الرئيسية / أبحاث / دراسة تجليات صور المقاومة في شعر عزالدین المناصرة

دراسة تجليات صور المقاومة في شعر عزالدین المناصرة

مؤتمر المقاومة13

بحث كياني

دراسة تجليات صور المقاومة  في شعر عزالدین المناصرة
(الصور الرمزية نموذجاً)
الملخص
حسین کياني *  مريم السادات ميرقادري**  ناديا دادبور***
صور المقاومة لاتَتَحَدّد في الإطارات المعتادة و لاتنحصر في زنزانة التعابير السجينة المتجمدة؛ بل هي أوسع نطاقاً من أن ينضب لها معين أو يکلّ عن إفصاحها قلم رشيق. و قد ازدهرت هذه الصور ازدهاراً ملحوظاً علی يد الشعراء الذين بذلوا جهوداً جبارة لإحياء رفات الحق في أقصی أنحاء العالم. فعز الدين المناصرة فاز بقصب السبق في مجال الأدب المقاوم و رسم بريشته الساحرة لوحة بديعة تکمن في طياتها شيفرات دلالية راقية، تشفّ عن حقائق المقاومة التي تحمرّ تارة و تخضرّ أخری، و هو يرنو إلی تحقيق مدينة فاضلة مناصرية في نطاق الأدب المقاوم هي التي صوّرها بشتی الصور الرمزية .
فاستهدفت هذه المقالة استعراض مظاهر المقاومة في أشعار عزالدين المناصرة کممثل نموذجي للأدب الفلسطيني المقاوم، استعراضاً مستفيضاً و يتمّ ذلک عبر دراسة الرموز الدسمة التي وظفّها في شعره بأنواعها الدينية و التأريخية و الأسطورية و بمعالجة غيرها من الأساليب الرموزية المستحدثة نحو الرمز المکثف، التکثيف الرمزي المذيل، التکثيف الرمزي المقنّع، الرمز التضميني، و الرمز الحکاية. ذلک أنّ الشرائح الرمزية تحلّ المحل الأول في شعر المناصرة قياساً لأخری الصور.
النتائج المتوخاة لهذا البحث تسفر عن مقدرة الشاعر في إنشاء طقوس فريدة بتوظيف صور رمزية نابضة بالحياة. إلتزم الشاعر في کثير من أشعاره بالإزدواجية الأنيقة بین الرموزية و فحوی المقاومة. و وظّف المناصرة مقدرته الناضجة في تطوير الصور الرمزية المعهودة باستدعاء الشخصيات الدينية و الأسطورية و التاريخية ثم أنّ الرمز الحکائي بنوعيه المأثور و التلقائي يعدّ من أرقی مستويات الرموزية عند المناصرة و الرمز التضميني بتحليقه في الفضاءات التناصية المنزاحة يحل المرکز الثاني و بعد ذلک يليه الرمز المکثف الذي  يخلق عناقيد دلالية ناضجة تنتج صور رائعة وأما التقنيات الرئيسة في هذا الصدد فهي توظيف التکرار البدائي؛ إدماج الشرائح الدلالية في البنيات المضادة، ثم  العکسية واستدعاء الطقوس التناصية  و الحق أنّ الصورة الرمزية عند عز الدين المناصرة عزّ للمقاومة و نصر للانتفاضة.
الکلمات الدليلية: أدب المقاوم، عزالدين المناصرة، الصور الفنية ، الصور الرمزية

المقدمة
يبدو الحديث عن شتی الصور الشعرية في الأدب المقاوم أمراً معهوداً إلا أنّ هنالک شعراء کعز الدين المناصرة وغيره، تطرّقوا إلی ميادين حديثة بديعة و عقدوا صلات متينة بين صورهم والمقاومة وقد أفضی ذلک إلی خلق أجواء نصية نادرة والصور الرمزية هي التقنية الراقية في هذا المنطلق وإنّها لم تکد تنعدم في دواوين شعراء المقاومة بل تموج في جلّ نتاجهم الشعري لأنّ الرموزية تؤدي دوراً جلياً في تضخيم المعنی و تجعله مفعماً بالشرائح الدلالية التي لها قابلية ذاتية في توالد المعاني ضمن حلقات متباينة منها ما تطفو علی السطح و منها ما تقطن البنيات التحتانية ولا ينالها إلا ذو حظ عظيم. هذه السمة الطاغية التي تتميز بها الرموزية جعلت الباحث يضرب صفحاً عن سائر الصور ليعتلج بلاغتها و يستغور في ذاتها في الصوت المناصري.
والرموزية بشکل عام تنقسم إلی قسمين، الرموزية المعهودة التي تتجلی في الرمز التأريخي و الأدبي والأسطوري وغيرها. والرموزية المستحدثة التي تبلغ قرارة الشرائح الدلالية  هي التي ما استطاعت بعد أن تؤکد لنفسها وجوداً فنياً يستحق وإن کانت تتناثر في القصائد بجانب الرموزالمعهودة . ومن أهم نماذج الرموزية المستحدثة هي:  الرمز المکثف بشتی فروعه من التکثيف الرمزي المذيل، والتکثيف الرمزي المقنّع، ثم  الرمز التضميني، والرمز الحکاية.
الرموزية معهودة کانت أم مستحدثة تتأبط صور خارقة ومعاني ناضبة وکل ما من شأنها هو أن تحث الشعب و تبوح بالحقائق من دون أن تترک القارئ في مغبة التشتت وراء المفاهيم المستعصية التي لاطائل تحتها.
هدف البحث
يهدف البحث إلی دراسة مقتطفات من أشعار عزالدين المناصرة في ضوء الرموزية ذلک لتبيين مدی فاعلية الصور الرمزية في إثارة المخاطب و مدی تأثيرها في إبلاغ رسالة الأدب المقاوم إلی المتلقي .
منهج البحث
المنهج الذي اختارته هذه المقالة في سبیل إنجاز دراستها هو المنهج الوصفي التحلیلي؛ فبعد تطرّق موجز إلی السيرة الذاتية و العلمية لعزالدين المناصرة تلخص المقالة معنی الرموزية في خطوط عريضة ثم تستقصي في تحليل و دراسة مقتطفات شعر عز الدين المناصرة  بغية إزاحة الستار عن مدی تعالق الرمز و الأدب المقاوم. وهي تنجز مهمتها بدراسة الأساليب الرمزية المعهودة أولاً وفي القسم الثاني ترکن عند الفنون الرمزية المستحدثة وتبين إيحاءاتها.
أسئلة البحث
والسؤال الذي سعت وراء الإجابة عنه هو :
ما هي الميزات العامة للصور الرمزية التي احتجزها عز الدین المناصرة في شعره ؟
کيف أدّت مستويات الصور الرمزية في شعر المناصرة إلی ازدواجية المعنی المقاوم واللفظ ؟
الدراسات السابقة
لقد اهتمَّ نقادٌ عربٌ والأجانب بشعر عز الدين المناصرة، منهم: فيصل القصيري (العراق) في كتابه: (بنية القصيدة في شعر المناصرة(1990)، ومحمد بودويك في كتابه: (شعر المناصرة: بنياته، إبدالاته، وبعده الرعوي)،(2006)، ورُقية رستم بور ملكي (إيران) في بحثها: (قناع امرئ القيس في شعر المناصرة)،(1386)، وحفناوي بعلي في بحثه (2005): (شعرية التوقيعة في شعر المناصرة)، بل صدر ما يقرب من عشرين كتاباً عن تجربة المناصرة الشعرية. أما في مجال الصور الرمزية فيمکن الإشارة إلی:
1-التصوير الفني في شعر صلاح جاهين؛لأسامة فرحات،(1986). وهو کتاب في الرمز والأسطورة ويری کاتبه أن تغيير مفهوم التصوير الفني تعد بالتالي أساليب تشکيل الصورة الفنية ولقد لجأ هؤلاء إلی الأسطورة والرمز فتحرروا إلی حد بعيد من الشکل الداخلي المأثور للقصيدة وبقی الإطار الخارجي يتململ في موضعه نحو اکتشاف مکان جديد.
2-الصور الشعرية في الکتابة الفنية؛ الأصول والفروع؛ للدکتور صبحي البستاني؛ قد درس الکاتب في القسم الأخير من کتابه معنی الصورة الرمزية وقام بتحليل نماذج شعرية.
3- شعرية الجذور(قراءات في شعر عز الدين المناصرة)، إعداد محمد عبيد الله؛ هذا الکتاب مجموعة مقالات في أشعار عزالدين المناصرة منها الرمز لدی عزالدين المناصرة لغسان غنيم الذي درس نماذج من الصور الرمزية المعهودة لدی المناصرة ثم مقالة تحليل مضامين البناء وبناء المضامين في شعر عزالدين المناصرة لسمير شريف استيتة؛ وهي مقالة جديرة قيمة واقتبس الباحث أطر الرموز المستحدثة في مهاده  النظري من هذه المقالة.
أما ما ابتدعته هذه المقالة فهو :
دراسة الصور الرمزية المعهودة والصور الرمزية المستحدثة بصورة متوأمة مما يمهد الأرضية المناسبة للمقارنة والموازنة بين الصورتين ورصد مدی فاعليتهما في نضوج المعاني.
المقاومة
المقاومة من (قَوَمَ)، قاومه في المصارعة وغیرها :قام له(مصطفی والآخرون، 1386/767). کلمة المقاومة تأتي في مقابل کلمة الطغیان حینما تشکل المقاومة؛ بأن الشخص أو الأشخاص یریدون الطغیان في وجه الآخرین وهذا من الطبیعي أنّ المخاطب یسعی وراء الذود والدفاع عن نفسه أمام الطغیان فالمقاومة تعني الوقوف في وجه الاستبداد والطغیان أو وقوف شخص أو عدة أشخاص في وجه الظلم والاستبداد(راجع:مجیدي،1390/412).
فهي معنی معروف فدلالته قدیمة في حیاة الإنسان وهي«إحدی وسائل الحیاة في الدفاع عن النفس وفي حمایة عن الذات ضد کل عدوان تواجهها، مهما اتخذ هذا العدوان من أشکال، والمقاومة في الإطارالبیولوجي، هي الحیاة ذاتها من العدم. المقاومة ذات معان عظیمة ودلالات سامیة ولها علاقة بالنفس و الروح؛ فهي مشاعر نفسیة ورؤیة فکریة لکل مخلوق ویستعمل هذا المصطلح کثیرا عند وقوع العدوان والاحتلال. فمصطلح المقاومة مصطلح متوارف الظلال ويعتبر فعلاً إنسانياً إرادياً واعياً للحفاظ علی الوجود والعیش بکرامة وحریة فیعدّ من مهام الحیاة إذ هي بؤرة رئیسة للثبوت واستقرار الدول في أقصی أنحاء العالم.
أدب المقاومة
أدب المقاومة یعد فرعاً فنیاً في ساحة الأدب والأدب یحتوي علی مستویات عدة وله معان مختلفة.   إنّ أدب المقاومة له جذور عمیقة في الأدب، إلّا أنه لم یکن یتمیّز بمصطلح خاص وقد«شاع استخدام مصطلح أدب المقاومة بحیث انتشر أکثر من مصطلحات شاعت قبله کأدب المعرکة، وأدب الحرب، ویمکننا أن نطلق علی الشعراء الذین أنشدوا ضد الأعداء بشعراء المقاومة، فهذا النوع من الشعر یطلق علی ما ینتجه الشعراء من منطلق الدفاع عن المصالح الوطنیة اإثر العدوان(موسی الخطیب، 2009/9). والعديد من الشعراء والأدباء إنصرفوا للعمل في هذا المجال وأنتجوا آثار خالدة منهم عز الدين المناصرة.
عزالدين المناصرة
الشاعر عز الدین المناصرة ولد وترعرع في بلد النعيم  في الخليل بفلسطين بتاريخ 11/4/1946, وبقي هناك حتى حلول  5/10/1964 حيث بدأت رحلة المنفى والمعاناة والألم. هو أحد کبار الشعراء العرب في المنتصف الثاني من القرن العشرین وهو یعدّ شاعراً عالمياً بکل المقاییس ویتمیز شعره بخصوصیة فریدة علی الصعیدین الحداثة والمقاومة وأنّهما ولید تجربته الحیاتیة لأنّه ابن الوطن المقاوم (الفلسطین)، وهکذا کان الشاعر یقیم علاقة حمیمة وحتی وجودیة مع أدب المقاوم حیث استطاع الجمع بین أسلوب الحداثة و أسلوب المقاومة في شعره وقد ألّف أحد عشر دیوانا شعریا وکان للشاعر بصمة واضحة في الشعر العربي الحدیث(2009-1968) لأنّه یکتب أشعاره معایشاً الحالة وتلک کانت نقطة قویة في علاقة مناصرة بأدب المقاوم.
جعل کل همّه وعمله خدمة القضیة الفلسطینیة دون غیرها ولم ینال من ذلک إلّا التعب وظل یقول إنّه لاشرعیة لدولة العدو ومصیرها للتفکک والاحتلال في یوم من الأیام؛حیث کانت أقواله مطابقة لأفعاله فلذلک دفع ثمناً باهظاً علی الرغم من الوقت العصیب الّذي مرّ به ویتمیز شعره باستخدام أسلوب الأسطورة من خلال الذات والواقع والمألوف والحراک الاجتماعي والعادات والتقالید حیث یوظف هذه الأسطورة لبناء صورة کلیة شاملة يتبیّن من خلالها الواقع حیث أن المستقبل لابد أن یکون مشرقاً وهو مستقبل شعب فلسطین یتبین منه وقد تخلص من الاحتلال وذلک من خلال الرموز الدینیة والتأریخیة والشعبیة والأسطوریة والفکریة. من هنا أن اسم عزالدین یلمع في الحقل المقاوم کلما تم ذکره ولایمکن الفصل بینه وبین أدب المقاوم(راجع:علیان،2011/8-5).
یتمیز أسلوب عزالدین المناصرة بالوضوح کما یعتمد اعتماداً بالغاً علی الأسلوبیة فله صوته الخاص الذي یفترق عن سائر الأصوات الشعریة المعاصرة وشعره نمط أسلوبي جدید في سعیه  الحثیث إلی خلق حداثة خاصة وهو یعني بالتفاصیل المتوترة، هو یبین الأحداث والهموم الیومیة التي أشاعت في مجتمعه وهو شاعر تأملي وشعره یقع في ثلاث فروع بصورة عامة علی الیومیات،التأملات أو التوقیعات(راجع:القصیري،2006/226).
إنّ عزالدین المناصرة هو رائد في مجال شعر فلسطیني المقاوم حتی أصبح شعره کیانا لشخصیته و«یبدو شعره للوهلة الأولی صعبا خشنا یخلد من ثلاث، اللغویة ومروئة ایقائیة وجمالیات التصویر لکنه حین تنجح القراءة ستکشف سهولة ورحابة خطابه»(عبید،2006/6).
وهو یستخدم في شعره شتی أسالیب الأدبیة وتغنیات المتطورة  إلّا أنّه یبرز بروزاً خاصاً في ناحیة صور الفنیة فیفعم شعره بالتشبیه، الاستعارة، الکنایة، الرمز، و…وإثر هذه الصور الفنیة یصنع من شعره متحفاً جمالیاً بدیعاً وفناً معنویاً رقیاً إذ یستوي علی قمة التطبیق  بین صورة ألفاظه وصورة للمقاومة في أرض الواقع فمن یتتبع خطوات شعره یمکنه أن یتلمس بوضوح مدی خطورة المقاومة وکیفیة تجلیاتها علی صعید الألفاظ  وهذا ما جعل شعر عزالدین المناصرة جدیر بالبحث والمناقشة.
أدبه
لعزالدين المناصرة مجموعات شعریة منها:
یا عنب الخلیل، القاهرة-بیروت، (1968). الخروج من البحر المیت،بیروت، (1969). مذکرات البحر المیت، بیروت،(1969). قمر جرش کان حزینا، بیروت، (1974).بالأخضر کفناه، بیروت، (1976).جفرا، بیروت، (1981).لالاحیزیة، عمان، (1920). رعویات کنعانیة، قبرص، (1992). لاأثق بطائر الوقواق، رام الله،(2000).لاسقف للسماء،عمان، (2009).
و قد عمل ناقداً و له أعمال نقدية شتی لايشار إليها لقلة المجال في هذا المقال.
الصور الرمزية
یعتبر الرمز من الأدوات الحدیثة في الصور الفنیة للنقد الحدیث وهو یعني لغة«الإشارة بالشفتین أو الحاجبین أو الید والفم واللسان وفي المصطلح یعني المعنی الباطن الخفي تحت المعنی الظاهر الذي لایمسه إلا أهله ولکنه اکتسب في العصر الحدیث دلالات مختلفة، لمیزته المشترکة في تمثیل المصادق المشترکة وتطور مفهومه من مجرد الإشارة واتخاذ الرموز من مظاهر مألوفة في الطبیعة إلی النفوذ في ذات الأشیاء وذلک بمد صلة بین هذه الأشیاء وبین الرغبات الجوهریة للنفس؛ فیتم لجوء الشاعر إلی الصورة الرمزیة(راجع:أصلاني،1390/4).
إن الرمز أحد وجوه الصورة الشعریة التي تتبدّی عن الانفعال المباشر والقوة في استخدامها لاتعتمد علی الرمز بقدر ما تعتمد علی السیاق الّذي یرد فیه الرمز ویکون فیه مجالاته الإیحائیة والخیال هو الأداة الرئیس للإبداع في هذه الصورة، والنجاح في استخدامها یتعلق أساساً علی الایحاء ومقاربة الحقیقة دون مناقشتها، فالعمل الرمزي لایختفي فقط في مجرد شحن الإشارات الرمزیة وعقد المقارنات، إنما الإبداع یتمثل في توظیف دلالات الرمز للتعبیر عن القیم والمشاعر الإنسانیة حیث یمتزج مفهومها مع رؤیة المبدع وتکون لها القدرة علی استثارة القارئ والمتلقي(راجع:أصلاني والأخرون،1390/4).

فهو ظاهرة فنیة أساسیة من ظواهر القصیدة الحدیثة ولربما کان الرمز من التقنیات الفنیة، للصخب الغنائي وقد یدخل تغییرا ًکبیرا ًعلی شکل والمضمون الشعري، ففي باب المعنی أدخل علی الشعر ما حملته الثقافة الحدیثة من الفکر والمجردات(راجع:عبد المطلب،د.ت/14). «وتحدیده بمعناه الدقیق یستلزم مستویین : مستوی الأشیاء الحسیة أو الصور الحسیة الّتي تؤخذ قالباً للرمز ومستوی حالات المعنویة المرموز إلیها، وحین یندمج المستویان یتم عملیة الإبداع علی الرمز»(الیاسین،2011/14).
فالرمز هو محاولة لخلق حالة شعريّة تتميّز بقدرة على توليد طاقة إيحائيّة ودلاليّة وتعبيريّة جديدة تقترب من فهم علاقة الإنسان المعاصر بتاريخه وواقعه ووجوده، فاستخدامه یدلّ علی عمق ثقافة الشاعر وعمق فکره إذ لابد للشاعر الذي یوظف الرمز في شعره أن يکون ذا ثقافة وتجربة واسعة. ويتجلی الرمز في إطارين إطار معهود يشمل الرمز التاریخي، الرمز الأسطوري، الرمز الدیني و إطار مستحدث غير معهود يشمل أنواع منها الرمز المکثف، التکثيف الرمزي المذيل، التکثيف الرمزي المقنّع، الرمز التضميني، والرمز الحکاية.

الصور الرمزية المناصرية المعهودة
نماذج الرمز الدینی في شعر عزّ الدين المناصرة
المسیح
من الواضح أن شعراء الحداثة حاولوا أن یستفیدوا من توظیف التراث الدیني لإثراء النص الشعري،و هاهنا یأتي الشاعر المناصرة لیأکّد اطلاعه علی هذا التراث؛ فاستحضر الشاعر التراث الدیني لیوظّفه في شعره ومن الشخصیات الدیني الّتي استلهمها الشاعر في شعره شخصیة مسیح (ع)، حیث یساوي بین نفسه و بین المسیح في المعاناة کما أن غایاتهم واحدة هي: تحقیق الأمن  والحبّ والسلام وقد قدموا لأجلها کل ما لدیهم من التضحیات غیر أن ید الغدر طالتهم  و انتهکت حرمته مثلما انتهکت حرمة المسیح (ع) و الشاعر یقول في قصیدته:
أنا و المسیحُ مَشینا علی الشوکِ ،/ثم المسامیر /ثم جُّررنا وراءَ الخیولِ/و کانت ورائي جُیوشُ المغولِ/                                       تکزُّ بأسنانِها الذهبیةِ مثلَ اللصوصِ/علی تلّةِ المنحدرِ/لِتَنعَفَ في النهرِ کلَّ النصوصِ/حینذاک هُزمتُ و أطبق جیش الظلام(المناصرة،2006،مج2/316و315).
عبّر الشاعر في هذا المقطع عن صورة المسیح بما تحمله من قدسیة و رسالة مبینة علی المحبة و السلام  وهذا التوظیف یناسب راهن وطنه الّذي یکون  في الأحزان و الجراح والمقاومة والنضال والشاعر یستفید من تاریخ المسیح لیصف همجیة ووحشیة الأعداء.
ورأی الشاعر  نفسه في المسيح (ع)  فسعی وراء  وجدان حلول  لإنقاذ الإنسانية  التي راحت تتحطم تحت أرجل المستکبرين فلم تقتصر  المشكلات علی الفلسطينيين فحسب بل تشمل البشریة أجمع، فهو وظف شخص المسيح (ع)  للتعبير عن الاهتمام وتحمّل المسئولية بدلاً، عن تحمّل آلام التضحية، فتأثر الشاعر بقصة صلب المسيح (ع) في المعتقد المسيحي حيث وجد المسيح  رمزاً نبيلاً للتضحية و تحمل معاناة الآخرين و قد تساوی الشاعر مع شخصية المسيح (ع) فعبّر عن أعدائه بالمجوس فمجوس الشاعر هم أعداء أرضه و تاریخه و أمجاده، وهم الغاصبين لأرضه ووطنه  ومجوس المسیح هم أعداء رسالته  (راجع: بوعدیلة،2009/234).
وقد تحمل الشاعر ما تحمله المسیح من معاناة، تجسّدها حالة التعذیب الّتي طالما یشاهد من مشي علی الشوک و المسامیر،کما قدم صورة الخیل وهذا إنما یدلّ علی مساواة ما عاناه الشاعر من أذی الأعداء في سبیل الدفاع عن قضیته مثلما تحمل المسیح العذاب لأجل إبلاغ رسالته لکن وحشیة الأعداء بکل ما أتوه من قوة یسببه الشاعر  لجسدهم  في جیش التتر بکل ما خلّفه هذا الجیش من صور الدمار و التخریب و العذاب.
فالمسیح رمز المقاومة والفداء والتضحیة، وتم استدعاء الشخصیة من خلال اللقب مرات کثیرة فتوحدت مع شخصیة الشاعر و شکلتا معا تجربة واحدةً و مأساة واحدة، فالشاعر یتحمل آلام المحنة و عذاباتها لأجل الوطن والفداء لدعوته الّتي یکافح من أجلها وقضیته الوطن الّذي یسعی لتحریک أحاسیس ومشاعر الأمة العربیة نحوه، کي تحدث معجزة الّتي ینتظرها حیث یقول:
أنا و المسیحُ، الّذي کان جاري هناک /المسیحُ الوفِيُ الأمین/شمَّ رائحةً فانتبه/أنّ مشنقةً تمَ ّ تفصیلَها في الظلامِ/و أن الوُشاةَ علی النبع ِ ینتظرون القرار/أنا و المسیحُ الّذي کان جار الکروم/نراقبُ نجمَ المجوسِ/فنلمحُ في الفجرِ عاشقةً تنتظر/و کفّاي قد شُقَقَت/کثیاب المسیح علی اللوح /في ساعة الصلبِ والمعجزاتِ/أنا منزلٌ خلعوه، و رشّو الرمادَ/علی أنهر الذبحِ والسبحاتِ(المناصرة،2006،مج2/285).
یحاول الشاعر أن یقرب القارئ من معاناته حین یقرنها بمعاناة المسیح وکأن ما ینطبق  علیه ینطبق تماماً علی ما ینتظر المسیح من مکائد أعدّها الأعداء له، فقد حاول الشاعر أن یقرب المشهد من خلال معاناته بمثابة مرآة للمعاناة المسیح و حینما یصف المناصرة هذه الصور الّتي تتعلق بالعذاب و الصلب و شدة المعاناة و یتخذ السید المسیح رمزاً عمّا لحقه من الأذی و الآلام و العذاب لکنه یأمل  بالأمل الکبیر الّذي ظل یحمله حتی آخر حیاته، کأنّ المسیح یتکلم عن لسان الشاعر و هذه الحذاقة في التمازج من أهم خصائص شعره الرمزي .
«و الشاعر یتأمل مشهد الصلب و ینقله شعراً، و یمزج مأساة الفلسطیني مع المسیح فالکف قد شُققت کما شققت ثیاب المسیح، وهذا العذاب المادي، هو نتاج لصوت التغییر الّذي انطلق من الشاعر/المسیح، ومن ثمة فهو مقابل إنساني یرید أن یوقف صوت السماء القادم کي یمنح  السعادة والحیاة للأرض، ولن یتراجع المسیح عن صوته، لأنه الکمال والنتیجة الحتمیة للتحرک إلی النظام من خلال الروح، لذلک فهو المرکز العظیم الّذي یشع بالنظام في تاریخ کله، و یتعادل منزل الشاعر مع جسد المسیح من خلال فعل رش الرماد في الأنهر، وتلک إشارة أخری إلی تجدّد الحیاة وعدم الفناء، کما أنّها إشارة إلی الإستمرار والتواصل وعدم الإنقطاع.»(بوعدیلة،السابق/23).
فیحسن الشاعر في هذا المقطع توظیفه  للتعبیر عن قضیته فوجد من شخصیة  المسیح فسحة لیعبّر عن معاناته حین یقرنها بشخصیته وکأنّه یوجه القارئ  الاستحضار ما مرّ به المسیح من تعذیب وتنکیل وغدر واضطهاد و یقارن ذلک بما یقع الشاعر وغایته من ذلک المبالغة في وصف ما یلقاه من معاناة حتّی إنّه کسّر کل الجنود بینه و بین شخصیة المسیح لیجعل نفسه صورة لهذا المسیح الّذي یرافقه في نفس الآن من خلال المقطع عبر ألوان التعذیب الّتي نالواها؛ لهذا  یلاحظ أنّ المناصرة في شعره یکرّر المسیح کثیراً لأنه رمز لمحنه وعذاباته وهمومه وتضحیاته و تبدو في الصورة التطابق واضحة بین المسیح والمقاتل الفلسطیني المناصرة فکلاهما یصل ذروة التضحیة من أجل قضیتهم وخلاص الآخرین إذ یقول الشاعر:
«أنتظر مسیحي المصلوب/أنتظر مسیحي المصلوب»(المناصرة،السابق،مج2/476).
فالشاعر یتحمل العذابات والمحن لأجل أهله ووطنه ویظلّ ینتظر المسیح المصلوب، ومن ثم ینتظر البعث والحیاة کي تتحول أزمنة الیأس والضیاع إلی أزمنة الأمل والنهوض، وکي یکون هو ذاته الشاعر المسیح الذي یفدي وطنه ویواجه العدو، وذلک ما أراده الشاعر الّذي وظف المسیح في أشعاره إذ تماهي الشاعر الحدیث مع المسیح متمثلاً دوره لإنقاذ الشعب وتخلصهم من الشر، ولاشک أنّ الصهیوني المحتل هو الشر الملاحق لفلسطین، وإنّ التحرر منه هو الخلاص للإنسان الفلسطیني ولأرضه، ولأنّ هذه الأرض تعاني من الظلم والاستبداد والاضطهاد فلا یستغرب القارئ أن یری في  أشعار عزالدین المناصرة هذا الحضور المکثف للمسیح (راجع: بوعدیلة،السابق/243).
فالشاعر یصور المعاناة والعذاب الیومي للإنسان الفلسطیني فیتخذ من صورة المسیح رمز المعاناة والتضحیة لأن لها علاقة وثیقة بفلسطین وبظلم الواقع علی الانسان الفلسطیني من التشرید والظلم والقتل والمؤامرة.
نوح
استحضر الشاعر نوح علیه السّلام بصفته رمزاً للصبر حیث ظلّ یبنی في السفینة مدة  طویلة من الزمن ثم بعد ذلک استطاع أن یرکبها بفضل من الله تعالی وانتظر زوال الماء فالشاعر یضع نفسه في محله وهو یحاول مراراً  أن یصبر نفسه و یمنیها بالحریة والسلام، حتی ترسو  علی برّ والأمان والحریة حیث یقول:
بقیتُ أراقب بحراً سیأني/علی صخرِها مرهقاً/مثل نوح/بقیتُ علی صخرِها حائراً/غابَ عنّي الدلیلُ/و غابت شموسُ الوضوحِ/یُمازحني الثلجُ في شهرِ تّموزَ ثمَّ/تمازجني الشمسُ في شهر مارس کالحلب (المناصرة،السابق،مج2/259)
یلاحظ في هذه الأبیات أنّ الشاعر یرمز بالنوح وهو رمز للصبر والجلد، قوة التحمل والانتظار الطویل، والعمل الجاد، آملاً بالنصر والنجاح؛ فإذا کان نوح علیه السلام قد قام بصنع سفینة لأمر ربه لتنقله إلی مکان جدید ینشر فیه دعوته  وهو ینتظر البحر الّذي سیحملهم، فإن المناصرة أیضاً یحلم بمدینة یحیطها البحر، وینتظره کثیراً، کي یحمله إلی مکان جدید یحقق فیه ذاته وینشر دعوته(راجع:رستم بور ،السابق/20).
إنّ استخدام  رمز نوح عليه السلام في شعر عز الدين المناصرة  إنّما هو ما يفرضه واقع الحال الفلسطيني،  فنوح عليه السلام الذي صبر علی دعوة قومه، فظلّ يدعوهم مئات الأعوام ولم يؤمن له إلّا قليل فيرمز ذلك الشاعر إلی الصبر الشديد والجلد بل وكذلك الإصرار والأمل وقد كان نوح من الشاكرين العابدين الصابرين الراجين فرج الله المتمسكين بالأمل وهكذا استخدم الشاعر هذا الرمز في شعره ولعل وجه الشبه الذي يريد أن يبرزه عز الدين المناصرة باستخدام  نوح كرمز، هو قوة التحمل والتفانى في  العمل والإيمان الخالص بقضيته فالنوح حين صبر علی سخرية قومه، حين شرع في بناء سفينته وعمل ليل نهار وهو یؤمن بأنّه علی الحق والحق يجب أن ينتصر أبرز ما يجب أن يوضحه عز الدين المناصرة برمز نوح فهو تحقيق هدفه حتى لو قال له البعض إنّه يحلم فالحلم بالنسبة إليه أمل وحق.
أیوب
استعمل الشاعر الشخصیة الدینیة المتمثلة في أهم رمز من رموز الصبر وهو أیوب (ع)، إذ هورمزللصبر وتحمل الآلآم وتقبّل الأذى برضی، «فیوظّف الشاعر نبي ( أیوب) في سیاق الحدیث عن الصبر علی الصعاب و المشاکل، لأنّ أیوب فقد کل ما یمتلک من مال وولد ومع ذلک صَبَرَ فقد جاء في وصفه : قام أیوب و مزق جبته و جزّ شعر رأسه  وخرّ علی الأرض وسجد، وقال عریاناً خرجتُ من بطن أمي عریاناً أعود إلی هناک، الرب أعطی والرب أخذ، فلیکن اسم الرب مبارکاً، وفي کل هذا لم یخطئ أیوب ولم یسب الله جهالة »(بوعدیلة،السابق/2009). فصار رمزاً دینياً في تحمل الصعاب والأذی؛  فقد وجد الشاعر في رمز الصبر علی البلاء ما یتناسب مع شخصته الحزینة حیث یقول:
أحاولُ رغمَ الأسی أن أطوقها بسمائي/و أهربُ منها إلیها/ أسیلُ علی جانبیها مِداداً/وما جفّت المحبرة/ونلتُ الشهادةَ في الصبرِ منها/برتبةِ أیوبِ/قد حاصرته رؤی المجزرة (المناصرة،السابق،مج2/260).
الشاعر یبیّن أنّه  رغم ما یعانیه من حزن وألم فإنّه یحاول أن یتغلب علی أحزانه بالصبر علی ما ابتلي به حتّی أنّه من شدة صبره نال رتبة أیوب علیه السلام في الصبر حسب قوله وهو استشهد برمز الصبر(أیوب علیه السلام) حیث بقی یعاني المرض مدة طویلة حتی سئمه الناس وأخرجوه من قریتهم إلی أن دعی الله کما جاء في القرآن:«وأیوبَ إذ نادی ربَّهَ أنّی مَسَّني الضُرُّ وأنت أرحم الراحمین» (الأنبیاء/83) فشفاه الله من مرضه، فالشاعر  یضع نفسه في مکان أیوب في الصبر علی مآسیه و أحزانه واستخدم شخصیة أیوب استخداماً مباشراً للیعبّر عن صبره وتجلّده مثل النبي أیوب ویتّحد به اتحاداً تاماً لیعبّر عن تجربته في تحمل المصائب.
وفي هذا النص الشعري یری العلاقة بین الشاعر وأیوب النبي وهي علاقة الصبر علی البلاء حیث أخذ من قصة أیوب عمّا عاناه من صبر وامتحان وبلاء وکأن الشاعر یعاني ما عاناه أیوب مع الرضی بما أصابه من البلاء، فهناک صفات مشترکة بین شخصیة الشاعر وأیوب فامتزج بها امتزاجاً تاماً .
مریم
من الشخصیات الدینیة الأخری الّتي إعتمدها المناصرة في أشعاره شخصیة مریم ولیست فقط السیدة مریم (ع) أم المسیح بل إن دلالة الاسم عنده تتشعب وتتنوع لتصبح عدة مریمات وهي «1-فلاحة فلسطینیة من بلاد الشام 2- امرأة جمیلة وجذابة 3-مناضلة ثوریة تتحد بالأرض والدم4-أم للشهداء تقوم بأعمال المختلفة«(رستم بور،السابق/21).یقول المناصرة:
«بطئ بریدک یا وطني، والرسائل لاتصل العاشقین/وکانت تحومُ النوارسُ/تملؤني غبطةُ….والنجومُ/مسافرةُ قربُ شمسِ الأصیلِ/ أحاولُ یا فَرَساً حجریّاً علی التلّة القرمزیّةِ/کالبحر، مریمُ إفریقیا في الفضاءِ،/تمدّ زراعاً لوهرانَ،/ثمَّ ورائَک یختبئون، لکي لایَرَوا ماوراءَ الطُلول/وَ مریمُ إفریقا …لم تطابق بهاءَ الأصولِ/کذلک قیلَ، أنظروا الماءَ»(المناصرة،السابق،مج2/200).
إنّ مریم في هذا المقطع الشعري شخصیة تمثل فیها الجهاد و التضحیة و الفداء للوطن فهي أم لم تبخل علی وطنها بأبنائها بل کانت أم للبطولة  و الحریة و تارة تکون الشخصیة التي تحارب و تقاتل وترفض العدوان، تدافع عن أرضها کما تدافع عن شرفها ضد کل محتل غاصب لأرض الوطن کما صوّر الشاعر أراض أفریقا الّتي تعاني من الاحتلال بمریم الّتي، تمدّ ذراعیها في الفضاء الواسع لتحمي جمیع أبنائها من العدوان و تکون لهم حضناً وأماناً.
ویقول في قصیدة أخری:
«لیست حجراً مریام/ مریام البحر الزاهي/ البحر الملغوم/مریامُ نجوم، أجنحة ورسائلُ وتخوم/مریام هدیر البحر وهدهدة البحر»(المناصرة،السابق،مج1/118).
في هذه القصیدة یعبر الشاعر عن شخص مریم التي یراها البعض کأنها صارت جماداً لامشاعر لها بل هي إنسان بکل ما تشمله الإنسانیة من معان و سمو الإنسانیة الّتي عبّرت عن أسمی القیم من حب الخیر والکفاح والتضحیة في سبیل المجد فصارت مبادي سامیة وقیماً راقیة، مثلها مثل البحر الصافي الّذي یخرج خیره لجمیع من یحتاج دون أن یسأل مقابل لمّا یعطی، کالبحر  الممتلئ وفیر یسع الجمیع بخیر، تضحّي بأبنائها في سبیل حاجة الوطن فتسير دمائهم لتروي عطش الوطن الظمآن الّذي صار جدباً وهي کالنجوم الّتي تضئ في الظلام لمن لایجد النور، نور الحریة، نور الأمن، نور السلام؛صارت تضئ طریق الأمن حین إشتد الظلام وانتشر الخوف.
فمریم تجعل نص المناصرة الشعري یتحرک بین الألم والأمل، مع تفوق ملحوظ لدلالات الأمل، فصارت مريم رمزاً لرسالة الّتي بلغت لأهل النضال، صارت رسائل تجمع الأبطال وتقربهم جمیعاً مهما بعدت المسافات أو طال الفراق، وهکذا صارت  مثلاً وقدوة وحصوناً تجمع کل المناضلین وتعطیهم الأمان وتحلّق في الآفاق العالیة وتبلغ بهم الآمال والغایات البعیدة مهما بعدت عنهم أو عجزوا عنها وفي الأخیر هي صوت عذب ولحن یناد بالتضحیة ویناد بصوت الحق وصوت یخیف العدوان في أی مکان وفي أي زمان.
الرمز التاریخي

امرؤالقیس
و من أبرز الشخصیات  الّتي استدعاها الشاعر عزالدین المناصرة في شعره، شاعر الجاهلیة، امرؤالقیس وقد وظّف شخصیته توظیفاً جیداً لتشابه تجربة عزالدین المناصرة الحیاتیة مع تجربة امرؤالقیس، فهو(امرؤالقیس)یبحث عن مجد ضائع و نعیم زائل ویستنصر الآخرین حتّی یستعید مجده وعزّته وکرامته وبالنسبة إلی تجربة عزالدین المناصرة فالمشبه واضح؛ فقد أخذ الاحتلال، المجد والکرامة واستدعی المناصرة هذه الشخصیة بکامل أبعادها لتدلّ علی الشخصیة المتشردة الضائعة الساعیة خلف الثأر، الّتي تطلب حقوقها المغتصبة وأمجادها المنهوبة الّتي ترید إرجاعها بکل الطرق الممکنة، حیث یقول في قصیدته:
ضاع ملکي/ في ذرُی رأس المجیمِر/ضاع ملکي و أنا في بلادِ الرومِ،/أهذي، ثُمّ  أمشي،  أتدعَثر/مَن تری مِنکُم یغیثُ الملکَ الضلّیلَ/یا صخر یَغوث/أرسل الجَمرَ لوخندماء /ضیَّعوني…و مضوا في دربِهم/یشربون الخمرَ في هذا المساء/قربَ غنجاتِ الإماءِ (المناصرة،2006،مج1/13).
یناد الشاعر في هذه الأبیات مستنجداً، مستغیثاً وهو حزین علی وطنه الذي ضاع حقه واغتصبت أرضه مثل المنزل الّذي ضاع من صاحبه  أوراق إثبات ملکیته، فشبه نفسه بالملک الضلیل غیر المهتم وبالضائع التائه کأنه في عالم آخر فهو یشعر بأنّه الضائع المشرد الذي اغتصبت أرضه وسلب، فیصوّر الشاعر نفسه بالشرید البعید عن وطنه المستوحش في غربته وبصاحب الثأر الّذي لایشف غلیله ولایهدأ باله.
یقسّم(علی عشري زاید) وجوه تجربة امرؤالقیس في شعره إلی خمسة وهي اللاهي اللامبالي، والضائع الشرید، و الباکي النادب، والساعي وراء الثأر، والبائس المهزوم قائلاً: المناصرة نفسه هو الفتی اللاهي، و هو ضائع مشرد الّذي اغتصبت أرضه وسلب مجده، وهو یحمل مأساته وثأره، یرثی وطنه أحرّ الرثاء بینما خاب أمله للأمة، فانکفأ علی أحزانه وقد تشابهت في عینه الطرق والمسالک، فلیس عجیب أن یعکف عزالدین علی موروث الملک الضلیل و یجد في شخصیة و وقائع حیاة(امرؤلقیس)، تجربته الحیاتیة والوجدانیة لهذا قام باستحضارها في شعره(راجع،رستم بور،2011/199).
ویقول الشاعر  في قصیدته:
عرجتُ صوبَ مدائنِ النومِ الکسیحةِ أستغیثُ/الکل أقسم أن ینام قدمٌ علی قدمٍ و مثلک لاینام/حجرٌ هو المنفی و صوّانٌ و شوکٌ من رخامِ/قمرٌ و تفاحٌ و برقوقُ الشامِ/بیني وبینک بعضُ ما هتفَ الحمامِ/یا هذه المدن السفیهة إنّني الولد السفیه/لو کنت أعرف أنّ نارک دون زیت/لو کنت أعرف أنّ مَجدَکَ من زجاجٍ(المناصرة،مج1،السابق/174و175).
فیعبّر الشاعر أنّ حاجته إلی الناس والمدن، فما کانت نتیجة استنصاره بقومه إلّا أنهم خذلوه، فصار کمن ینادي مستیقظاً وحده فأبی الناس دعوته یتقاعسون عن نصرته فصار وحیداً في منفاه الملئ بالآلام والأسی والأشواک بعیداً عمّا یتمناه، لایجد إلّا الحسرة والذکریات المؤلمة مسترجعاً ذکریات الماضي وأمجاده وهو یتألّم بحاضره و ذکریاته، نادماً علی محاولته بعد ما لایجد من یشارکه حتّی في أحزانه ولا من یواسی فیها متحسراً علی ضیاع مجد وطنه وعزته وهوان کرامته .
هنا یلمح الشاعر بمدائن النوم إلی العرب، الذین سکتوا أمام الأعداء 1948، مشیراً إلی الإقامة في المخیم والمنفی بألفاظ الحجر الصوان وشوک وبهذا یتبیّن کیفیة توظیف شخصیّة القناع مع ما یتناسق مع تجربته فالمدائن في تجربته نائمة کما ناموا القبائل العربیة في قصة امرؤالقیس ولم یستجیبوا نداء الشاعر وهو نفسه ینهض بالثأر وینتقد من هذه المدن  هذه هي غایة الیأس والانهزام، الّذي یبین التخاذل والهوان الّذي شهده الشعب الفلسطیني المظلوم في قضیته، فقد خابت کل المواعید، وانکشفت حقیقة المدائن الدول الّتي وعدت، ولم تفعل شیئاً لهم؛ فقد إختفی المناصرة وراء قناعه لیفضح کل الأمور، وینقذ الأنظم العربیة تجاه قضیة فلسطین نقداً لاذعاً(راجع،رستم بور،السابق/205).
وفي قصیدته (قفا نبک) یتضمن قول امرؤالقیس حیث یقول:
یا ساکناً سقط اللّوی/قد ضاعَ رسمُ المنزلِ/بین الدّخول فَحوملِ/مقیمٌ هنا أشربُ الخمر في حانة/قرب رأس (المجیمر) کل مساء/هنا ینعب البوم في سقفها/تستریح ثعالبها من ثمول الرخاء(المناصرة،2006،مج 1/7).
فهو یشیر إلی قول امرؤالقیس :
قفا نَبکِ من ذکری حبییبٍ ومنزلٍ                بسقطِ اللِوی بین الدّخولِ و حومل(امرؤالقیس،1990/8).
یستلهم الشاعر من شعر امرؤالقیس لیرسم وجه الّذي یبحث عنه ویری أن ملامح تجربته تبدو واضحة في تجربة امرؤالقیس فقد ضاع ملک کلاهما والشاعر بقی باکیاً مفجوعاً مهزوماً یائساً، فیصف نفسه کامرؤالقیس بوصفه قناعاً معبراً وبلیغاً، وبوصف شعره ملهماً وبانیاً بالدلالة والإحالة لوجوده من مسار الشاعر المناصرة، ومسار الشعب الفلسطیني فامرؤالقیس ینشر ظلاله علی المتن الشعري، عبر تغلغله إلی النص الشعري، فقد ظهرت أبعاد حیاة امرؤالقیس وشخصیته في شعر المناصرة ویمزج بین تجربته وتجارب شعبه بصورة واضحة(راجع:رستم بور،2011/199).
«إنّ المقطع المناصري یوحي بفضاء دلالي، یتسع لیشمل الطرد والتشرید …دلالات تتناسل من واقع المهیض، وترسم معالم فلسطیني، ضاع منه منزله أو معالم شعب ضاع منه وطنه، فالقضیة أکبر وأعمق من بکاء رسم منزل، لأنه أصبح بکاء علی الهویة، الانتساب بکاء علی ضیاع الأنا واستلابها وإذا کان الشاعر الجاهلي في المقطع السابق لایزال یتواصل مع المکان بالذکری والطلل الذي یلوح کالوشم في الید، أي إنه لایزال هناک شعور بالانتماء إلیه (للمکان)، ورغبته امتلاکه وبعثه من جدید عند استعادته في شکل ذکری ، فإن المقطع الشعري المناصري ، یفجعنا بضیاع کل الشي، و بفدان هذا الانتماء و الهویة، فینغمس في العدم، إن العودة للوقوف علی الرسم الضائع، إنما عودة للعدمیة»(وعدالله،2005/180).
فامرؤالقیس یمثّل جزءاً من شخصیة عزّالدین فهما قد تماهیا تماهیاً شبه تام و قد شعر الشاعر بهذا التزاوج عبر ما أصابه من کوارث و ما عاناه في الحیاة فلذلک رسم الشاعر نفسه في صورة هذه الشخصیة الأدبیة.
فکلاهما ذاقا مرارة القتل وضیاع الأرض والملک، وبذلک وجد المناصرة(معادلاً موضوعیاً) من تراث یلتقي مع المأساة العربیة الفلسطینیة في تاریخها المعاصر ویعّبر عن قضیته مؤلمة في تاریخ شاعرین، تمثلفي التشرد و الضیاع والمنفی، فتحولت حیاتهما من الأمن إلی الکفاح والنضال وراء ثأر المفقود من العدو الغاصب، فالمناصرة قد وظّف تراث امرؤالقیس في شعره لیعبّر به عن تجربته ذاتیة ومعاناة الّتي جرّبها فقد ظهرت ملامح حیاة امرؤالقیس في شعره وهي تناسب أجواء عصره لأنّه یشکو من الغصب والتشرد، فیتماهی مع شخصیة امرؤالقیس وهو یمزج البعد الزمني الحاضر بالبعد التاریخي لیعبر عن آلامه  والحوادث المرة الّتي مرّت به، وبذلک جسد القصیدة ینفتح الوعي الشعري علی مشهد درامي للحکایة، الّتي اتخذت لنفسها مساراً، توزعت صورها في جسد القصیدة(راجع:رستم بور، السابق/198).
فأصبح امرؤالقیس جزء من شعره حیث أصبح متلاحماً بالنص الجدید ولایستطیع القارئ أن یفصلهما، ونتيجة لذلك فإن امرؤ القيس  أصبح شخصية رمزية رئيسة في شعر عز الدين المناصرة فهو تعرض  لنفس الواقع وذاق نفس الألم، إنّه امرؤ القيس الشاعر المعبّر عن ألمه كذلك هو عز الدين المعبر عن آلام شعبه إنّه امرؤ القيس المشرّد كما حال المناصرة وأهل فلسطين.
العرجي
کذلک الشاعر قام باستدعاء شخصیة العرجي الّذي رأی فیها التشابه مع تجربته حیث یشترکان في المعاناة والآلام وقیود السجن والمنفی والطرد إلی خارج وطنه مقهوراً منهزماً، لایمکنه التحرر من قیوده ولایجد الإنصاف الّذي یستحق لکن رغم الصعاب تحلّی بالصبر والارادة وقوّة العزیمة فکتب له النصر و تحققت له الأمجاد(راجع:أبولبن،2006/167) فأراد الشاعر أن یکون بنفس الشخص الّذي مهما قیدته المحن یکون صابراً معانداً حتّی تتاح له الفرصة ویحین وقت تحقیق الآمال الّتي طالما ظلّت مستحیلة وهو یستدعی شخصیة العرجي حین یقول:
مَضَت  سنتان…قالت جدّتي وبکت/وأعماعي/یهزون المنابر، آه ما ارتجّوا/ولاارتاعوا /مضت سنتان/قال الشاعرُ اللمنفيُّ حین بکی/أضاعوني/وأيِّ فتیً أضاعوا(المناصرة،2السابق،مج1/173).
والشاعر یستدعی إلی الذاکرة بیت الشاعر الأموي العرجي الذي عاش محنة قاسیة فهو یتناص مع قول العرجي:
أضاعوني وأي فتیً أضاعوا                              لیوم کریهة وسداد ثغر
وخلوني لمعترک المنایا                                    وقد شرعت أسنتها لنحري
کأني لم أکن فیهم وسیطاً                              ولا لي نسبة في آل عمرو
أجرر في الجوامع کل یومٍ                              ألا لله مظلمتي وصبري (العرجي،1998/246)
فالشاعر یضمن قول العرجي ویسعی لیکون مثله في الإصرار والعزیمة في سبیل الوصول إلی غاياته المنشودة«فصوته یندمج بصوت العرجي، فیتناغمان ویندمجان تمام الاندماج، ویتحدان في التجربة الشعریة فکل منهما یعبّر عن ألمه وحزنه ومأساته. وقد استوحی المناصرة هذا الموقف النفسي العمیق مع ما یحمله من طابع وجداني ومزجه بتجربته الذاتیة وحمله مشاعره وأحاسیسه»(رستم بور 2011/27).
أبو الطيب المتنبي
ومن الشخصيات التاریخیة  الّتي اختارها عز الدين المناصرة لتكون رمزاً في شعره  هو شاعر العرب أبو الطيب المتنبي  إذ یقول في شعره:
في باب الشام/ قابلتُ المتنبي وأباتمامَ/وذهبنا للحانةِ في الشطِ الغربي المخمورِ /صاحبُها ثرثارُ/ثمّ سکرنا حتّی جرت الخمرةُ في جذعِ الأسرارِ/حدّثنا عن عقدةِ کافور(المناصرة،مج1،السابق/214).
إنّ تشابه حال قصة حياة المتنبي مع  واقع حال عز الدين المناصرة أمر متّضح، فشعور المتنبي بالوحدة والانهيار والضياع يسيطر عليه فلا يجد له أمل إلّا في أن يرجع إلي ذاته ليستكشفها وخصوصاً في علاقته بالآخرين فهو مفجوع ليس في نفسه الفردية ولكن في ذاته الجماعية وهنا تأتي الفاجعة الكبرى كما هو الحال لعز الدين المناصرة  المفجوع والمصدوم في واقع حال أهله وناسه وأهل بلاده فلسطين كيف انتهي بهم الحال من العزة إلى الذل، من المجد إلي الضياع، والمتنبي يحمل نبرة الأمل والخلاص والرجاء للأمة في تخطي محنتها باللجوء إلي مصر معقد الآمال ومحط الأنظار كما هو الحال لأهل فلسطين وشعب عز الدين المناصرة .
وعز الدين المناصرة يستدعى شخصية المتنبي لا ليجلو معالمها وإنما يسعی إلی خلقها  من جديد بحيث لا تعاکس حقائق تاريخه الراهن فهو يرى ما تعرض له المتنبي من سطوة الحكم المستبد والحاكم الظالم الطاغي علي الحق وأهله فتشابه لحالته تحت ظلم الحتلال وبطش الظلم ومن هنا يأتي وجه استحضار مثال الماضي ليعبّر عن واقع حال الحاضر للشاعر عز الدين المناصرة.
الرمز الأسطوري
زرقاء الیمامة
من الرموز الأسطورية العربية الّتي استخدمها عز الدين المناصرة في شعره هي أسطورة زرقاء اليمامة وفي تلك الأسطورة كانت السيدة زرقاء العين، هي من تسكشف الخطر من بعيد قبل أن يصل إلی قومها وهنا تمثل زرقاء اليمامة لما لها  القدرة الخارقة علي التنبؤ بالخطر قبل وقوعه وتحذير قومها من الوقوع في الشر  إنها رمز للحيرة واستشراف المستقبل.
«الزرقاء هي الّتي رأت السواد القاتم…والأصفر الرملي الزاحف والعائم علی تاریخ العربي نام واستنام إلی أرائک الدمقس والدیباج، ولیالي العطور والبخور؛ حذّرت قومها فما التفتوا إلیها فأخذتهم الصاعقة فإذا هم حصید، هذه المرأة الأسطوریة العظیمة الرائیة المحذرة متنبئة بما سیکون…مستشرقة الآتي والأغبر، ومطلقة صفیرا کصفیر بومة هیجل الغسقیة، متنزلة في رؤیة الشاعر ورؤیاه الاستباقیة والمنذرة، لها شبیه في التاریخ الأسطوري والدیني ولها نقیض»(بودویک،2006/356).
المناصرة هو  أول من استخدم هذا الرمز الأسطوري في شعر الحدیث ثمّ تلاه شعراء الآخرون؛ تتمتع زرقاء الیمامة بقدرة خارقة علی الرؤیة من المسافات بعیدة؛ وهي ذات عیون زرقاء، من قبیلة جدیس،کانت تعیش في حاضرة (الیمامة) والدلالة أساسیة الّتي حملتها زرقاء الیمامة في شعر عزالدین المناصرة هي قدرة علی التنبؤ، واکتشاف الخطر قبل وقوعه والتنبیه إلیه، وتحمّلَ نتیجة إهمال الآخرین وعدم إصغائهم إلی التحذیر تتحلّی الأسطورة من العنوان، لتشع علی جسد الشعري، وتوجّه القراءة نحو القراءات الأسطوریة، ویوحّد الشاعر بین الرمز الأسطوري(زرقاء الیمامة) وجفرا الکنعانیة، وتصبح هنا رمزاً للأرض وللمرأة وللذاکرة (راجع:بوعدیلة،2008/155و154).حیث یقول في قصیدته زرقاء الیمامة:
تتدلَّ أشجار التین علی الحیطان الشرقیة/نتلقی الدرسَ الثاني/تحتَ الشمسِ الصاحیةِ النیسانیَّةِ/نکبرُ، نهجرُ ساحة ظلّ الحانوت/نحلمُ بالشرنقةِ المنسوجةِ من أوراق التوتِ/لکن یا جفرا الکنعانیة/قلتِ لنا إنّ الأشجار تسیُر علی الطرقاتِ/کَجیشٍ مُحتشدٍ تحتَ الأمطارِ/أقرأ أَشجاري، سطراً سطراً، رغمَ التمویه/لکن یا زرقاءَ العینین ویا نجمة عتمتنا الحمراء/کنا نلهثُ في صحراءِ التیه/کیتامی منکسرین علی مائدةِ الأعمام/ولهذا ما صدّقکِ سواي(المناصرة،السابق،مج1/21).
إن جفرا الكنعانية تتجلی هاهنا کالمصباح في ظلام الضلال، تتوحّد في هذا الوجه بوضوح مع زرقاء اليمامة وتندمج معها اندماجاً تاماً حيث كلاهما يرون ما لا يری الآخرون ويحذرون من خطر داهم وهلاك قريب واستشراف المستقبل فتحذّر قومها ولكن المأساة أن لا أحد يصدقها غير الشاعر فيحذر الشاعر قومه من  الهلاك كما حدث لأهل اليمامة.
«هذه الخطة للایقاع بزرقاء وقومها، یمکن قراءتها في السیاق النص الشعري المتفاعل مع قضیته( فلسطین)، ودعوة للقارئ للوعي بسیاسة التمویه والخطط الّتي ینسجها العدة ینسجها العدة في الخفاء، وعبر سنوات تاریخیة  في خطاباته، لیتسنّی له الوصول إلی مقاصده ومثلما اتهم قوم زرقاء الیمامة عینیها بالبلوار، کذلک رفض قوم جفرا الکنعانیة تصدیق رؤیتها، فجاء الاعتراف بالخطیئة الجماعیة، تمثله نحن الملتحمة بالاسم والفعل هذا الضمیر الّذي یصبح هویة الشاعر…ویصبح سکنه شخصیته وبیئته، إنه یکتسب امتداداً بشریاً وإنسانیاً»(وعدالله،2005/227).
فالجفرا هاهنا في وجهة نظر الشاعر«تتماهی مع زرقاء في أقوالها وأفعالها وکل ملابساتها، ولکنها تستقل عنها بهویتها الکنعانیة الأصیلة، جفرا الکنعانیة/زرقاء الیمامة، أنثی واحدة تنبئ قومها عن رؤیتها للخطر القادم ، فلم یصدقوها، فوظیفة زرقاء الیمامة أو الفعل الّذي  یرتبط هذه الشخصیة في مسار النص الأسطوري، متمثل في فعل الرؤیة بشقیها (البصري وغیر بصري)، وفي هذه الوظیفة تتعلق في کلّ من النصین الشعري والأسطوري»(وعدالله،2005/225).
إنّ المناصرة یقول کل قیمه ومشاعره عن طریق فاعلیة المزج بین الرمز الأسطوري والراهن، أي بین زرقاء الیمامة وجفرا، فیختفي خلف دلائلیة هذه العلاقة، کما یفعل الشعراء المعاصرون، لأنّ الشاعر عندما یخلق شخصیة أو یستدعیها تصبح تلک الشخصیة مستقر جمیع الحرکات والأفعال، إنّه یختبئ وراءها فتصبح بمثابة نافذة یطل من خلالها علی العالم وبذلک یکون قد حقق الابتعاد التخیلي الکافي الّذي یمکنه من کسر مباشریة الحوار وقد أطل المناصرة من نافذة عیون زرقاء الیمامة علی مستقبل فلسطین واستفاد من الرؤیا؛ لأنه وجد جیش العدو یترقب إنطلاق المقاومة لیقمعها، وکان الشاعر المصدق الوحید (راجع:بوعدیلة،2008/155). ونتيجة لذلك فقد استفاد عز الدين المناصرة من الرمز السابق حتي يربط الواقع بالحال ويحذر الناس من غدر العدو وكيده ويعتبر استخدام هذه الرمزية الشعرية هي أحسن الطرق لتوعية قومه والوصول إلي هدفه في إیقاظ الشعب.
الصور الرمزية المناصرية المستحدثة
الرمز المکثف و له أنواع منها؛التکثيف الرمزي المذيل ، التکثيف الرمزي المقنع، التکثيف الرمزي المفصل.
التکثيف الرمزي المذيل
هذا النمط من الإبداع الرمزي يتمّ عبر الاستقصاء في المعنی الرمزي الواقع في دفتي الشرائح الدلالية حيث يُذکر رمزاً وتليه رموزاً أخری تساعد علی فک العقد الدلالية التي يستعصي علی المتلقي فهمها فيمکن القول أنّ التکثيف الرمزي المذيل يتحقق « … عندما يشرح شعراً في الحاشية برمز آخر … »(  ستيتية،2003م/ 49  ). و قد أجاد المناصرة في توظيف هذا الرمز المستحدث وتوجيهه نحو التأطير اللائق إذ جعل من التکرار البدائي أسلوباً للتعريف بهذه الرموزية ومن نماذج الرمز المذيل في شعر المناصرة قصيدة «محاورات الباب العالي»: « … أُحبُّ غناءَ العُذاری علَی نبعِ ماءٍ / وأهوی شَفيفَ ثيابِ النبات/ وَ صوتَ البراکينَ، إن کانَ يا سيدي عربيَ السماتِ/ أحبُّ رفيفَ السنابلِ فِي المنحدرِ/ أحبُّ جدائلَ مريامَ، أسوارَها العالية/ أحبُّ الشرائطَ فوقَ ضفائرهَا اللولبية في المدرسةِ/…» ( المناصرة، السابق،مج 1/ ص 190).
يبدو  أنّ المناصرة يردد لفظ «أحبّ » بمقصدية هادفة وهو في هذا الصدد يحاول ما استطاع المحاولة أن يوحي بالحب ومعانيه عنده فـ « أحبّ» شريحة دلالية غامضة لن تجد طريقها إلی الانفتاح  والإشراق المعنوي إلا عبر الوحدات الدلالية المتجاورة؛ فکيف يکون الحب عند المناصرة وکيف عسی أن يکون؟ أ هو مجرد حب عذري عفيف أ هو حب خالص للوطن ؟ أو حب للدين وما يليه من فروع؟ بل جميع ما يتبادر إلی الذهن من هذا وذاک. الحب هو البؤرة الرئيسة التي يتمحور الکلام حوله في هذا المقطع وتنزاح عنه معاني عدّة، يحبّ المناصرة « غناء  العذاری» الذي يرمز إلی الجمال والخلوص والسکينة ولم يکن هذا فحسب بل التوظيف المکاني يغور بالمعنی: « علی نبع ماء» فجمال العزف وجمال الموسيقی وخلوص الماء وخلوص الغناء يأتلفان ائتلافاً تاماً فکأن غناء العذاری هو نبع ماء فياض ثم أن الإيحاء التجاوري الحاصل من « نبع ماء» يحول دون افتراض العبثية لهذا الغناء فهذا الغناء نقطة انطلاق للثورة وانبعاث الحياة والحيوية والتوحيد بين مصدري الخلوص أي قلب العذاری  الذي يثور ليحيي الأرواح وقلب النبع الذي يجيش کي يحيي الوادي ويخصبه فالأمر لا يقف عند وصف بدوي بحت بل الشاعر يحب حيوية الشعب وإيقاظه وهو لايريد إيقاظاً ضيق النطاق حيث يبتعد کل الابتعاد عن الثورة المستمرة  والانتباه الدائم بل يريد شعباً يقظاً يفيض وينضح بثورته الخالصة.
المناصرة ابتدأ حلّ غشاوة الحب بالعنصر الأنثی « العذاری» وذلک لأسباب شتی منها: الأنثی مصدر الحب والإصلاح واليقظة، ومنجم الإيحاء وبث روح المقاومة في الشعب ثمّ إنّها رمز  للديانة في هذا المقطع حيث العذاری تتحول مرياماً في الشطر الخامس : « أحب جدائل مريام أسوارها العالية» فکأنّ العذاری هن الراهبات ومريام هي الذروة وهاهنا يتجلی وجه رمزي آخر تتضخم إثره واجهة الدين والديانة فنبع ماء رمز لمريام التي مصدر للهداية وتوجيه الشعب نحو الحق والصواب والغناء ترتيل الکتاب المقدس، الذي يفوح من نبع لاينضب فإزدواجية الأنوثة والثورة تلطّف الأجواء النصية إلی حد کبير إذ هو اشتباک مدهش بين « غناء العذاری» الذي يرمز إلی اليقظة بحنان الأنوثة و«صوت البراکين» الذي يرمز إلی نهضة نارية بعيدة کل البعد عن التحنان والعطف .
أما الشطر الأخير فيرمز إلی دعوة الشاعر للإلتزام بالوطنية التي هي عنده فرع من فروع الديانة « أحب الشرائط فوق ضفائرها اللولبية» فالشرائط المشدودة علی ضفائر مريام رمز للعلم والعلم رمز للوطنية وحب الوطن لايتجزأ عن الديانة الخالصة في هذا التعبير لأن الشرائط أي الأعلام التي ترمز إلی الوطنية متصلة بمريام التي لاتکون إلا رمزاً للديانة والتقديس. فيعمل التکثيف الرمزي المذيل في هذا المقطع علی تداخل  المعاني ونضوجها بصورة فاعلة ومن ثمّ هذا التذييل الرمزي يؤدي إلی معانقة الدلالات بالأدب المقاوم المتأصل لدی المؤلف الحقيقي والتلويحي وذلک باستعانة توظيف الرموز بصورة متضافرة ليخلق أسلوباً تعبيرياً فريداً.
إضافة إلی التکرار الذي وظّفه الشاعر لتدبيج الرمز المذيل هناک أسلوب العکس والتضاد أورده الشاعر لرصف الرمز المذیل وتطويره في الشعر تطويراً جديراً غير ممل فمن نماذجه قصيدة « قبر في لندن» إذ يرسم المناصرة ثورته الخاصة ودعوته للنهوض ودوس جنازير الظلم والإرهاب هکذا:« … رجلٌ يحمل ُلغةَ النارِ،/ ونارُ اللغةِ شهابُ التشکيلِ /لايعرفُ لغةَ الثلجِ، وَلاطرقَ التدويرِ،…»(المناصرة، السابق،مج 2/ص 389).
ذروة الرموزية في هذا المقطع تتجلی في العکسية المتواجدة في «لغة النار» و«نار اللغة» ويبدو أنّ سوبرمان المناصري الذي تماثلت عظمته في تنکير « رجل» في مطلع المقطع إمام للثورة التي يرنو عزالدين المناصرة إلی إشادتها وبناء ها بناءاً لغوياً نارياً صارماً. ترمز « لغة النار» إلی لغة ثورية جامحة تصدّ الجمودية والجفاف ليست اللغة ناراً فحسب بل النار حسبها لغة شهابية؛ فجميع المفردات التي تقطر من حبر الکاتب علی بياض الأوراق تعرب وتشکّل تعريباً شهابياً وهي ترمز إلی الهتاف والنهوض  وتشکيل اللغة الشهابي الذي ينادي إليه المناصرة وفي مستويات دلالية عليا يتطلّبها  السوبرمان المناصري، يضع الهتافات الشعبية في أطر محددة من دون عشوائية فإلی هنا هذه الرمزية المعاکسة « لغة النار و نار اللغة» أفصحت ميادين جديدة فلغة النار هي لغة محرقة، متصاعدة، حراکية فاعلة، مفعمة بالضياء والحرارة والنار تنتهي إلی الاحمرار البحت أي إلی الشهادة  والموت الأحمر في سبيل الحرية واليقظة وتحطم أبنية الشرک والنفاق والعدوان.
اللغة التي ينصب عزالدين المناصر قوائمها لغة ناتجة غير عقيمة لأنها أولاً متشکلة تشکيلاً تاماً بالحرکات الشهابية الرامزة إلی رمي الأعداء والشياطين من ذرية ابن آدم وثانياً أنّ هذه اللغة الثائرة تنکر لغة الثلج فعليه أنّ البنية المضادة «لغة النار» «لغة الثلج» ألبست هذه الرمزية إيحاءات أخری. وهي حرب علی من يقول أنّ الکتابة حسبها أن تکون ضمن الحرب الباردة التي لاتسمن ولاتغني من جوع؛ بل اللغة المناصرية لها من التأثير ما يفوق المفجرات والقنابل. أما لغة الثلج فهي ترمز إلی الجمود والتقوقع اللذان يعاضدان البرودة ويتبعانها فهي تعني الانصياع تحت لواء الذل والموت علی الفراش بأکفان بيضاء مجمدة دون أي حصاد معرفي جدير.
وإذا مُرّ بالنص تولدت شرائح دلالية أخری لللغة الثلجية المقصودة « و لاطرق التدوير» فالتدوير وعدم الصراحة والإسفارتعني  لغة الجبن والترجل فهي تبتعد مسافات شاسعة عن اللغة النارية التي اصطفاها المناصرة. فالتکثيف الرمزي المذيل في هذا المقطع القصير شکّل نفقات دلالية متشابکة وذلک باندماج الرمزية في أسلوبي العکس والتضاد.
التکثيف الرمزي المقنّع

الرمز المقنّع  هو أن يتلبس الرمز بأقنعة منوّعة، الأقنعة التي تؤدّي نهائياً إلی نضوج المعنی و تضعيف دوائر الدلالية فـ« … المقصود بهذا النوع من التکثيف أن يکون الرمز، مقنعاً بحقائق علمية أو تاريخية أو آراء سائدة …» ( ستيتيّة، 2003/ص 51). ديوان عزالدين المناصرة يضج بهذا النوع من التکثيف الرمزي ومن نماذجه ما ورد في قصيدة« الجاشنکير» حيث يشير إلی ظاهرة التغريب لدی العرب ونبذ العروبة بوصف التغيّرات التي طرأت علی الأزياء: « … جاءت الياقاتُ المنشآتُ،/ ربطاتُ العنقِ،رحلتِ الطرابيشُ/ جاء الزرقُ الشقرُ المتوحشون/ ذهبت الرعاةُ، کثُرَ القوّادون/ يأتونَ، يرحلونَ يأتونَ، يرحلون/ إلهي … متی أتوقفُ عن تمزيقِ الأوراقِ/ أوراقُ وردةِ الأقحوانِ/ متی أکتبُ تاريخيَ الحقيقي»( المناصرة، السابق/154).
فياقات المنشآت وربطات العنق الرامزة إلی التغريب تحلّ محل الطرابيش التي ترمز إلی الأصالة العربية بشتی مظاهرها التي أخذت تغرب  بعد أن طلعت شمس التغريب فالحيرة تحيط بالشاعر إثر هذه الهجمة الثقافية التي أصابت أبناء وطنه العربي حيث لم يتمکن من رؤية تاريخ العرب في زحمة التغريب. فالمقاومة لاتقتصر علی ميادين الحروب وساحات القتال وشن الحرب في وجه الأعداء بل هي أکثر شمولية إذ تستوعب جميع شؤون الحياة الثقافية والاقتصادية وعلی المجتمعات الإسلامية مکافحة ظاهرة التغريب ونجدة حقيقة التاريخ العربي. فمجئ الزرق الشقر المتوحشون رمز للاحتلال الأجنبي احتلالاً شاملاً واضمحلال سجايا العرب العريقة وقد تشوّهت ملامح الإنسان العربي المتجذر في عروبته بجميع ما يتحلی به من مکارم الأخلاق.
الشاعر سئم من تمزيق الأوراق. فما هي هذه الأوراق أ هي أوراق الدفاتر المسودة ؟ أم هي أوراق الزيتون المصفرة؟ فتنفک هذه الشفرة الدلالية وتنزاح الأقنعة عن کثب: بلی هذه الأوراق أوراق وردة الأقحوان  التي ترمز إلی أبناء الوطن  وشبابه اليافع الذي  لم يکد يستوي علی سوقه حتی يذوق شهد الشهادة أو ينسکب دمه ظلماً وافتراءاً فحکاية التاريخ الجريح تتکرر وتتکرر وتتکرر  حتی يتضايق منها الشاعر ويتلهّف شوقاً لرسم لوحة صادقة من التاريخ بمنعزل عن الاضطهاد  والاحتلال ولکن أنّی له ذلک؟ وقد استمرت هذه الحروب وتمزّقت أوراق الأقحوان وأريقت الدماء البريئة علی الأرض.
فالرمز المقنع ساعد علی تضخيم الدلالات وتجسيد المعاني في هذا المقطع وأعان الشاعر علی توجيه الشرائح الدلالية توجيهاً صائباً نحو معاني المقاومة الخفية أمثال مکافحة التغريب وإحياء تاريخ العرب الأصيل.
التکثيف الرمزي المفصل

يستوفي هذا النوع من التکثيف الرمزي دوره بعد استحضار أمرين هما: التکثيف الدلالي أولاً والتفصيل المعنوي ثانياً فيقصد« … بهذا النوع من الرمز ما کان منه مکثفاً  ومفصلاً في آن واحد …» ( الستينية، 2003/ص52). وقد تکاثفت الوحدات الرمزية المکثفة المفصلة في ديوان عزالدين المناصرة وساعدت علی خلق معان متعمقة متزاوجة وإبداع مفاهيم التي تنهض بالشعب وتنسج أحاسيس متمسکة بعضها ببعض ومن نماذجه قصيدة « مطر حامض» حيث يقول: « … قال أجدادنا الأولون:/ يا مروجَ الأقاحِي/ وَ يَا شجرَ العنفوانِ اللذيذِ/ زرعنَا، زرعنَا، زرعنَا/ وَ هُم دائماً دائماً يقطفون النبيذ/ في جرارِ النویَ وَ التعب: / مطرٌ حامضٌ سوفَ يغسلناباللهبِ/ مطرٌ حامضٌ في السهوبِ/ مطرٌ حامضٌ في القلوبِ / مطرٌ حامضٌ سوفَ تشربُ منهُ الوعولُ/ مطرٌ حامضٌ في السيولِ/ مطرٌ حامضٌ في صهيلِ الخيولِ/ مطرٌ حامضٌ في الدموعِ/ مطرٌ حامضٌ في العيونِ / مطرٌ حامضٌ في نواةِ الحجرِ/ مطرٌ حامضٌ في المطرِ/ بعد ذلکَ تأتي الأناشيدُ وَالتربةُ الصالحةُ/ …» ( المناصرة، السابق،مج 1/ ص 188و189).
في هذا المقطع تتکاثف الدلالات الرمزية في المفردات جميعها ولاسيما في مصطلح« مطر حامض» ويأتي المناصرة بشرحه وتفصيله عشر مرات وفي کل تفصيل يمنحه دلالة طرية دون الأخری وهکذا تتکاثف الرموز  وتتمفصل فصفة الحموضة التي ازدوجت بالمطر أزاحت عنه الإيحاءات المعهودة فهو ليس بعد مسبباً للحياة والنمو ولايکون مصدراً للخلوص والصفاء  ولم يکن دالاً علی الرحمة بل هو مطر حامض مدمر  وکل ما يکون أنه يتّحد بالنيران ويحرق الشعب  ويغرق الأراضي المستوية البعيدة والسهوب ناراً. المطر الحامض الذي يعشّش في مکامن القلوب يرمز إلی الأحقاد والظغائن المتوارية التي تطل رؤؤسها يوماً ما لتهدم معول الإرهاب. هذا المطر الفاسد لم تسلم منه عناصر الطبيعة والوحوش في البراري إذ الوعول تضطر علی ارتشاف هذا المطر الحامض وهذا يعني انجماد الحياة واضمحلالها إثر تحکم الأيادي الفاسدة ورشّ القنابل والصواريخ  من دون الانتباه إلی الکوارث الإنسانية والبيئية التي تتبع هذه الأعمال اللإنسانية. أما المطر الحامض الذي في السيول فيرمز إلی الدماء التي جرت علی الأرض سيولاً وأشعلت القلوب نيراناً وأنتجت الثورات وتجسّدت هذه الثورات في التعبير المناصري « مطر حامض في صهيل الخيول» فالثورة التي يرسمها عزالدين ثورة دامية حراکية، دامية لأجل توتر المطر وحموضته التي نجمت عنه هذه الثورة وهي حراکية لتماهيها بالخيل الذي هو أسطورة رمزية للحراکية والنشاط. العيون والدموع کلّها تسقی وتستسقي بالمطر الحامض أي کلّها ثورة واحتراق  إنّ التأوهات الساطعة عن حرقة العيون والدموع  ستقلع يوماً ما أرکان الأعداء ومخافرهم وتحطّم بنيانها تحطيماً لن يخضع للتعديل أبداً.
والمطر الحامض الذي أصبح نواتاً في الأحجار يمثل سلاح الفلسطيني الوحيد أي الحجارة وأخيراً أنّ المطر الخالص في هذه الطقوس المتأزمة لم ينج من التکدير فيتداخله المطر الحامض الذي يرمز هنا إلی النار والدم والقنابل وانزياح مظاهر البيئة عن أصالتها.
فالتکثيف الرمزي المفصل يرسم لوحة فسيفسائية للفظة الواحدة « مطر حامض» ويطرّز لها دلالات متباينة ما يزيد المعنی عمقاً ويحشّيه بألوان عديمة النظير.

الرمز التضميني
يعکس الرمز التضميني الطقوس النصية المعهودة ويلبسها دلالات مغايرة تبهر المخاطب و« … يکون الرمز التضميني، عندما يستخدم الشاعر عبارة مأثورة، أو نصاً من القرآن الکريم، أو الحکم أو العبارات المحفوظة …» ( الستينية، 2003/ص55).فالتناصية هي البؤرة المرکزية التي يتمحور في مدارها الرمز التضميني ومن نماذجه في ديوان عز الدين المناصرة ما ورد في القصيدة «قفا نبکي» « …/ يا ساکناً سِقطَ اللّویَ / قَد ضَاعَ رَسمُ المَنزِلِ / بَينِ الدخولِ فحوملِ/ …»( المناصرة، السابق/ مج:1، ص 7). و« لَو کانَ يَسألُ مَا الدوا/ مِن خَمرَتِي  … دَاوَيتُهُ/ يَا سَاکِنَاً سِقطَ اللِّوَی قُربَ اليَماَمَةِ بَيتُهُ/…» ( السابق، 7و 8).
فعزّ الدين المناصرة يستعير هذا البيت الشهير لامرؤالقيس:« قِفَا نَبکِ مِن ذِکرَی حَبِيبٍ وَمَنزِلِ / بِسقطِ اللّوَی بَينَ الدُّخُولِ فَحَومَلِ»ليستعيد الطقوس الحزينة الجاهلية في فضاء فلسطيني مستحدث. فـ «سقط اللوی» يرمز إلی الوطن الفلسطيني والأراضي التي احتلتها الأيادي الصهاينة الغاصبة حيث ضاع رسم المنزل فيها وتغيّرت تغيّراً شاملاً وکاد لايعرفها قاطنوها. فإذا کان امرؤالقيس قرض هذه الأبيات يوم ظعن حبيبته فالمناصرة استلهم هذا التعبير لرسم داء الفراق الذي طال الأمد فيه، فراق الشعب الفلسطيني عن أرضه الحبيبة. فحبيبة امرؤالقيس تتزاوج بحبيبة المناصرة أو قل بحبيبة الشعب الفلسطيني المضطهد کافة.
أما المقطع الثاني فتتجلی الرمزية فيه بـ « الخمرة» فإذا بامرؤالقيس يشفي غليل صدره بمعاقرة الخمرة فالمناصرة يری الدواء کل الدواء في خمرته فهاهنا تتفجر ينابيع التساؤلات عن ماهية الخمرة المناصرية التي تضمد الجراح وتحسن الداء. يمکن القول أنّ للخمرة المناصرية إيحاءات شتّی تتضافر بعضها ببعض فالخمر وجه آخر للحبر، أي قلم الکاتب ثمّ الخمرة رمز لدماء الشهداء فهنا يعمل المناصرة بشکل فاعل علی الإشادة بالدور الحاسم الذي تلعبه الشهادة؛ فالشهادة شفاء لهذا الفراق الحالک فستطلع شمس النصر عن کثب وسيعود الحبيب إلی أحضان محبوبه.
وفي قصيدة « يا عنب الخليل» : « …/ أبُو الفُقَراءِ وَالأيتامِ مَرَّ يَقُولُ: / هُنَا يَستَيقِظُ الإسفلتُ وَالزَّيتُونُ/ هُنَا يَبکُونَ خَلفَ السِّدرِ وَالزَّقُومُ/ مَتَی تَرجِع !!!/ وَهَل فِي القَبرِ مَن يَسمَع!!!/ صُراخَ فُؤادِکَ المَحمُوم / إذَا الأحيَاءُ مَاتُوا فِي ذُری “أربَع”/…»( المناصرة ، السابق/ص53و52). الرمز التضميني في هذا المقطع يبرز إثر توظيف السدر والزقوم؛ فالسدر تتراوح دلالته بين السلب والإيجاب فتارة هي شجرة في الجنة وتارة تحل محل الثمار عند قوم وذلک عذاب  من الله﴿عِندَ سِدَرةِ المُنتَهَی﴾(نجم/14) ﴿فِي سِدرٍ مَخضُودٍ﴾(واقعة/28) . ﴿فَأَعرَضُوا فَأَرسَنَا عَلَيهِم سَيلَ العَرمِ وَبَدَّلنَاهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَينِ ذَوَاتَي أُکُلٍ خَمطٍ وَأَثلٍ وَشَئٍ مِن سِدرٍ قَلِيلٍ /ذَلِکَ جَزَينَاهُم بِمَا کَفَرُوا وَهَل نُجَازِي إلَّا الکَفُور﴾(سبأ/17و16).
أما الزقوم فله دلالة سلبية بحتة وهو طعام الأثيم؛ ففي الطقوس الشعرية تنزاح الدلالات ولم تعد الإيحاءات الدلالية للسدر والزقّوم نفس الإيحاءات المصحف الشريف بل هنالک يصور المناصرة « الخليل» تصويراً حلواً مراً  فالخليل التي اغتصبت لها السدر الذي يرمز إلی السلم والخصب والإخضرار والنعيم ولها الزقوم الذي يرمز به إلی القحط والجدب والکوارث التي شاعت في الأراضي المحتلة إثر تصرفات الأعداء الشنيعة التي جعلت من عذب ماء الخليل زقوماً للشاربين ولم يتوقف استخدام الرمز التضميني في هذا المقطع بل المقطع الأخير« وهل في القبر من يسمع» تضمين للآية﴿ وَمَا يَستَوِي الأحيَاءُ وَلَا الأموَاتُ إنّ اللهَ يُسمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسمِعٍ مَن فِي القُبُور ﴾(فاطر، 22) وکأنّ الشاعر ييئس من فاعلية ندائه وشکواه فيشبّه ندائه بنداء من يخاطب أصحاب القبور! فلا تأثير ولانهوض.
وفي قصيدة «مکتب»:«فَقُلتُ: غَدَاً تَظَاهُرةً/ مِن الأشجَارِ والأَحجَارِ وَالطِّينِ/ فَقَالَ إِذَن فَلَسطِينِي/ فَقُلتُ: نَعَم فَلَسطِينِي/ – خِيَارَ النَّاسِ،/ شَعبَ السِّندِيَانِ الصَّلبِ/ وَالزَّيتُون وَالتِّينِ/ وَلَکِن/ لَيسَ يَعنِينِي» ( المناصرة، السابق، مج:/2ص 270).الرمز التضميني يتضخم في العکسية المتواجدة في توظيف الآية القرآنية ﴿وَ التِّينِ وَالزَّيتُونِ﴾( التين/1) فالمناصرة يعکس الأسلوب والمفردات حيث يجعل واو القسم، عطفاً ويستأنف المقطع بالزيتون ثم التين خلافاً للآية المذکورة ففي هذه العکسية بلاغة ملحوظة ذلک أنّ السلم المستنبط من «الزيتون» هو نقطة انطلاق الصوت المناصري في جلّ نتاجه الشعري وهو أي السلم الحجر الأساس في تحقيق آمال الشاعر والشعب ودونه لامعنی للتين الذي يرمز إلی التثمير والأنتاج والتمتع بما يتبع السلام ولکن تنعدم کل هذه الأحلام في المقطع الأخير  وذلک لعدم اکتراث المخاطب المفروض إلی مدی أهمية القصوی لهذه القضية وما من شأنه إلا أن يقول رغم هذا وذاک: « ولکن ليس يعنيني» .
وفي قصيدة « ليلة الافتتاح»: « … قَرَأتُ عَلَی قَبرِهِ سُورَةً، / حَيثُ فَاضَت عُيُونُ السَّمَاءِ التِي/ أَصبَحَت وَردَةً کَالدِّهَان»( المناصرة ، السابق، مج:2/ ص439).
إنّ الظروف المتأزمة في فلسطين من دمار واحتلال وقتل وغير ذلک تتفاقم حتی تشبه قيام القيامة وهذا التشابه يستنبط من الرمز التضميني في الشطر الأخير:«أصبحت وردة کالدهان» فهذه العبارة اقتباس تام لآية (37)من سورة الرحمان( فإَذَا انشَقّتِ السَّمَاءُ فَکَانَت وَردَةً کَالدِّهَانِ) حيث يصف الله سبحانه وتعالی التغيّرات الکونية ومنها احمرار لون السماء تمهيداً ليوم النشور فالمناصرة يوظف هذه الأجواء ليبيّن مدی الکوارث والفجائع الإنسانية التي تقع في الأراضي المحتلة وينبغي أن تبکي السماء دماً لعظم هذه الأحداث فهنالک وشائج دلالية بين السماء حينما تقوم الساعة والسماء التي يصوّرها الشاعر حين استشهاد الشعب الفلسطيني فکلاهما تحمران اضطراباً. فهذه الموازنات الدلالية التي تؤدي إلی ابتکار المعاني تدل علی حذاقة الشاعر في خلق عناقيد إيحائية فاعلة.
وفي قصيدة « ذهب الذين أحبهم» « … / فِي اللّيلِ يَرتَدُّ البُکَاءُ المُرُّ مُنهَمِراً إلی صَدرِي/ وَطَنِي يَضِيعُ وَلَاأَقُولُ :/ آهٍ … مِن اللّيلِ الطَّوِيلِ/ لَو کُنتُ أَملِکُ أَن يَرُدَّا/ ذَهَبَ الَّذِينَ أُحِبُّهُم / وَبَقِيتُ مِثلَ السَّيفِ فَردَاً» ( المناصرة، السابق، مج1/ص 69).
الشاعر يوظف الرمز التضميني في هذا المقطع ليثور أمام الصمت الذي ألجم الأفواه وجعلها لاتنبس ببنت شفة وهو يشکو ويتحسّر لليل  الذي ناء بکلکله وهو يتجرّع دموعه المکبوتة  يشکو ضياع وطنه ويری أنّ يده قصيرة عن رد هذه الظلمة فهو يقتبس بيت عمرو بن معدي کرب: « ذَهَبَ الذِينَ أُحِبُّهُم / وَبَقِيتُ مِثلَ السَّيفِ فَردَاً) وبهذا التوظيف يجتاز المسافات الزمنية ويتماثل بمعدي کرب وقلقه الذي کان يعاني منه فالذين يحبهم الشاعر هم أبناء وطنه الذين استشهدوا في سبيل الوطن وحالياً ما يرهق الشاعر تعباً ويزعجه هي الوحشه إلا أنّ الوحشة المناصرية لم تکن توحي بدلالات سلبية بحتة بل فرديته فردية السيف الصارم الذي لايفل. فيدعو المناصرة الشعب والأمم الإسلامية إلی المثابرة والاستقامة رغم فقدان الأعزاء فهذه الدعوة المناصرية  دعوة إيجابية خفية وهي محفوفة بدفتي التشکي المرير واندماج أطراف السلبيات بالإيجابيات مما يرقی بالمستويات الرمز التضميني عند الشاعر وتفجر منه دلالات متلاحمة.
وما يتمخض من البحث في الرمز التضميني المناصري هو أنّ هذا الرمز يؤدي وظائف شتی هي: توالد معاني عنقودية في توجيه أوجه المقاومة وتبيينها، إبداع طقوس متضافرة في ماضي النص وحاضره، وقد تمّ إنجاز هذه الوظائف بشتی الأساليب أهمها عکسية الإيحاءات النصية.
الرمز الحکاية
تعني هذه الرمزية الاستعانة بعناصر الحکاية من الحوار والزمکانية والحبکة وغيرها من العناصر الروائية لاستعراض مفاهيم قيمة أصيلة هادفة. الرمز الحکاية عند المناصرة قسمان؛ أولهما توظيف الحکاية المأثورة أو المعهودة في إطار مستحدث ففي هذه النقطة يتداخل الرمز الحکاية بالرمز التضميني ومثال ذلک ما ورد في قصيدة « برقيات دامية»: « …/ وَهَذَا دَربُنَا الثَّالِث:/ يَقُودُ إلی جَزِيرَتِنَا البَعِيدَةِ، حَيثُ تَسکُنُهَا/ الشَّيَاطِينُ الشِّتَائِيِّة/ لتَسرِقَ خَاتَمِي فِي اللَّيلِ جِنِّيَّة/ لِأَصرُخُ يَا عَلاء الدينِ،/ أينَ السِّرُ؟، ضَاعَ السِّرُ/ کَيفَ أَفُکُّ هَذَا الطَّلسَمُ المَأسُورُ/ وَلَاشَبَيکَ، لَالَبَيکَ، فَاسمَع صَرخَةَ المَقهُورِ/ فَقَد أَوشَکتُ يَا أَبَتَاهُ أَن أَذهَب !!!/ إلَی الحَدِّ الذِي لَايَرهَبُ السِّکِين/ قَبَائِلُنَا عَلَی الحِيطَانِ تَنشُدُ دَمعَةَ المَحزُونِ/ سَلامَاً آهِ يَا أَبَتَاه، إن تَعِبُوا فَلَن أَتعَب» ( المناصرة، السابق، ص 180).
فيستدعي الشاعر قصة سندباد والإبريق السحري وصولاً إلی التعابير المغلفة التي لم يجنح إلی البوح بها سافراً وهذا الاستدعاء يتجلی أکثر ما يتجلی في المفردات التالية: « جزيرة»، « الشياطين»، « خاتم» « جنية» « علاء الدين» « السر» «الطلسم» وکل هذه الألفاظ تحتوي في طياتها علی شيفرات دلالية راقية تساير مفاهيم المقاومة فلم تنکشف بلاغة هذه الرمزية إلا بعد فک عقدها الدلالية فالجزيزة هي الأراضي الفلسطينية التي حلّها الأجانب قسراً وهي بعيدة کل البعد عن الفلسطينيين الذين أنصبوا خيمهم في المنفی. و« الشياطين الشتائية» هم الصهاينة الجبابرة الذين ولجو هذه الأرض الخصبة وحوّلوا ربيعها شتاءاً وسرقوا«الخاتم» الذي هو صورة أخری لبيت المقدس وما حولها ولم يقدر الشعب الفلسطيني النازح بعد علی فک هذا الطلسم فلا يجد حيلة إلا أن ينادي بالمنجي العبقري والذي يعيش في اللاواقع أي « علاء الدين» فيری المناصرة أنه لاطائل تحت التمسک باللاواقع والتعاويذ والصراخات الليلية وقول « لاشبيک ولالبيک» من دون جدوی! فهو يصر علی إحياء الشجاعة وطرح الجبن جانباً وهو أولاً وأخيراً يدعو إلی المثابرة والاستقامة حتی النصر و ينادي بأعلی صوته: « إن تعبوا فلن أتعب» .
فتعالت حکاية سندباد عن نطاقها الضيق وتوسعت أطرافها وتعمقت جذورها المعنوية بعدما تقولبت في صوت عز الدين المناصر.
والأسلوب الثاني لتوظيف الرمز الحکاية عند المناصرة هو الرمز الحکائي التلقائي الذي يحوک الشاعر فيه حکاية ناتجة عن تجربته أو تجربة غيره أو حکاية نادرة تلقيها الحياة علی قلبه ونبغ المناصرة في هذا المنطلق وقد حشّی کثير من قصائده بالرمز الحکائي التلقائي ومن نماذجه قصيدة« الجذع المشترک»:
« حَارِسِي طِيلَةَ السَّنَوات /أَمرُهُ قَد کُشِف/ إنَنِي وَاثِقٌ بِرُغمِ غِيابِ الأَدِلَةِ /أنَّ شَرَايِينُهُ تَرتَجِف / حَارِسِي طِيلَةَ السَّنَوات / شَاعِرٌ لِلأَسَف/ قَالَ لِي: قَد قَرَأنَا عَلَی شَمعَةٍ/ فِي الحَلَک/ وَدَرَسنَا سَوِيَّاً/ تَذَکَّرتُ شَيخَاً جَليلاً / يُعَاقِبُنَا بِعَصَاهُ الجَلِيلَة/ تَحتَ الزَّيَاتِينِ وَالتِّينِ/ کُنَّا تَلَامِيذُهُ/ مِن مُحِيطِ الخَلِيجِ إلَی سَاحَةِ المُعتَرَک/ قَالَ لِي: إنَّهُ بَحرُنَا الظُّلُمَاتِ/ إنَّهُ جِذعُنَا المُشتَرَک/ رَاکِضٌ خَلفَنَا، ثُمَّ يَمشِي بِأضلَاعِنَا/ وَيُوَحِّدُنَا فِي فَلَک/ حَارِسِي أصفَرُ الوَجَنَات/ وَلًهُ أُذُنَان کَأَورَاقِ شَتلَةِ تَبغٍ/…»( المناصرة، السابق/ 280).
المناصرة يصف حکاية خيانة بعض الروئساء، الحکاية التي طالما عانی منها الشعب الفلسطيني فهي حکاية الحارس الذي خان في أمانته ولم تکتشف خيانته إلّا باصفرار وجهه ودقّات قلبه وأما الأدلة فلاتتواجد. فهنالک خائنون لم يشهد علی خيانتهم التاريخ بل تشهد جلودهم علی فعلتهم التي فعلوها أولئک الذين حالوا دون تقدم النهضة وأرادوا تقهقرها. إنّ الخيانة تصدر أحياناً عن أبناء الوطن للأسف؛ الذين قرؤوا معنا وتساوت ظروفهم بظروفنا فالحارس يصبح خائناً في الحکاية المناصرية وهذا التعبير انزياح دلالي وظف لتنبيه الشعب فلابد لأصحاب النهضة من أن يحددوا عيونهم وأن يکونوا أذکياء کيلا يدهورهم کيد الخائنين. الحارس الشاعر يتأسف عليه المناصرة لأن جماعة الشعراء أرفع شأناً من الخيانة بل ما ينبغي منهم هو إصلاح المجتمع. تمت تربية الشاعر والخائن في زمکانية متساوية حيث رباهما الشيخ الجليل الذي ما کان يألوا جهداً لبلوغ مهمته وتربية جيله فالشيخ الجليل کان يعاقب الصبيان بعصاه الجليلة.  يلتقي الشيخ والعصا في نعت مشترک أي الجلالة وذلک ينتج دلالتين سلبية وإيجابية؛ الدلالة السلبية هي التهکم بالتصرفات القاسية التي کانت تشيع في دور التعليم وهو نقد لاذع لهذه السجية المستقبحة. أما الدلالة الإيجابية فهي تکمن في دور الشيوخ في تربية الأجيال الصالحة.
الحارس والشاعر زاولا الدراسة في ظلال الزياتين والتين أي في طقوس سليمة خصبة إنَّ الحارس الخائن أکل التمر وعصی الأمر ففي نهاية الحکاية تنفک عقدة رمزية أخری لتشوّه وجه الشيخ وکأنّ الشيخ هو نفس الحارس الخائن الذي قصد صيانة الأولاد إلّا أنه عدل عن مهمته وتمثّل بحر علم مظلم يوحّد الصبيان علی خشبة الفلک أي الظلم والخيانة ويأتي به المناصرة في أخير المطاف في صورة کاريکاتورية مضحکة فأذناه ملتوية کشتلة التبغ.
وما يلاحظ في الحکاية الرامزة هو أن التجارب التأريخية والتجارب الشخصية في هذا الأسلوب تصطبغ بالإيحائيات الثلاثية والرباعية بل أکثر من ذلک ولابد للمتلقي أن يقرأ النص قراءة فاعلة ويترصّد للمعاني المختلقة المتحلقة ليصطادها بشبکة ذکائه المجنح فتطلب قراءة الحکايات الرامزة وعي القارئ وعياً متزايداً ليفوز بمعاني نادرة يصادق عليها الجمهور ولاسيما في مواجهة النصوص المناصرية التي علی حد قول الشاعر نفسه، لايفهمها إلا الزيتون.
حصيلة البحث
    أصبحت الصورة الرمزية في شعرعزالدين المناصرة ذات قيمة عاطفية ووصفية ومعرفية وخرجت عن إطارات الاعتيادية، كما لم تعد مجرد زخرفة لفظية إذ تعدّدت وظيفتها في دیوان الشاعر ولاسيما في مجال المقاومة وأشکالها واتجاهاتها فعملت الرموزية بشکل فاعل علی خلق عناقيد دلالية  ناضجة بالمعنی وبثّ الإيحاءات القيمة الهادفة.
    وظّف الشاعر الرموز التراثیة وخصوصاً الدينية بما يناسب طبيعة تجربته وشخصيته، في العديد من القصائد؛ ليوجد معادلات موضوعية ويعزز أجواء المفارقة التصويرية، وليثري النص، ويمنحه الكثير من المعاني والدلالات تعبيرية ثرية مشعة. وأكدّ الشاعر المناصرة  في توظيفه للتراث على قضية الالتزام، فظلّ ملازماً لها، مبرزاً ملامح جمالياتها الأصيلة في شعره.
ومن ميزات الصور الرمزية في قصائد الشاعر هي أنَّ هذه الصور تنوعت ووردت بأشکال مختلفة تاريخية، أدبية، أسطورية، شعبية، دینیة وهي تشتمل علی رموز دينية  تاريخية و غيرها فالاستخدام الدقيق للموروث يدلّ دلالة واضحة على سعة ثقافة الشاعر.
    الرمز الديني عند المناصرة يتبلور في ديوانه باستدعاء الشخصيات الدينية أبرزها المسيح، نوح، أيوب، مريام، والرمز الأدبي الذي تمّ توظيفه في ديوان الشاعر عبر استدعاء الشخصيات التأريخية أمثال إمرؤالقيس والعرجي والمتنبي  وجفرا وغيرها جعلت من شعر المناصرة لوحة زاهية في الأدب المقاوم.
    لم يختصر الرمز في ديوان المناصرة علی توظيف الرموز المعهودة بل هنالک کميات ملحوظة من الأساليب الرمزية المستحدثة تضخم اللحمات الدلالية في شعر هذا الشاعر الکبير منها الرمز المکثف بأنواعه المذيل والمفصل والمقنع ثم الرمز التضميني الذي ينجرف في تيار الفضاءات التناصية أکثر من غيره وأهم ما فيه هو الإنزياحات الدلالية والعکسية التي تجنّح المعاني وتسموبها إلی أرصفة الخيال من دون أن تنقطع عنه الدعوة المناصرية التي مازالت ولاتزال تنادي بالمقاومة حتی النصر.
والحکاية الرامزة بنوعيه المأثورة والتلقائية أدّت إلی تضخيم الصور البديعة النادرة لدی المناصرة وهي أشد بلاغة وأکثر إيحاءاً قياساً لسائر الرموز لأنّ الحکاية الرامزة بما فيها من شتی العناصر تولد المعاني وتزاوجها ثمة تنامي الرموز وتعانقها تسمو بالمعنی في هذا الأسلوب الرمزي حيث تسوق بالمتلقي إلی اجتياز القشور الدلالية ورکونه عند البنيات التحتانية.

مصادر البحث و مراجعه
القرآن الکريم
أصلاني، سردار،شاملي، نصرالله، کرمي، عسکرعلي(2011).«الرمز و الأسطورة و الأسطورة الرمزیة في دیوان أبي ماضي»،  مجلة الجمعیة الإیرانیة للغة العربیة و آدابها،العدد21.
بودویک،محمد(2006). عزّالدين المناصرة بنياته ابدالاته و بعده الرعوي. ط1.عمان-الأردن :دار مجدلاوي للنشروالتوزیع.
امرؤالقیس(1990). الدیوان. تحقیق:محمد أبوالفضل ابراهیم،ط5.القاهرة:دارالمعارف.
ستيتية، سميرشريف(2003).«تحليۀ مضامين البناء، و بناء المضامين في شعر عزالدين المناصرة». مجلة عالم الفکر،( مجلة علمية محکّمة)، الکويت، عدد يناير- مارس.
عبید،محمدصابر(2005). حرکیة التعبیر الشعري في شعر المناصرة.عمان:دار مجد لاوي للنشر والتوزیع.
العرجي(1988). الدیوان،جمعه وحققه وشرحه سجیل جمیل الجبیلي، ط1.بیروت دارصادر.
القصیري،فیصل صالح(2006). بنیة القصیدة في شعر عزالدین المناصرة.بیروت:دارمجدلاوی للنشر والتوزیع.
المناصرة،عزالدین(2005). الأعمال الشعریة،مج1.عمان:دارمجد لاوي للنشر و التوزیع.
المناصرة،عزالدین(2005). الأعمال الشعریة،مج2.عمان:دارمجد لاوي للنشر و التوزیع.
وعدالله،لیدیا(2005). التناص المعرفي في شعر عزالدین المناصرة.ط1.الأردن:دار النشر لاوي للنشر والتوزیع.

شاهد أيضاً

ندوة “عاشوراء نبضة الألم ونهضة الأمل” في معهد المعارف الحكمية

شارك الملتقى الثقافي الجامعي في ندوة أقامها عصر يوم الإثنين في 11 أيلول 2023 معهد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *