سالم ، وإلا فالعقاب سيطال الجميع وقد يكون الإعدام رمياً بالرصاص. والثاني: هم الناس الذين غشيهم الذهول، وهم في حيرة من أمرهم، أيكونون مع  الشريف الذي آل على نفسه حمل المسؤولية وما فيها من تبعات،أم مع الآخر الذي لايشبههم لا في الشكل ولا في السياسة ولا في الرحمة ، فكان لا بد من شخصية روائية تنقذ الموقف وتخرج العقدة إلى حل قد يكون أعقد وأفظع من الحل نفسه.
فزكريا مثال تلك الشخصية وقد اختصر بدوره شريحة كبيرة من الشعب الفلسطيني التي يمكن فهمها من خلال ما عبرت عنه أو ما قامت به من أفعال لها انعكاسات نفسية متناقضة ، وهي أيضا صنيعة الظروف القاسية التي واجهت الشعب الفلسطيني.
فوجود هذا النماذج في الرواية ، يوضح  وجود الاختلاف في التعاطي مع القضية الواحدة،  ويكشف من خلالها معاناة الشريحة الملتزمة التي تواجه على خطين : أحدهما داخلي من خلال العملاء والانهزاميين وخارجي من  خلال العدو وأطماعه والسياسات الداعمة لإحتلاله. وبحضور النموذجين يكتمل المشهد، فالصراع بين شخصية سالم التي تمثل النبض الثائر في الشعب الفلسطيني وشخصية زكريا التي تمثل الخيانة المبررة بالعجز، فيتدفق السرد، معبراً  “وفيما كنا نتزاحم على الممر الضيق المؤديإلى ذلك البناء المهدم كانوا يزحروننا تاره بالعبرية وتاره بالعربية المكسرة , ثمأوقفونا صفاً واحداً وانصرفوا يدرسوننا بإمعان واضعين فوهات رشاشاتهم تحت آباطهم، موسعين ما بين أقدامهم, وفجأة أخذت السماء تندف رذاذها ببطء وكآبة , فيما غاصالمعسكر وراءنا بصمت أسود” .
“وفي اللحظةالتالية تماماً أندفع زكريا خارج الصف المستقيم وقذف نفسه راكعاً وكفاه مضمومتانإلي صدره وأخذ يصيح..فتراجعت الفوهات الفولاذية مترددة بطيئة , ثم تقدم الظابطفركله وتولي جنديان إيقافه على قدميه الواهنتين :” أنا أدلكم علىسالم”
فقد اكتمل المشهد الصراعي بأدوار مختلفة لشخصيات مختلفة،أدت كلواحدة دورها في المشهد العام الذيقد يبدو بقراءة موضوعية يعني الشخصية بذاتهاإنما برمزية المشاهد فقد تختصرالمعاناة الفرديةالمعاناة الجماعية وقد تتعدى الانهزامية الفردية إلى انهزامية جماعية ظن لها أنصارها ومفكروها ومنظروها لتبرير ضعفهم وسقوطهم أمام هول الآتي. فهم يسيرون إليه دون دراية بواقع المحتل وبواقعهم، يلحسون المبرد وهم يتلذذون بمضغ جوهر أرواحهم التي تنطفئ مع كل تهاون يقدمونه هدية إلى أعدائهم.
فقد كافأ الظابط زكريا بركلة ألقته أرضا، وأوقفه جنديان على أقدامه ، ودلهم على سالم،  ”  ثم تقدم الظابط فركله وتولي جنديان إيقافه على قدميه الواهنتين” وبذلك تتلاحق مشاهد الذل وتتكامل الصورة العامة بين الشيء ونقيضه لفضح القادم من بعيد، الذي دخل على تاريخ الشعب الفلسطيني ليكتب له تاريخاً جديدا وذكريات جديدة وهوية جديدة ، لايميز فيهابين الش\ريف وبين العميل، فقد يقتل الأول جسدياً وقد يقتل الثاني معنويا والهدف واحد والمعني واحد، هو الشعب الفلسطيني بكل تنوعاته الفكرية والاجتماعية والايديولوجية.
فقد قضى على زكريا معنويا وهزم إرادته في التحدي، وهزمه إنسانية وجرده من روحه الجماعية أمام سطوة حب البقاء،
فثارت أنانيته تنزع للوجود الآني الذي لم يتح لها المحتل تذوق حلاوته التي انقلبت مرورة، ليس على زكريا فقط بل على كل من شاهد عملية اغتيال سالم أيضاً.
” وقبل أن يفعل تقدم سالم من تلقاء نفسه ووقف أمامنا مباشرة….إلا أن عاد فالتفت إلى زكريا وشيعه  بنظرات رجل ميت:باردة وقاسية وتعلن عن ولادة شبح. وغاب وراء الجدار هنيهة. ثم جاء صوت طلقة واحدة فيما أخذنا ننظر إلبى زكريا وكأننا جميعا متفقون على ذلك”.
فالكل مصاب ، والكل مهان والفجيعة عامة وجامعة، والمنتصر هو العدو،  وقد مات سالم  جسديا، لكنه بشر بولادة شبح، سيخرج من إرادة شعب لا تموت، ومن عيون رمقها بتضحيته ورمقته بوفائها الذي ستعبر عنهالأمة في ساحات نضالها.
وقد أثمرت تلك النظرات في المواجهة القدرية الغريبة وفي المدى اللامحدود، بين حمد وبين جندي ينتظر دورية من الكشافة  لتنقذه من ضياعه، فكانت المواجهة التي نفض حمد من خلالها عنه غبار الخوف، قائلاً:”فكنت قد تجاوزت الخوف إلى شعور غريب لا يفسر”.  فكانت بذلك أولى إنجازان سالم الميت جسديا والحي روحيا في حمد وفي غيره من  الأحرار، وقد عبر باطمئنان عن حساباته المنطقية في الربح بعد أن أرقته حسابات الخسارة وهو يردد” ماتبقى لكم” فقد تبقى هو بإرادته على المواجهه الواعية وهو يقول:” وهناك قضية أخرى لها قيمتها،ويجب أن تحسب حسابه:أن تقتل أنت هنا على بعد خطوات منهم،على بعد خطوات من معسكرك، ربما هو عمل أخطر من أن أقتل أنا”.
وهنا بداية النهاية، فقد  وعى أهمية الانجاز الذي حققه سالم، وها هو يعود ليفكر بانجاز مماثل يتابع به مسيرة بناء الذات الفلسطينية المهشمة، فيجمع  كل واحد أشلاءها بقدر الاستطاعة وذلك هو الطريق المؤدي إلى الانتصار.
فلا عمل مهين بعد اليوم وزكريا لن يتكرر، والصراع المتمثل في أشكال مختلفة قد تجسد ضد شكل واحد هو العدو، وقد لا ” نرى الفلسطيني و هو في صراع مع لقمة العيش و الحاجات الإنسانية والكرامة الوطنية وتأثير الهوية ، كما نرى الإنسان الفلسطيني وهو مضطر للتعامل المهين مع عدوه الذي اغتصب أرضه.”  بل سنرى الفلسطيني وهو في موقف التحدي وحساباته رابحة دائماً لأنه لم يتبق له شيء، وكل عثرة ضياع ستكون خطوة مضيئة من خطوات العبور، فقد تحددت العناوين، وأسدل الستار عن العدو وأهدافه، فالقمع يمارس في  حرمان الفلسطيني من لقمة عيشه، الذي أضحى غريباً عن أرضه، وحاجاته الانسانية المسلوبة ، فلا يهنأ بما تهنأ به البشر، وتدجن فيه أساسيات وجوده وهي العاطفة الانسانية التي تجمع بينه وبين أعز أحبائه، فهو ومريم في غزة، والأم في الأردن ، والفاصل بينهم حدود ، سياسية وطبيعية، والإثنان عملا على سلبه إنسانيته.أما الكرامة الوطنية فهي ذمة التاريخ، وفي الأمل الموعود وبالوعود الكاذبة، وهو ينتظرها على محطة القهر والمعاناة. أما الأرض فأضحت أماً مثكولة بأبنائها، تغتصب بشعارات وبمبررات واهية، وهي ضعيفة ترجو الخلاص،وتئن من ثقل المحتل.
فكلها تكون الفلسطيني المفكك بصورته، والعاجز عن إثبات هويته، فكانت المواجهة وكان الإصرار وهو يقول:” فأدركت أنه سيكون بوسعي ذات لحظة أن أجز عنقه دون رجفة واحدة”.
والنصر الحقيقي لا يكون إلا انسجاماً مع التوجه الينبوعي الطاهر.. وهل ينتصر من يخسر نفسه ولو ربح العالم..؟
فالقرار بالمواجهة هو السبيل الوحيد للعودة إلى الحياة، فلا حياة بدون كرامة وفقدانا لكرامة دليل على فقدان الحياة، فكانت البذرة الأولى التي ستنبت من رحم الأرض ثورة، ولا بد من إقصاء الرجفة عن القلوب، وتحديد الخيارات الأنسب من أجل الخلاص، فكانت المواجهة الصادقة بالقضاء على الوحش الذي قضى على آمال الأمة وهناءتها.
وقد استند الراوي على مباعث إيمانية، تجعل في الصراع قيمة أخلاقية، فتبرر حصوله عندما تمس الكرامة الإنسانية، التي لا يعادلها الكون بأكمله، لأنها أثمن الثروات الوجودية وأعظمها ولأجلها تمت الدعوات السماوية التي استدعت الكتب والرسالات للتأكيد عليها بكل المعايير الأخلاقية.
_ الصراع الاجتماعي:
فقد اتخذ الصراع الاجتماعي، أبعاداً أسطورية، قديكون الواقع الفلسطيني قد لامسها من خلال قهره، فالأسطورة برزت في عدة أشكال، فصورة البطل الأسطوري الذي يواجه الحياة ، ويريد أن يبدل الأمر الواقع، ويدخل في صراع مع الطبيعة ومع نواميس الحياة، لتغلبه في بعض الأحيان ولينتصر عليها في أحيان أخرى.
فشكلت شخصية حمد شكلا أسطورياً، في رفض الواقع وفي الثورة على اليأس والإستسلام، وفي المسير عبر صحراء قاتلة، تبلع العشرات أمثاله ليشكل بانتصاره عليها وعلى عدوه أسطورة هي فوق تصورات البشر ومداركها.
” فالبطل في الأعمال الأدبيةـ من هذه الناحيةـ  مقياس لمدى شعور الإنسان بالاستقرار في علاقة الفرد بالآخرين، وفي علاقة الجماعة الإنسانية بالكون، هذا الشعور يعطينا بطلاً محدود النطاق، محدود المشكلات، ويبعد العمل الأدبي تبعاً لذلك عن شكل الأسطورة. وشعور الإنسان بالأزمة، بالحاجة إلى تكييف جديد لعلاقته داخل الجماعة الإنسانية ولعلاقة الجماعة الإنسانية بالكون، يوقف البطل من جديد أمام منابع الحياة الأولى، ويرد العمل الأدبي إلى شكلٍ قريب من شكل الأسطورة.”
فلا يجوز تخطي حدود الواقع إلى رحاب الأسطورة،  لأن الرؤية الإصلاحية تفقد قيمتها، وتتحول الغاية الأدبية من دعوة للتطور والتغيير إلى دعوة للركون والإستعباد، تحت عناوين الضعف والعجز وانتظار القوة الخارقة التي تنجي وتبدل الواقع إلى واقع جديد وتغيّر سوء الحال إلى أفضل منه.
والأسطورة الأخرى هي في ضعف الانسان أمام خبايا القدر وخبيئات الدهر، فأعادنا غسان كنفاني إلى مشهدية أهل الكهف وإلى عدم قدرتهم على التكيف مع زمن هو ليس لهم، فحملهم القدر إلى واقع ليس واقعها وإلى زمن ليس زمنهم، ووضعهم أمام اختبار التكيف فعجزوا عن حجز مكان لهم في العلاقات الإجتماعية التي لم تترك لهم مكاناً، فغادروها حباً بالموت أمام موت الغربة في الحياة.
_ خاتمة الدراسة:
وعى غسان كنفاني أهمية المواجهة ،ووجد الكتابة هي شكل من أشكالها كي لا تخدر الأمة وتطبع وتتقبل الهزيمة والاستسلام المنساقة مع الزمن، وتصبح المستهجنات مألوفة دون أية ردة فعل انفعالية عند تعرض الكرامة الانسانية لسوء.
فلا يطلب من كل أفراد المجتمع التفاعل السلبي مع المعطيات الجديدة، فهذا يتنافى مع التنوع في الوعي بين أفراد المجتمع الواحد، وتتنوع القدرات وتتنوع معها المنطلقات والأهداف، فيرفع على كاهل فئة قليلة عبء المسؤوليات الجسام،  وتسير بها على الرغم من أعبائها االثقيلة .
وقد يكوب العبء ماديا عسكريا وقد يكون فكريا توجيهيا، ولكل منهما آلياته وومسالكه  المحفوفة بالمخاطر، لكن الغاية الوحيدة هي المجتمع كل المجتمع بعيدا عن الأنانية والمصالح الخاصة.
فالحقيقة ليســت شيئاً مطلقا وإنما شيءٌ نسبي فما يراه الأديب حقيقةً واضحةً قد لا يراه غيره، ما يعطيه قيمة إنسانية تميزه عن غيره وتحمله المسؤوليات الإنسانية والوطنية والقومية .
ولأن المجتمع ” يحتاج إلى فكرة تسبقه وتتفوق عليه، وتتحول أملاً وشوقاً محركاً وهدفاً محتجباً، وتكون أكبر من الماضي والحاضر، ومن المجتمع نفسه .. لا بد من جسرٍ فكريٍ يمتد إلى المستقبل امتداداً لا يحده شيء، ومادة هذا الجسر هم الكتاب  بأفكارهم وأخلاقهم وتمردهم على كل ما وجد من الأكاذيب والحقائق أيضاً.. فالحقيقة الموجودة ليست هدف الكاتب، وإنما هدفه الحركة والتغيير، لا الحقيقة.”
لذلك تميزت شخصية غسان كنفاني بالصمت وبالإيثار ، وبالمثابرة في سباق مع الزمن القاهر، يسعى لطلب الحرية والعدالة لأبناء وطنه المديح والثناء من الناس، ولا يأسف على شيء ، كما أنه لا يحاول فعل شيءٍ مغايرٍ لما هو واجب وضروري.

المصدر والمراجع:
1-    إبراهيم الهواري ، أحمد ، البطل المعاصر في الرواية المصرية ،مصر، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية،ط4، 2002.
2-    أبو مطر ، أحمد ، الرواية في الأدب الفلسطيني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط1، 1990.
3-    إنجيل متى: 16-27.
4-    بركة، فاطمة الطبال، النظرية الالسنية عند رولان جاكبسون،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1993.
5-    خالدة شيخ ،خليل، ، الرمز في أدب غسان كنفاني ، قبرص، لانا، 1989م.
6-    خليفة، باهوري، بناء الشخصية في القصيدةالقصيرة .بيانات انترنت http-laghtir-com
7-    الدغمومي ،محمد ، الرواية المغربيّة والتغيّر الاجتماعي ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، ط1، 1991.
8-    روي كاودن، دونالد آدمز،الأديب وصناعته، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، بيروت،مكتبة منيمنة،1962.
9-    شبيل ،عبد العزيز ، الفن الروائي عند غادة السمّان ، دار المعارف ، تونس ، ط1 ، 1987.
10-    عثمان ،عبد الفتاح ، بناء الرواية  ، مكتبة الشباب،ط1، 1982.
11-    عدس، عبد الرحمن وآخرون، مدخل إلى علم النفس ، نيويورك،جون وايلي وأولاده، ط2 1986  .
12-    عزت راجح ،أحمد ، أصول علم النفس، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية،ط1 1959.
13-    عزيز، حنا داود، الشخصية بين السواءوالمرض القاهرة: مكتبةالأنجلو مصرية،ط1،1991.).
14-    عودة ،علي ، الزمان و المكان في الرواية الفلسطينية ،الهند، الجامعة الإسلامية، 1990.
15-    عياد ،شكري ، البطل في الأدب والأساطير ،ط1؛ القاهرة، دار المعرفة،1959.
16-    غنايم ،محمود ، تيار الوعي، دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع،ط2، 1993  .
17-    القاسم ، أفنان ، عبد المجيد الربيعي و البطل  السلبي ، بيروت،عالم الكتب، ط 1 ،1984 .
18-    كنفاني،غسان ماتبقى لكم ،مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط :الخامسة، 2001م.
19-    كيلاني، مصطفى: إشكالية الرواية التونسية، من النشأة إلى 1985 شهادة التعمق في البحث، إشراف د: محمود طرشونة، كلية  الآداب، الجامعة التونسية، تونس ،1987.
20-    لحمداني ،حميد ، بنية النص السردي ، المركز الثقافي – العربي ، الدار البيضاء ، بيروت ، ط1 ، 1991.
21-    مرتاض، عبد الملك ،في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،1988.
22-    مروة ،حسين ، دراسات نقدية، ط2، بيروت، دار الفارابي، 1976.
23-    يوسف، سامي اليوسف ، غسان كنفاني ، رعشة المأساة ، عكا، دار الأسوار، ط2،1988.

شاهد أيضاً

ندوة “عاشوراء نبضة الألم ونهضة الأمل” في معهد المعارف الحكمية

شارك الملتقى الثقافي الجامعي في ندوة أقامها عصر يوم الإثنين في 11 أيلول 2023 معهد …

تعليق واحد

  1. اريد ترجمة رواية ما تبقى لكم الانجليزي ضروري بس اول 4 صفحات ارجووكم ساعدوني😭😭

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *