الرئيسية / أبحاث / استنزاف الخدم في “زرايب العبيد”

استنزاف الخدم في “زرايب العبيد”

لميس حيدر، استنزاف الخدم في زرايب العبيد، اتجاه، بيروت، ع40 و 41، شتاء وربيع 2018. 

  استنزاف الخدم في “زرايب العبيد”

 

ملخص الرواية:                                           د. لميس حيدر(*)

يمنع الوالدان ابنهما عن العبدة تعويضة التي يعشقها. وترفض الأم حمل خادمتها من ابنها، لذلك لا تصغي لابنتها التي تلح على ضرورة احتفاظ العبدة بجنين أخيها. فقد يكون الجنين ذكرا، وهذا سيناسب الأخ الذي لم ينجب من زوجه سوى البنات.

اعتادت السيّدة الأم للاعويشينة أن تجهض عبدات منزلها. ويبدو أنّ هذه العمليات الإجهاضية تحصل بشكل تلقائي في ذلك المجتمع، ويتمّ التكتم عليها ضمن البيوت. وتتفق مناني مع صديقتها الأم للاعويشينة على إجهاض خادمتيها من زوجها، وابنها في نفس وقت إجهاض الأم عبداتها.

ويتآمر الأب على ابنه العاشق، ويقرّر بيع تعويضة مع جميع عبيده في أثناء سفر ولده للتجارة. ولكنّ علي بن شتوان يشفق على خاله العاشق المخدوع، ويتوجّه ألى السوق، ليشتري العبيد مجددا، وتكون تعويضة بينهم، فتعود إلى خدمتها. يغضب الجد من علي الذي يتلقى القصاص.

لا ترضى الأم للاعويشينة عن تعويضة التي نغّصت عيش بنات ابنها، وأمهنّ، لذلك تقرّر أن تزوّجها العبد سالم. وحين يعلم العاشق أنّ تعويضة ستتزوّج سالما يهدّده، ويحذّره من لمس تعويضة. وتحمل العبدة من العاشق الولهان، ويعتقد أهله أنّ الرضيع هو ابن سالم.

ويقيم الأسياد وليمة لأصحاب الشأن، ويبدأ العبيد بتحضير طعام اليوم الثاني، فتدخل تعويضة المطبخ مع طفلها الموضوع في كرتونة، ولا تخرج منه إلا آخر عبدة.  نسيت تعويضة المجهدة تعليق اللحم، فأكلته القطط. لهذا يعاقب والد العاشق، وزوج للاعويشينة العبدة تعويضة على خطئها. يربط الأب تعويضة، ويتركها تتألم فيما تراقب موت ابنها جوعا وعطشا أمام عينيها. وحين يعلم هذا الأب من سالم الغاضب أنّ طفل تعويضة هو ابن ابنه يتعذّب كثيرا.

وتُستبعد تعويضة مجددا من قبل الوالدين،. ويسكِنُها الفقي في بيت العاهرات. ويحصل أن تساعد في إنجاب طفل سفاح، وتتوجه به لوضعه أمام الجامع كما تمّ الاتفاق معها. ولكن تعويضة تهرب، وتقصد عيدة صديقتها، ومن ثمّ تذهب إلى زرايب العبيد. تختار تعويضة اسما جديدا هو صبرية، وتظلّ خائفة من اتهام سيوجّه لها من عاشقها الذي تتوقّع رؤيته مجددا. فقد يعتقد أنّ الوليد هو ابنها. وحين تلتقي تعويضة مع حبيبها يتعاتبان، ثمّ ينجبان عتيقة(ص11 و12).

يأتي علي بن شتوان إلى الزرايب(ص23)، ويسأل عن عتيقة “ابنة خاله” ليعطيها ميراثها من والدها. وتعلم عتيقة من علي بن شتوان أنّ من ربّتها هي أمّها تعويضة، تلك التي ادّعت أنّها العمة صبرية. يعطي علي عتيقة الأوراق التي تثبت أنّها من الأحرار، فوالدها من الأسياد، وهي صاحبة ثروة.

 

مُدخل:

تخصّ الرواية الحديثة الواقع بمزيد من الاهتمام، فتضيء على قضايا لها بعدها الإنساني، وتقدّم هموما تؤرّق  الناس عموما، ونخبة المثقفين خصوصا. وما أوردناه له علاقة مع ما تضمنته رواية “زرايب العبيد(1)” التي غاصت في مشكلة العبيد الخاضعين لسطوة أسيادهم.

تركّز رواية “زرايب العبيد”  على مشكلة عبدة تتحوّل من خادمة لدى مستخدميها الأثرياء إلى عاشقة لابنهم. ويحاول أهل الشاب منع تطوّر علاقته بالخادمة، علّهم يشدّون أواصر زواجه مع أم بناته. يتصرف الأهل بقسوة ومكر شديدين مع العبدة، ويأتي العقاب أشبه برغبة الإنسان في القضاء على مرض خطير يقتحم جسده. ويتجلى تدمير الأسياد لعبدتهم العدوة، وكأنّه بناء لذاتهم، التي اهتز أمنها. يتحقّق أمن الأسياد من خدمة العبدة لمنزلهم فقط، أمّا إذا تعدّى ذلك، فيفكّرون أنّ ذلك سيشوّه إشراق حياتهم، ويحيله إلى ظلمة حالكة. يعالج الأثرياء اعوجاج علاقاتهم الأسرية بقسوة، فيضحّون بالأسود، ويعرّضونه إلى أقصى أنواع التعذيب. تسرد الرواية حكاية قهر، تتحكّم بزمامها قوى لا يمكن معارضتها، لذلك يكون المستضعف خانعا، وعاجزا، وليس أمامه سوى الإذعان لصرخاته المدوّية في وجعه السري، أو العلني. هي استغاثات عبد، لن تحمله إلا إلى المزيد من أسى المتحكّمين، وحنقهم. نقرأ مثل هذه القسوة في رواية “ساق البامبو(2)” لسعود السنعوسي.  كما يتحدّث حازم صاغية في روايته “أنا كوماري من سيريلانكا” عن استغلال رجل مسلم لسيريلانكية تزوّجها(3).

تهيمن قسوة الأسياد على مضمون نص “زرايب العبيد”، وسيسعى التحليل لكشف النقاب عن عدوانية الحر. فالأسياد يرون أنّ لهم الحق الحصري بالبطولة، لذلك لا يريدون أن يهدّد عيشهم من سُخِرَ لخدمتهم، وعدّوه من حثالة البشر.

يقنعنا النص بحظ العبيد السيء الذين يعيشون مهمّشين، ومصروفين عن خطوط الراحة، لذلك يظلّل الحرمان كنف أوقاتهم، ويعانون من ظلم يصعب احتماله.

وهنا نسأل: أيحوي النص في طياته رسالة ضد الأغنياء؟ أيتنكّر لفكرة التمييز العنصري؟ أتشغله مشكلة التفاوت الطبقي؟ أعَرضُ ما حصل للخادمة العاشقة هدفُه تحريض المتلقي، الذي سترفض إنسانيته هذا الظلم؟ أيَنْفُذُ القارئ من خلال مجريات الأحداث إلى ظلم مماثل في المجتمع؟

يصوّر النص الاستبداد، ويظهر قذارة متبعيه. تسلّط الأحداث أنوارها على مسألة الحرية، مبرزةً قيمتها العظمى من خلال أدلة دامغة مستمدة من رضوخ المقهورين. ولعلّ في هذا حض للمثقف كي يثور على الظلم، فيطل على مجتمعه من خلال عقلية جديدة ترفض هوان الفقراء المستضعفين. وقد يحثّ مضمون النص أصحاب الفكر النيّر على اتخاذ خطوات نهضوية في سبيل الإنسانية، وكرامتها. فهل سيتم اتباع نهج اجتماعي جديد يخاصم الماضي التعسّفي، ويلعنه، كي لا يتم الإبحار في سقطاته؟ هل ستُحفظ حقوق العبد، وتُقَدَّم له المنفعة كما يؤمّن الخدمة لسواه؟ أسيُتاح له إبداء رأيه إن تطلّب الأمر؟

يطرح النص أسئلة كثيرة، سنجد لمعظمها إجابة في أثناء تحليل الرواية. وستبقى بعض علامات الاستفهام مثار جدل، لذلك قد تجيب عنها أعمال أخرى، قد تعالج مراحل العيش بين الأسياد وخدمهم.

تحدّثت روايات عن علاقة الأسياد القاسية بالعبيد، غير أنّني أحسب أنّ القسوة على العبد كانت حدّتها قوية جداً في هذا العمل. فقد تناولت رواية “ساق البامبو” لسعود السنعوسي عشق ثري لخادمة، ورفض أمّه وأخواته لهذه العلاقة الزوجية، وما أثمرته من ولد. وكنت قد درسْتُ هذه الرواية دراسة نقدية(4)، وأفدت في أثناء ذلك من المنهج البنيوي السردي. وهذا المنهج سأعتمده في بحثي هذا، لأنّه قادر على إظهار عمق القيم الإنسانية التي يحويها نص “زرايب العبيد”. وسأقسّم دراستي إلى عناوين ثلاثة، هي:

1_ازدراء الحر للعبد.

2_ندية العبد للحر.

3_ مراحل عيش تعويضة .

 

1_ازدراء الحر للعبد:

يرمي الشاب عبدتهم تعويضة بحلة الشوربة، ويحرق ردفها، ويشوّهها. لكنّها تظلّ لطيفة مع رجل يمقتها، ويتكبر عليها، فتأخذه سكراناً إلى فراشها ليبيت فيه(ص181). ومنذ تلك الليلة تتبدل مشاعره، ويروح يهمل زوجه وبناته. يتحدّث الشاب عن العبدة مع ابن عمه الصديق، ويقول:”_لقد سحبتني من تحت المزراب، ونيّمتني في مرتبتها وظلّت صاحية في البرد عند الباب حتى الصباح… لماذا عاملتني بلطف… رغم أنّني شوّهتها؟

_ الخدم والشواشين هكذا، طيّبون جداً… .

_ لكنها منذ ذلك الصباح لم تغادر خيالي يا صديق… .

_ اذهب إليها وجرّبها وستثني على الصديق.

كشّر باستعلاء:

_لست مثلك… .

… عادت إلى أنفاسه رائحة الفتاة السوداء التي نام في مرتبتها…”(ص184و 185).

يبدي الحوار المباشر الملحق بالسرد(5) مدى احتقار الأسياد للعبيد، فابن الأسياد يجسّد وجها من وجوه الأثرياء الذين يمقتون العبيد، ويعدّونهم في رتبة متدنّية، لا يمكن أن يرتقي معارض مكانتهم الطبقية لها. ويأتي السؤال المطروح من قبل الشاب الثري ليكون دليلا ساطعا على قسوة الأسياد، وانعدام شعورهم فيما يلحقونه من ضرر في حياة عبيدهم. كما يبرّر ما ورد من حوار مباشر ملحق بالسرد أسباب تحوّل مشاعر الثري حيال تعويضة، وبداية ميله لها، فهي متسامحة وكريمة العاطفة ومتفانية.

وترفض أم الثري اللالاعويشينة حمل العبدة تعويضة من ولدها، وتحتج على اقتراح فاطمة ابنتها، والمتضمّن عدم إجهاض العبدة لأنّ أخاها لم ينجب ذكرا، وقد رزقه الله الإناث فقط من زوجه. تقول فاطمة: “_لا تسقيها يا أمّي… متلهفون نحن لذكر يحمل إسم العائلة… .

_ مستحيل أن يحمل إسم العائلة ابن جارية سوداء… ليطارحها الغرام، تلك سنة الله في خلقه… .

… أعدّت اللالاعويشينة بنفسها خلطة الأعشاب التي جاءت به مناني. ستقتسمان الشراب بعد تمامه، فمناني هي الأخرى لديها خادمتان تريد إجهاضهما، واحدة سرية لزوجها وأخرى لابنها(ص202)”. يوضح الحوار المباشر الملحق بالسرد مدى قسوة الأم، وخروجها عن قيم الدين الإسلامي، وأخلاقه السمحة. فهي تعدّ أنّ مطارحة ابنها الغرام لعبدة سنة الله، فيما تقتل ابنه المسلم منها(6). يخدم هذا الحوار النص، ويضيء أحداثه، ويساهم في تنميتها، كما يجرّم الأم كاشفا حقارة مفاهيم مهيمنة في مجتمع تسوده الطبقية.

كما أنّ مناني لم تكن أقل دناءة من صديقتها الأم، وهذا قد برهنه السرد الملحق بالحوار. لقد عالجت مناني حمل خادمتيها من زوجها، وابنها عبر إجهاضهما أيضا. وهذا يوضح طريقة التعاطي الاعتباطية والظالمة من قبل الأسياد، التي يبدو أنّها لم تكن حكرا على أسرة بن شتوان وحدها.

وتتكرّر عمليات الإجهاض. تقول الراوية:”إجهاض جماعي لعدة خادمات من خدم الأسياد. قررت نساؤهم إجهاضهن لئلا يلدن شركاء شرعيين لابنائهن”(ص331). ويتكّرر هذا الحدث، فالجدة ومناني:”تخضعان الخادمات لعمليات إجهاض سرية لا يعلم بها الرجال ولا تنتشر إلا بين الخدم… الحمّام امتلأ بالدماء حتى أضحى كمذبح”(ص332). يكشف التواتر(7) عن تكرار اغتصاب حرية العبد، وإنسانيته، ويبوح بقذارة عقلية متخلّفة مستحكمة. يريد النص كشف طريقة تعذيب العبدات النمطية، إذ ما ينالهنّ من معاناة هو نتيجة اتباع عقائد موروثة. يطرح ما ورد معضلة الاعتراف بالآخر، وحقه في الحياة. أفي هذا دعوة إلى اجتثاث أصول مجتمعات ما زالت تظلم العبدة، وترهقها بتلبية رغبات الذكور الدنيئة والمخجلة؟

ونقرأ عن مثل أيديولوجيا(8) نفاق الأم اللالاعويشينة المتنافي مع الدين نفيا تاما، والذي لا يمكن أن يكون من سننه في رواية “ساق البامبو”لسعود السنعوسي. فقد نكرت الأم حفيدها من الخادمة في رواية “ساق البامبو”، وطردته من حياتها خشية من الناس، هاملة ما ينص عليه الدين الإسلامي الذي كانت تمارس شعائره في رمضان.

وكي تتجنّب الأم اللالاعويشينة ضرر علاقة ابنها مع تعويضة، تفصل بينهما عبر اتخاذ قرار يقضي بتزويج خادمتها من خادمها سالم(ص205). ويستبق الإبن الأحداث، فيهدّد سالم:”إن وضعت يدا على تعويضة، سأقطع لك الاثنتين”(ص214). يقدّر العاشق إمكانية حدوث أمور تحصل بين أي زوجين، لذلك يستبق(9) المسائل، ويتوعّد رافضا أيّ علاقة جسدية قد تنشأ بين سالم وحبيبته، تلك التي يريدها أن تظل له وحده.

وترتاح اللالاعويشينة من تعويضة التي تسكن مع زوجها في حظيرة الماشية. تقول الراوية:”في الغالب يفرح العبيد لوصولهم لذلك المستوى من العيش في كنف أسيادهم، فيرتاحون لاستقرار حياتهم على ذلك المنوال ينجبون عددا كبيرا من الأطفال في تلك الأماكن ولا يغادرونها إلا إلى براكة أكبر أو إلى الآخرة”(ص216). يتجلى من تراتبية المكان(10) ذلك التفاوت الطبقي القائم بين الأسياد الذين يسكنون البيت الفخم ، فيما يسكن العبيد المتزوّجون فرحين في حظيرة الماشية، أو في براكة أكبر، ولا يدخلون بيت أسيادهم إلا لخدمتهم.

تكشف تراتبية الأمكنة تلك الهوة الشاسعة بين مكانين متعارضين يكلّل أحدهما الرخاء المادي، أما ثانيهما فيتغلغل فيه الحرمان. يوحي ما ورد بواقعية المسرود، لأنّه يتلاقى مع حقائق العلائق الطبقية، ويتناسب مع طبيعة تفاوت الناس اجتماعيا. ويترجم ما ورد مدى استحالة ائتلاف الطبقتين المتعارضتين، أو إقامتهما تصوّرات موحّدة.  تمكّن تراتبية الأمكنة القارىء من سبر عمق معاناة العبيد، فيلتقي بذلك مع مصائب الخدم، وأوضاعهم الاقتصادية السيّئة. وتشكّل تراتبية الأمكنة فكرة واضحة لدى المتلقي عن تلك الفروقات الحادة القائمة بين الطبقتين، فيدرك حينها أن التعارض الطبقي هذا يحتاج إلى معجزة إلهية كي يتم تداركه.

ويشكو الوالد الثري للفقي عشقَ ابنه خادمتهم تعويضة، وإهماله زوجه، وعيشهما معا مثل الأخوة(ص231)، فيقترح الفقي أن يتحيّن الأب فرصة سفر ابنه التاجر، ليبيع العبدة(ص232). ويوافق الأب، ويقرّر بيع عبيده جميعهم، فتتحدّث الراوية عن استباق العبيد المتشائم:”يبكي العبيد… لأنّ الأوضاع ستتغيّر مع سيّد جديد… . رغم أنّهم مجهولو الوجود إلا أنّهم يخشون المجهول… يبكون اعتياد رقّهم القديم الذي سيفارقونه برق جديد… لزمت تعويضة البكاء… لا تدري اليوم إلى أي أرض تسير…، لتشرع في رقّها الجديد”(ص235). لا يبشر الاستباق بالتماع أفق جديد، سيحمل العبد إلى عالم مضاء بأنوار حرية يفتقدها، فتقيه مهانة حاضره. يؤرّق الغد المجهول عيون العبد، فيبكي متكهّناً المزيد من الاسوداد.

وتتبدى أيديولوجيا الأب المعنّفة للعبيد من خلال اتخاذه قرار إقصائهم جميعاً(ص234)، وكل ذلك ليغطّي موضوع استبعاده تعويضة. إنّه مكر أصحاب النفوذ والسطوة الذين ينفّذون قراراتهم المتجبّرة على المستصعفين، ليحقّقوا مكتسبات على حساب فئات لا يمكنها الاعتراض، وليس أمامها سوى الإذعان. إنّه نمط علائقي موروث، ونظام عيش تقليدي ينمو من خلال إجحاف الآخر حقه، وهدره أمنه، وإذلاله. إذا، ترتكز شهوة سلطة الأب على سلوكيات إسقاط الآخر، المهزوم تفكيره حيال قيمته الوجودية، ذلك الذي طُمِسَ إحساسه بالزمن، و وُلِدَت مشلولة مشاركته الاجتماعية الندية مع أسياده.

ويجلو التواتر التكراري النمطي إذلال العبدات الصاعدات منصة العرض، وهنّ شبه عاريات، حيث يلمس الرجال أجزاء من جسدهن. ها هو مسن يكشف رداء تعويضة عن عورتها، ويلمسها، غير أنّه يرفضها حين يرى أنّ ردفها مشوّه. تقول الراوية:”الكل شدّ صدرها ولمس عانتها”(ص236). يجلو هذا التواتر كيف يهدّد الأحرار العبدة مرارا، فيعنّفون أنوثتها، ويعرّضونها لأبشع أنواع التحقير الإنساني.

وتعود تعويضة إلى خدمتها لدى أسرة بن شتوان، بعد أن يشتري علي بن شتوان عبيد جده جميعهم، محاولا حماية تعويضة من أجل خاله العاشق المخدوع المسافر. وتُزوَج من سالم العبد، وتنجب صبيا من عشيقها، فيعتقدون أنه ابن سالم.  وتسهر تعويضة مع العبدات في إحدى المرات في المطبخ، وهنّ يحضّرن طعاما لوليمة الغد التي سيحضرها الأعيان. وتتعب كثيرا لذلك تنسى “تعليق اللحم”(ص245). وحينها يضرب الأب ولي النعمة  العبدة النافس بسوطه. يتوجه إلى المطبخ “…يجر الخادمة من شعرها إلى الحمّام، وبجذبة قوية انتزع حبل الغسيل ليربطها به هناك… قال…: _هات ابنها بسرعة.

جاءت أحباره مسرعة بصندوق الكرتون الذي حوى الرضيع ورأته يربط تعويضة من يديها بالحبل في سقف الحمّام…:

_ عندما تعلّقين كالذبيحة ستتذكرين ولن تنسي، هذه ليست المرة الأولى لك أيتها الكلبة… .

صغيرها يصرخ يريد الرضاعة وهي معلّقة من يديها وتراه دون قدرة على افتكاكه من الجوع والظمأ… . تختلط استغاثاتها بصوت آذان الجمعة”(ص252_255). إنّ تعبير الأب المباشر، والقصير، والمقتضب في المرة الأولى، والمفصّل في المرة الثانية، والذي لا نجد إجابة عنه من قبل متلق له، يبشّر بإنذار سوء سيقع، لأنّ الأب شديد الغضب. يبدي ما ورد جنون الاب المتدافع، ذلك الذي تنسل منه كلمات تشيع جوا من القلق في ذات القارىء.

لم تتقاعس تعويضة في عملها، وقد عاقبها الأب الكبير بن شتوان على أنّها مهملة. يبدو الأب من خلال الحوار المباشر الملحق بالسرد مجسّدا لتلك العقلية المسرطنة، أو المهووسة بالأنا، والعادمة للمختلف. لا يتعاطف الأب مع استغاثات العبدة، ولا يرعبه صوت الآذان، وهذا يبدي كفره. بين ما يجوز أن يفعله العبد، وما لا يمكنه وقعت تعويضة في فخ المحظور. أحسب أنّ النص أراد أن يقول أنّه لم يكن على تعويضة تجاوز مكانها، وإدراك منطقة محرّمة. يحرّض ما أشرنا إليه القارىء المثقف المعارض للتمييز العنصري أو الطبقي، فيستنكر ألا يحق للعبد ما يحق لسواه من بني البشر الذين لديهم نوازع، ورغبات، وإمكانيات جسدية. ألا يحق للعبد أن يسهو باله، أو يخطىء؟ قد يتعاطف القارىء مع الخدم الذين يعيشون حياة مجدبة، ومجحفة من غير اعتراف بقيمتهم الوجودية، فقد عوقبت تعويضة عقابا قاسيا وغير إنساني. يوضح ما ورد أنّ العبيد لا يحظون باحترام جهودهم، ولا يملكون حرية سلوكية، لذلك تغدو أيامهم شبه مشلولة، ولا ارتقاء فيها.

إنّ الزعم بأنّ تعويضة مهملة، ولاتبالي في إتمام مهماتها، لذلك تمت معاقبتها إلحاد بالقيم. نركّز على هذه الناحية، ونحاول استنطاقها ما دامت هي التي أدّت إلى تدهور أوضاع تعويضة التي يموت ابنها جوعا وعطشا أمام عينيها. وهذا يظهر أيديولوجيا عنف الاب، وكفره. فقد اتسم تصرفه بلاأخلاقيته، وعبّر عن اختلال وعيه، وانهزام قيمه الإسلامية.

هذا الكم من القسوة الذي تعرّضت له تعويضة تراجيدي بامتياز، وما حصل لها أصاب العبيد جميعا بالذعر، لذلك “فرّت من طريق السوط من استطاعت الفرار من الخادمات، ومن لم تستطع التصقت بالجدار كالسحالي…بالت خادمتان على نفسيهما من الرعب”(ص252). يوضح هذا المشهد الرؤية السيكولوجية-الذاتية(11)، وهي تجسّد مدى قلق العبيد على مصيرهم في أثناء معاقبة تعويضة. توضح هذه الرؤية السيكولوجية كيف تنتهك قدرات العبد النفسية، وهذا يعزّز حقد القارىء على أصحاب النفوذ، والسطوة، الذين يفرغون عقدهم بأبشع السبل. إذا، توضح هذه الرؤية تلك العبثية المهدّدة للحق الإنساني، والمشَيّدة للباطل عروشا. لعلّ هذا النمط من العلائق الطبقية كان متفشيا، واعتياديا، ولعلّ طريقة العنف هذه كانت سائدة. وقد يكون هذا الاقتصاص المدوّي متكرّرا، وإن بأوجه مختلفة.

لقد أُسِسَت أحداث الرواية لتبدي انهزام العبيد أمام جبروت أسيادهم، ولتكشف أسباب أفول الوعي الذهني لدى الأسياد، أو انغلاق جريان نور عقلنته. إذا، يقر النص بظلم العبيد، ويكشف عن واقع مشين يستحيل أن يتآمر الضمير الإنساني معه. ولعل في هذا دعوة ضمنية إلى نزع قناع الصمت عن وجوه النخبة المثقفة، كي لا تقف معزولة، أو على الحياد محتاطة من تجنّي سلطة أفراد متحكّمين بالآخر المختلف عنهم، فيضيع الوقت من غير أي تعديل يذكر. إذا ما ورد قد يحوي في طياته دعوة ملحة إلى ضرورة معالجة الواقع، كي لا تندمج صفوة الناس العاقلة مع الظلم، فيصطبغون بسوداويته، ويبيتون مخدّرين بهدوء خانع ممتثل لضرورات مفروضة. هي ضرورات قد تصادق غالبيتهم على استحالة تصويب اعوجاجها، والتفوا حول مقتضياتها الظالمة الشائعة، والمعتاد حصولها.

وقد تكون أيديولوجيا العقلانية، والرشاد موجودين لدى علي بن شتوان في النص، غير أنّ نمطية تفكير وعرة مسيطرة لن تبدّلها مفاهيم عابرة.

وتتبدى أيديولوجيا الإجرام لدى جماعة الأغنياء من تكرار عملية قتل أبناء الجواري من الأسياد:”كثيرون يدفنون أبناء الجواري وسريعا ما تذهب المسألة للنسيان بمجرد مغادرة الجامع أو الجبّانة، لا سيما إذا كان الأب الذي جامع الجارية مجرّد غلام يتلمّس طريقه إلى عالم الرجولة”(ص261). يعذّب الأسياد العبدات، ويمزّقون مشاعرهم، بعد أن يعيش رجالهم حميمية الجسد معهن. ولا يكترث الأسياد لما ستخلّفه تلك المتع من أولاد، لأنهم لن يحظوا بالحياة. يمارس الأسياد دور الجزار، ويستهلكون أجساد العبدات من غير وازع ديني، أو اجتماعي. هي لغة سائدة لا تسأل العبدة عن رغبتها في الإنجاب، أو ممارسة دور الأمومة.

وتتبدى أيديولوجيا تسليع العبيد من كلام اللالاعويشينة مع ابنها الذي تحثّه على شراء عبدة جديدة من السوق. تقول له:”كل الرجال يفعلون ذلك يا بني، لكن ما من رجل يتخلّى عن عائلته من أجل أمة”(ص282).لا يحق للعبدة أن تقرّر، فهي تذعن لرأي الآخر، المتحكّم بمسيرة عيشها. يغيب صوت العبدة التي لا حول لها، ولا قوة، لذلك لا نجدها تعبّر عن استيائها مما يحيق بها. كأنّ تآمرا تمركز في ذهنية ترصدت الضحية، وعدّتها الجانية. يولد العبد مغتصب الحقوق، ويعيش، ويموت مهدور الحقوق. فهل مشاعرها عبارة عن وردة يافعة معطّرة غصونها، يمكن أن يتنعم الأسياد بمنظرها، ورائحتها كلّما أزهرت، من غير أن يسقوها من براعم عطفهم، أو يهتموا بها كي لا تذبل؟! يحدّد النص المشكلة، ويشير إليها بالإصبع، مبديا بوضوح سوداوية عالم الأسياد الذين ينفّذون حكم الإعدام في البشر. يبدي ما ورد صعوبة نضج المجتمعات ما دامت ترهقها الفوارق الطبقية.

تتحدّث عيدة صديقة تعويضة عن أيديولوجيا تحقير الرجال الأغنياء لعبداتهم. تقول عن هزئهم  من وجوده:”ما من رجل أبيض يدافع عن حبّه لامرأة سوداء مهما بلغ تعلّقه بها. نحن لمتعتهم فقط… لا أحد يكترث لروح عبد وقلبه، لا أحد… شأنه شأن أي رجل يخضع لسلطة أهله ولا يستطيع مواجهتهم”(ص318). يعبّر تصريح عيدة عن تفكير يعي قيمة الإنسان، ويدرك تنكّر الأبيض لإنسانية الأسود. تطلب عيدة من العبد فهم واقعه، وانسجامه معه، وإن كان قاسيا.

وتتوفر أيديولوجيا قمع الأثرياء للعبد في النص كثيرا، وتنبني أحداثه وتتنامى من خلال هذه الفكرة. ورد:”أمّا الولد فلا قيمة له لجارية سوداء… سيؤخذ منها ويباع كرقيق أو يعترف به والده ويصبح عبدا لأشقائه البيض… لولد لن يصنع لها حماية(12)أو يمنحها مكانة، عليها ألا تنخدع بالوهم إن سمعت مرة أنّ جارية نالت حريتها بما يُعرَف بنظام “أم ولد””(ص288). ومثل هذا الرأي تؤكّده معاتبة تعويضة لعشيقها. تقول:”أنت لم تهتم لموت طفلنا لأنّه ابن الجارية السوداء”(ص337). يتحدّث النص عن ظلم مجتمع ممعن في كفره، وعن تسلط متراكم عبر السنين قادر ومقتدر، يطلق أحكاما تثقل كاهل فئات لا يعترف بوجودهم. يعكس هذا النص العالم الخارجي المشوّه الصادم، المعدوم الرحمة. لا تحظى العبدة بأي امتيازات إن أنجبت من سيدها، ولا يمكنها الارتقاء إلى بيئة أفضل، أو لنقل أنّه لا يمكنها الالتحاق بركب من يفوقونها موقعا ماديا. كل ما تجنيه العبدة من أمر تقرّب ابن الأسياد منها هي الوقوع في أحبولة القهر أكثر، أي أنّ تمسكه بها لن يكون إيجابيا، إنّما سلبيا مترعا بالخوف، ومثيرا للشفقة.

ولأنّ تبدل واقع هذه الفئة المهمّشة لم يكن نوعيا إن قارناه مع ما يحصل في عصرنا هذا، ولأنّ الأحكام التي تنفّذ بحق العبد ما زالت إلى حد ما متجبّرة، وعنيفة، وظالمة، فهذا يعني أنّ استكبار الأغنياء ما زال يقيّد العبد، ويلزمه اتباع مسارات محدّدة. وهذا يعني أنّ الظلم لم تخفت جذوته المتقدة نهائيا، لأن ّ الأثرياء لم يتنح بعضهم عن عرش تلذذهم على حساب الأجراء لديهم. وأحسب أنّ النص يتلمس امتدادات علائقية مظلمة مماثلة مستقبلا.

ويستّر الفقي على الأب القاتل لحفيده، ويروي قصة مختلفة عن “مصرع الطفل”، مستبقاً وقوع “العار والمشاكل التي لن تتوقف عن ملاحقته لوقت طويل، لن يكون أقلّها خسرانه احترام الناس له وضياع هيبته. فهناك شر القائمقام الذي سيستدعيه للتحقيق والتوقيف… سيكونون قد وضعوه في أفواه الناس حتى وإن لم تربح الجارية كما هي العادة، لكنّهم سيكونون قد استخدموها لهدمه”(ص261). يجعل هذا الاستباق الصورة واقعية أمام مدارك القارىء الذي لا شك سيستحضر حالات خبث مماثلة حصلت في مجتمعه من قبل أصحاب النفوذ والسطوة القانونية، أولئك الذين يخشون من كلام الناس تماما كما يهابون قضاء قد تمتد سطوته، وتكبّلهم قبل تدارك المشكلة.

ويتجلى ظلم العبيد من أشيائهم(13). فاللالاعويشينة السيّدة الأم حين تأمرببيع تعويضة، تروح العبدة تجمع كل مقتنياتها، فإذا بها عبارة عن “صرة صغيرة”(265). وأحسب أنّ هذه الأشياء لا قيمة لها مطلقا، لذلك لا نقرأ تفاصيل عنها، وهذا يجعل الصورة أكثر وضوحا في ذهن القارىء. تتعادل قيمة تعويضة مع أشيائها، وتتساوى أهميتهما.

ويتيح عالم تعويضة الفارغ من المقتنيات المادية لسيكولوجيتها الذاتية  أن تفترض عالما جديدا. هو عالم تستجيب له أفكارها المطواعة لمشاعرها المفتقدة لطفلها. فهو “عالم آخر مليء بالسكون…، ولا يوجد فيه سوى ملامح صندوق صغير لن يعود”(ص266). أمر طبيعي أن تستجدي ذات تعويضة ماضيها بما يحويه من آلام، الأمر الذي يتيح لها تنفس عيشها القادم بصعوبة. ترتضي تعويضة ذلك مرغمة، لتتجاوز أوقاتها المستقبلية المثخنة بالآهات، تلك التي ستخدّرها نقاء صورة طفلها المستحضرة من صندوقه الصغير.

ولا تطل تعويضة على توقعاتها من نافذة سيكولوجيتها الذاتية فقط، بل من ادراك سيكولوجيتها الموضوعية_الذاتية. فهي حين احتّجِزَت في بيت من بيوت بنات باب الله “أدركت نوعية مكانها الجديد مما سمعته من قهقهات العاهرات وجلبتهن مع الزبائن، أدركت أتّها انتهت إلى المكان الأسوأ في العالم”(ص286). يحمل ما هو موضوعي مستمد من جلبة المكان العبدة تعويضة إلى إدراك ما هو ذاتي ناتج عن تحليل الحاصل حولها في عالمها الجديد المختلف عن ماضيها، والمغاير له مغايرة كلية.

وتهرب تعويضة من جور مستغل جسدها الفقي مع طفل سفاح ساعدت في ولادته، وهي التي كانت قد تعهدت وضعه أمام باب الجامع، والعودة إلى بيت العاهرات الذي يزوره عشيقها ليبحث عنها، بعد أن تقصّى أخبارها، فلا يجدها. ونقرأ حينها رؤية العاشق السيكولوجية الذاتية، الذي راح يراقب مكان إقامتها. تقول الراوية أنّه في غرفة العاهرة الرخيصة “لم يرد أن يتخيّل حبيبته فيها مع رجل… لم يرد تخيّل تلك اللحظة التي يخدّر فيها الجسد صوت العقل…”. تتدفق وتيرة ظنون العاشق، وتدوّي مفاعيل الشك، فيتقاعس عقله، وينزوي في منطقة العاطفة، تلك التي تذكّي حضور تعويضة السيء من ازدحام أخيلة عاشق، تتفاقم أوهامه من جراء بعد حبيبين. إنّ تحليل حاجيات جسد العبدة هي التي شكّلت أوهام العاشق، فتساءل:”هل استسلمت تعويضة لرجفة جسد الفقي وسكتت؟”(ص324). يسجل استفهام العاشق رقما قياسيا في إبراز هموم الذات المترفة الشقاء، مرجّحا خفوت  العقل، لمصلحة شيطان الجسد، ودناءة حاجياته. تبدو رؤية العاشق السيكولوجية_ الذاتية هنا ميالة إلى الإيمان بفوضى الحبيبة أكثر من انضباطها، لذلك قد تفكّر أنّها خرجت عن طور إخلاصها. توجّه هذه الرؤية السيكولوجية الذاتية القارىء، وتمنحه فيض وهم بما يعانيه قلب العاشق التائه الذي لا يدرك سبيل هداية. تتمّم تلقائية الرؤية السيكولوجية مجريات الأحداث، وتتيح للمتلقي تذوق عذاب المتيّم، فتتنامى الوقائع في ذهنه بانسيابية مقنعة.

2_ندية العبد للحر:

ترضى الوالدة الثرية في الرواية أن يقضي الابن شهوته مع عبدتهم، وتحسب ذلك “سنة الله في خلقه”. وترفض أن يكتفي بمخدومته، ويتخلى عن فراشه الزوجي. وقد أوقع هذا العشق الممنوع الخادمة في فخ المحظور، فخضعت للعقاب. نظرة الثري هنا إلى محبوبته العبدة نظرة متوازية، وهي تجلّها وتستقبح سواها، لذلك يخالف أهله. تسيطر العبدة على عشيقها، فتنعدم التراتبية الطبقية بينهما، وتتفوق عليه وتشغله، وتخلع حينها عنها ثوبها الوضيع، لترتدي أجمل حلة رأتها عيناه، وتجلّى بهاها في قلبه. إذا، ذلك الاشمئزاز(ص184) الذي عهدناه من الثري حيال مخدومته يسقط، لتتألّق رؤية جديدة مغايرة ينعدم فيها الاختلاف، وترتقي المشاعر الإنسانية الممجدة للمرء، تلك التي لا يعود فيها الغني محقرا للفقير، أو مستغلا له. هل يشير ما ورد إلى إمكانية زوال التفاوت بين طبقتين متعارضتين إن توفرت الأسباب؟ لعلّ تلك العلاقة أرادت القول إنّ التفاوت الطبقي ليس حتميا، ويجوز نقضه، والخروج عنه، وتعديل أصوله. أولعل الراوية أرادت القول أنّ معالجة طقوس المجتمع، وقواعد علائقه، أو ما يسمى بالعادات والتقاليد المفرّقة بين مجموعات الناس، والمقسّمة لفئاتهم تعد ساذجة قياسا لما تكِّنه المشاعر الإنسانية.

لكن، أيمكن تشذيب أيديواوجيا العنف الموروثة عبر دمج قلوب الفئتين المتعارضتين، لتحلّ مكانها أيديولوجيا الائتلاف، فيُستَبْدَل حينها العنف باللين، والصمت بالحوار، والظلم بالرحمة، والغضب بالهدوء؟ بمعنى آخر، أتنتظر البشرية أن تعم حالات عشق مماثلة حتى تتلاشى الطبقية؟ يأتي جواب نفي الاندماج سريعا، لاستحالة سيطرة أوضاع الحب هذه بين جنسي الطبقتين جميعا. فقد أسست تراتبية الناس حسب واقعهم الاقتصادي، ولونهم، وجنسهم لذلك التمييز المتمركز في ذهنية عمياء تطلّبت من أطرافها الاجتماعيين الامتثال لها من غير تساؤل عن صحة عقائدها، أو انعدامه، لذلك لم يستنكروها بوصفها تجارة تنأى عن الأخلاق البشرية. ينطلق الأسياد من تصور متفش متعصّب، يمثل نزعة مظلمة تأبى أي شراكة عادلة مع من يحسبونه مغايرا لهم طبقيا. يجافي تصرف الأسياد في الرواية السامية، ويتصف بغوغائيته، وسوداويته المقهقرة.

وتشك عتيقة ابنة تعويضة بنزاهة علي بن شتوان ابن الأسياد الذي تجهل مقاصده، وأسباب بحثه عنها، لذلك ترفض مقابلته. لكن، يقنعها زوجها الزنجي بضرورة رؤيته لمعرفة ماذا يدور في خلده، وحينها تعلم عتيقة أنّها ابنة خاله، وأنّ لها ثروة. يظهر ما ورد أنّ أيديولوجيا الاستبداد غير متحكّمة في جميع عقول الأسياد، إذ فيهم الإنساني العادل، وهذا متأت من تغاير نظرة البشر إلى الأمور.  يبدي ما ورد ندية العلاقة بين الطرفين المتعارضين، فعتيقة تجهل هويّتها، وتتعاطى مع الحر من غير اهتمام. وحين تقرّر رؤيته تقول له:

“_ لا تخشَ علي…، فأنا لست من “الحرار” لكي يأبه الناس بسمعتي أو مسيرتي… .

_حاشاك حاشاك.

تقدّمها على حرج مفسحا الطريق أمامها للمرور. إنّه لا يودّ أن تبدأ العلاقة بينهما بهذا الفارق الذي يسعى لإخفائه ويريد التخلّص من تبعاته”(ص20).

يبدي الحوار المباشر الملحق بالسرد أنّه لا يوجد مفاهيم مطلقة يمكن أن نسوقها، فتشرح طبيعة العلاقة القائمة بين الطبقتين المتعارضتين، إنّما المسألة تخضع لطبيعة الظروف التي يعيشها المرء. ترفض عتيقة التي تعتقد أنّها ليست من “الحرار” لقاء علي بن شتوان المصر على لقائها، ثمّ تلين. يثبت ما ورد أنّ الأسياد ليسوا ظالمين جميعا.

وترفض عتيقة حديث علي بن شتوان عن إرثها من والدها(ص23). ورد: _… سأكون سعيدا لأني التقيتك قبل أن أموت وأعدت لك ما استطعت من حقك وحق أمك، اسمك ونسبك. أمّا ميراثك الشرعي فما زلت أخوض صراعا مع بقية الورثة لتحصيله بعد إثبات النسب… .

_ ما جئت للتكلّم عن ميراث، جئت لاطفىء ظمأ الحكاية… حكايتي… أنا عتيقة بنت تعويضة. حكايتي هي بعض نسبي والميراث الذي لا ينازعني في صحته أحد.

_ وبنت تعويضة ومحمد بن امحمد بن عبد الكبير بن شتوان، وابنة خالي أيضا”(ص23). يؤكّد التعبير المباشر توازي الأسمر مع الابيض، وعدم وجود أي تفاوت بينهما. تعرف عتيقة حديثا هويتها، ولا نجدها تبدي ضعفا أمام بن شتوان، كما لا تستصغر مكانتها، أو تحقّرها، لترفع من قيمته. تعتز تعويضة بانتمائها لأمّها العبدة، ولا تجد أنّ نسبها لابن شتوان سيضيف شيئا، أو سيدفعها إلى التألّق، لذلك لا تذكر اسم والدها، الأمر الذي جعل عليا يورده ليؤكّد ضرورة اعترافها به.

ولا ترضى عتيقة الحديث عن إرثها من والدها، وتقول: “ما جئت للتكلّم عن ميراث، جئت لاطفىء ظمأ الحكاية… حكايتي… أنا عتيقة بنت تعويضة. حكايتي هي بعض نسبي والميراث الذي لا ينازعني في صحته أحد”(ص22). يعكس رد عتيقة المباشر الرافض فكرة إرثها، رغباتها الكامنة في سرها. هكذا يقدّم الاستبطان ملخصا عن نوايا تعويضة، وأمنياتها الخبيئة. يشير ما ورد إلى انشغالها بأمور أخرى تجدها جديرة بالاهتمام، فحكاية نسبها هي ثروتها الأساسية. يكفي أن يقرأ المتلقي جملة “ما جئت للتكلّم عن ميراث” ليعي كيف تحلّل الأمور عتيقة وكيف تقيس المسائل. تشير هذه الجملة المستخدمة في حوارها المباشر إلى الراسخ في ذهنيتها، وإلى الكامن في لاوعيها الفردي. فما يشغل عتيقة حكايتها مع ماضيها الحافل بأخبار تتلهف لمعرفتها، لذلك كان مجيئها إراديا، ومدروسا، ومصمّما له. إذا، هذا اللقاء متأت عن وعي، وتحليل، وليس عفويا. وهذا يوضح عمق مدارك عتيقة ابنة العبدة، تلك التي عطشها لن يرويه إلا معرفتها لحكايتها التي يجب أن تجيبها عن أسئلة مغلقة لازمت ماضيها، وأرهقته. ترغب عتيقة في كشف المستور، وتتبّع أحداثه التي ستعبر منها إلى خيباتها، علّها تنظّم المبعثر منها، أو تعيد تشكيل تاريخها الفارغ من حكاياته. لا تكترث عتيقة لمال كان سببا في تعذيب أمّها من قبل فئة تعدّ نفسها الأرقى لأنّها تملكه. وانعدام اهتمام عتيقة للمال يجعل المتلقي يفكّر أنّ تربية العبدة تعويضة لابنتها كانت راقية، وبعيدة عن الطمع. ولا ندرك من خلال هذا الحوار كبرياء تعويضة وابنتها عتيقة فقط، إنّما نلمح علو شأن عبيد مثلهما لا يخذلهم الفقر، أو يسحق رفعتهم.

وإذا كانت قد شغلتنا قضية عدم التوازن بين الطبقتين سابقا، فإنّنا هنا لا نستطيع أن نزعم ذلك مطلقا. فتوازن العلاقات قائم، وهو مناقض لما عهدناه، فتعويضة التي تمثّلها ابنتها ليست في مرتبة وضيعة أمام بن شتوان، ولا يمكن أن نفترض ذلك مطلقا. فعتيقة وبن شتوان متساويان، وقابلية تبادلهما الكلام واضحة. ثمّ إنّ قدرة عتيقة على الاختيار، واتخاذ القرار المناسب لمصلحتها يلغي صورة ظلم السمر دائما(14).

 

3_مراحل عيش تعويضة:

تبدو الطبقية سمة المجتمع في النص، لذلك لا يمكن حدها، أو السيطرة عليها بشكل حضاري فعلي. يطيع المستضعف الأقوى، متمزّقا من إجحاف يسحق قدراته يوما إثر يوم. وقد تعرّضت تعويضة نتيجة ظلمها لمراحل صعبة أربعة رئيسة في حياتها، ألا وهي:

_ مرحلة أولى: خدمتها لأسيادها.

_ مرحلة ثانية: حجزها(15) مع طفلها وتعذيبهما.

_ مرحلة ثالثة:احتجازها في بيت الدعارة، وعزلتها(16).

_ مرحلة رابعة: إقامتها في زرايب العبيد.

وهي في جميع المراحل لم تستطع التحرّر كليا من قيد الأسياد الذين ظلّ وجودهم مهدّدا لحركتها، وقد تكلّلت حياتها كلّها بالمعاناة. عاشت بداية عند أسيادها الذين كانت تخدمهم في منزلهم. و تبدّت أيديولوجيا خنوعها في أثناء ذلك، فقد كانت تنفذ الأعمال المنوطة بها، مسقطة أمانيها تحت أعباء خدماتها، لتلبي حاجيات من آواها. لم يكن لديها مقابل لجهودها سوى الاستمرار في الحياة(17)، وهي التي دفنت جزءا من حياتها تحت التراب، أو أجهضته في حمّام الدم. إذاً، كان عليها أن تكون آلة لا تعرف العطل أبداً، وإلا انزلقت إلى الهاوية أكثر.

وتتبدى أشد أنواع القسوة في المرحلتين الثانية والثالثة. فقد احتجزها الأب والد عشيقها، وربطَها “من يديها في سقف الحمّام…ثمّ أغلق عليها وعلى طفلها باب… مهددا من يحاول مساعدتها بحشره معها”(ص254). وأدى احتجازها، ووضع حد بينها وبين ابنها الماثل أمام عينيها إلى وفاته.

ويحتكر الفقي تعويضة في المرحلة الثالثة، وتصيب رطوبة الحجرة رئتيها بمرض، فتعاني من صعوبة التنفس. تنتقل من واقع سيء إلى وضع أسوأ، ف”تعويضة محتجزة” في بيت من بيوت العاهرات. ويعني الاحتجاز الإرغام على الإقامة، والحبس، والإجبار على البقاء في مكان لا يتمتع بمواصفات صحية أوأخلاقية، وهنا تكمن المشكلة.

ونقرأ عن الرؤية السيكولوجية الموضوعية_الذاتية في الرواية: “كأنّ استسلام الإنسان لمحنته يمنحه مناعة ضد التأثّر بها. ما كانت تبكي منه لم يعد يبكيها، وما كانت تستاء منه لم يعد يسيء إليها”(ص302). حين يستسلم الإنسان لمحنته الموضوعية، ويمتد استياءه ليشتدّ عذاب ذاته، فيروح يتكرر بكاءه، يعني أنّ أمر قبول الظلم بات اعتياديا، لذلك لا ينتظر الأفضل مطلقا، فيستقبل قهراً، وقد يحضنه  مع صنوه السالف.

واختارت العزلة في المرحلة الثالثة التي أرغِمَت فيها على ممارسة البغاء مع الفقي وسواه. كانت تعويضة في بيت العاهرات “كل همها… الانكفاء بعيدا عن أيّ حدث وكأنّها غير موجودة في هذا العالم… تريد تعويضة أن يتحقق لها الغياب عن المكان التي هي فيه ويموت إحساسها بثقل الزمن… بين أركان الحجرة الرطبة خضعت للإجهاض… طبقت التعليمات لتتخلّص من الضرب والإجهاض القسري… كانت تزداد صمتا وإعياء وعزلة”(ص302). تتنامى رغبتها في القوقعة أو العزلة، وتختارها سبيلا يقيها شر الآخر الذي لا يفكّر فيما سيشيعه عهره في ذاتها من قلق واضطراب. ويعدّ هذا العزل المنتقى من قبل الذات المظلومة مقنعا، يساهم في إشاعة جو الحزن في ذات المتلقي.

لقد أساءت المرحلة الثانية إلى مشاعر الأمومة، وسحقتها. كما شوّهت المرحلة الثالثة طهر تعويضة الروحي، ونقاء مشاعرها، تلك التي كانت دروبها لا يستوي هناؤها إلا مع عشيقها.

احتُجِزَت تعويضة، أو عزلت نفسها في المرحلتين الثانية و الثالثة، غير أنّها اختارت في المرحلة الرابعة مكان إقامتها، فتلاشى تهديد الأسياد إلى حد بعيد، والتقت مع رخاء اللحظات مجدداّ، وإن ظلت مرتدية ثياب الفقر.

ما يميّز المرحلة الرابعة المتمّمة لمرحلة الفقر الشاقة التي عاشتها سالفاً أنّها كانت اختيارية، وبعيدة عن تسلّط الأسياد، ومن يؤيّد مواقفهم ويتمّم قسوتهم. لم تنظر تعويضة في هذه المرحلة نظرة منسدلة خاضعة، لأنّها لم تخضع لأوامر أحد. وقد كان القهر في هذه المرحلة أقل وطأة، لأنّها تلمّست سبل الاحتياط، فاستبدلت اسمها، وادّعت أنها العمة صبرية، وليست أم عتيقة بن شتوان.

الخاتمة:

يريد النص أن يبصر القارىء مأساة عبيد عاشوا في أطراف مدينة بنغازي في مطلع القرن العشرين. ويتتبع السرد ترويع العبدة تعويضة بروية، ويقنع بطاغوت الأب بن شتوان المستبد، كذلك الأم المجرمة. ويغمز أيضا من حقارة ابنتهما التي تفكّر في مصلحة اخيها، بمعزل عن مصلحة العبدة المستغَلة، وإنسانيتها، وذلك من خلال الحوار المباشر الملحق بالسرد. ويكشف السرد عن مشاريع مناني الإجهاضية، المتواطئة مع الأم. فمناني تتقبّل سوء خلق زوجها، وابنها برحابة صدر، وتعالج قذارة حمل خادمتيها منهما بروية، مقرّرة إجهاضهما. وهذا يشكّل فهما لدى المتلقي عن طبيعة ذلك المجتمع الرخيص الذي يبدو أنّه اعتاد تلك العلائق.

ويكشف التواتر التكراري النمطي القناع عن عقلية قذرة متوارثة محقّرة للعبدات اللواتي يبتن ملجأ تنفيس رغبة الرجال الأحرار.

ويساهم الاستباق في إشاعة وحشة غياب تعويضة عن عشيقها، وخوفه من غيابها عنه. كما يوضح سوء واقع العبيد الذين يؤرّقهم مصيرهم المجهول. ويدلّ الاستباق أيضا على خبث الأثرياء الأحرار الذين يخشون محاكمتهم من قبل المجتمع، أوالقانون، وهذا يجعل القارىء ينفذ إلى وجوه رجال يعيثون فسادا في مجتمعنا المعاصر.

وتيسّر الرؤية السيكولوجية الذاتية للقارىء فهم حالة الرعب التي تتلبّس العبد، وتلزمه على البقاء في خدمة من يعذّبه.

وتبرز تراتبية المكان تلك الهوة الشاسعة القائمة بين الأسياد وعبيدهم.

كما توضح أيديولوجيا عنف الأب مدى عذاب العبيد، وتحقير مشاعرهم الإنسانية. وتدعم أيديولوجيا إجرام الأسياد قاتلي أبناء رجالهم من جواريهم، ودفنهم مضمون النص، فتؤدي إلى إدانة ممارسات الأثرياء الإرهابية.

وأحسب أنّ ابراز أيديولوجيا قسوة الأب، والأم الواضحة من تصرفاتهما، وأقوالهما غايتها حث المتلقي لينهض ويثور ضد ما تلقاه هذه التعيسة تعويضة، وأمثالها، الأمر الذي يحفّزه على عقد التزامات ضمنية معها، قد يترجمها سلوكه، فيفكّر في اتخاذ خطوات تخفّف معاناة أمثالها، أو تحدّها. يتحقّق ذلك بعد أن يتجسّد الدليل الوهمي الروائي حقيقة أمام عينيه، وتتكوّن لديه اعتبارات توقد إنسانيته.

أحسب أنّ أيديولوجيا النص الإصلاحية تعي أنّ تذمر مفكري المجتمع القلة من الواقع الظالم قد لا يلغيه. لكن، قد تفكّر أنّ كشف الحقائق سيضيء شعلة تنير طريقا مظلمة. هي إضاءة ستحقّقها العقول التي ستدرك خلل واقعها، وعقم رؤاه، فتساعد على تنقيته. إذا، صفوة المدارك ستبرم عقودها وفق نمط يحوي بنودا جديدة جدية إنسانية.

صحيح أنّ تلاقح قلبي تعويضة وسيّدها يعدّ أمرا استثنائيا، أو نادرا. وصحيح أيضا أنّه يستحيل أن تتوازى نظرة الناس جميعا إلى بعضهم، لأنّه لا يمكن أن يملك الجميع نفس الرتبة، وأن يؤدوا نفس العمل، وان يجازوا بنفس القدر، غير أنّ ذلك لا يمنع من أن يحظى الكل براحة تتوازى مع إمكانياتهم، وعطاءاتهم، وأن يتكلّل انتاجهم بالدعم، والحب، فتنشأ المغفرة حين يجب. إذا، أحسب أنّ النص يتضمّن أيديولوجيا تدعو إلى ضرورة التوازن الطبقي.

وتضعنا أشياء تعويضة في منطقة فقرها، فنعي قسوة عيشها، ورداءته. كما تميل بنا أشياء تعويضة نفسها إلى رؤيتها السيكولوجية الذاتية، تلك التي تبدي مدى تقبّلها مأساتها. وتحملنا أيضاً سيكولوجية تعويضة الموضوعية_الذاتية إلى عذاباتها المتلاحقة، والمتفاقمة.

كما تنقلنا رؤية عاشق تعويضة السيكولوجية الذاتية إلى وتيرة ظنونه بها. فهو يرجّح دناءة رغباتها، وخفوت رجحان عقلها من أجل راحة غرائزها، وشريعة الجسد الغابية.

وتبرهن ندية العبد للحر المستمدة من أيديولوجيا النص كيف أنّ القلب ينظّم أساليب عيش مغايرة للمحيط السائد، فترتقي بذلك الإنسانية، وتتفوّق على ما عداها من مصالح.

وتمكّننا مراحل عيش تعويضة من فهم أبرز نقاط تحوّل حدثت في حياتها، الأمر الذي يتيح تتبّع مدى إجحاف العبيد حقوقهم. فقد أوضح الاحتجاز الذي خضعت له أكبر مأساة يمكن أن تصيب المرأة في حياتها، فقد توفي ولدها أمام عينيها. ولا يمكننا ان ننسى عزلتها التي اختارتها تعويضة في بيت العاهرات هربا من قذارة محيطها، الأمر الذي يؤكّد رفعتها، وحبها لرجل واحد، مخالفة بذلك شكوكه الاستباقية.

يبدو أنّ التسليم بتلك الفوارق الطبقية هو أمر اعتيادي، وليس هناك سعي حثيث لعملية التعاطي مع الموضوع بشكل مغاير.

تتعذّب تعويضة الخادمة في رواية “زرايب العبيد”، كما تتعذّب خادمة رواية “ساق البامبو”، تلك التي تبادلت العشق مع سيّدها، وأنجبت منه صبيا. لعل ما ورد ينبه من وعورة علاقة يمكن أن تنشأ بين طرفين متعارضي الانتماء الطبقي.

تتزحلق تعويضة، وخادمة “ساق البامبو” نحو هوة العيش السحيقة حين يكتشف أسيادهما علاقتهما العاطفية العميقة مع ابنيهما، وهذا يوضح مقاييس المجتمع الثري، التي يصعب اختراقها من قبل العبيد الضعفاء. إذ كان من المفترض أن تكون حالات التواصل بين الأسياد الذكور وعبداتهم في رواية “زرايب العبيد” مؤقّتة، ولمجرد قضاء لذة، لذلك لا يجوز أن يعقبها أي التزام من قبل الرجل. هي علاقات عابرة لا تؤسّس لزواج، ويجب أن تنتهي مع تواري الشهوة.

(*)أستاذة جامعية  lamis_haidar@hotmail.com

1_ نجوى بن شتوان، زرايب العبيد، بيروت، دار الساقي، ط2، 2017.

2_سعود السنعوسي، ساق البامبو، بيروت، الدار العربية للعلوم، ط5، 2013.

3_حازم صاغية، أنا كوماري من سيريلانكا، بيروتن دار الساقي، ط1، 2013.

4_ لميس حيدر، الهوية والبعدان الطبقي والفكري في رواية “ساق البامبو” (بحث)، مجلة المنافذ الثقافية، بيروت، دار العودة، ع 8، خريف2014.

5_ المستوى التعبيري(Phrasiologique):

يُعنى هذا المنظور بأساليب التعبير، التي يستخدمها الراوي في خطابه، الذي تتحكّم به صيغتان أساسيتان، هما:

أ_ السرد ((Narration.

ب_العرض (Représentation).

يكون المؤلّف في الصيغة الأولى مجرد شاهد، يقدّم الأحداث، من غير أن تتكلّم الشخصيات. أمّا في الصيغة الثانية، فتهيمن أقوال الشخصيات في أثناء جريان الأحداث .بمعنى آخر تكون صيغة الخطاب المسرود (Narrativisé) عبر مراقبة الرّاوي الكلية، أما صيغة الخطاب المعروض، فلا وجود للراوي فيها.

ويفرق النحو التقليدي بين أسلوبي التعبير المباشَرُ (=المنسوب)((Rapporté، وغير المباشر (=المنقول) (Transposé)، اللذين يتصف الأوّل منهما بتقديمه خطاب الشخصيات بحرفيته، بينما يعمد الثاني إلى تفسير الكلام.

ويبقى أن نذكر التناجي، أو المونولوج، وهو “خطاب تلقائي، شبيه بالأسلوب المباشر غير المنسوب”.

_ Percy Lubbock, the Graft of fiction, London, Janathan cope, 1954, p251.

ولمزيد من المعلومات راجع :  _ سيزا قاسم، بناء الرواية،  بيروت، دار التنوير، ط1، 1985، ص218 و219.

_ Wolgang  Kayser , Qui raconte le roman, in poétique du récit, éd du seuil, 1977, p71.

_T. Todorov, Les catégories du récit littéraire, in “communication” n°8, Seuil 1966, p143.

_سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط2، 1993، ص178.

_نبيل أيوب، التعبير منهجيته وتقنياته، بيروت، دار المكتبة الأهلية، ط2، 2001،ص 149.

6- يقول تعالى في كتابه العزيز:”وَمَن يقتُل مؤمنا متَعَمِداً فجزاؤهُ جهنَّمُ خالداً فيها وغضِبَ اللهُ عليه ولعنَهُ. وأعدَّ لهُ عذاباً عظيماً”سورة النساء، آية 93.

7_ التواتر التكراري النمطي  فيه الخطاب الواحد يحكي مرة واحدة أحداثا عديدة لكن متشابهة.

Genette. Gérard,  figures III, paris, Seuil, 1972.P.139-140.

8_الأيديولوجيا هي المبادىء الّتي يتحلّى بها الفرد ، فيتصرف وفق خطتها، ويسعى لتلبية شعاراتها. وقد عرّف ناصيف نصّار الأيديولوجيا قائلاً :”نمط من أنماط التفكير الإجتماعي… ينزع طبيعياً إلى أن يهيمن على الأنماط …الأخرى التي يتفاعل معها”.

ناصيف نصّار، الأيديولوجيا على المحك، فصول جديدة في تحليل الأيديولوجيا ونقدها، بيروت، دار الطليعة، ط1،1994 ،ص6.

ولمّا كانت الرواية هي موضوع دراستنا، فهذا يعني أنّها تحوي شخصيات لها أيديولوجيتها الّتي قد تتآلف مع غيرها من الأيديولوجيات، أو تناقضها. ولأنّ الراوي هو المحرك لنمو القص، فهذا يعني أنّه المتحكّم بأيديولوجية الشخصيات الواردة في عمله الروائي. وبالتالي، فإنّ للنص الروائي أيديولوجيا يمكن إكتشافها من سياق القص العام بعد أن ينزاح قناع الراوي المحايد. في الواقع إنّ تحليل الأيديولوجيا في الرواية، أو تأويلها، أو افتراضها بالمقارنة مع العالم الخارجي بشكل دقيق قد يؤدي إلى الإنزلاق في الخطأ، فالراوي وهو يرقب المجتمع، يبني عالمه الروائي بشكل يتوافق ورؤيته الخاصة، لذلك يبقى لنتاجه خصوصية تميّزه عن الأصل.

يمنى العيد، الكتابة تحوّل في التحوّل، بيروت، دار الآداب،  ط1، 1993، ص9.

للمزيد من المعلومات راجع : لميس حيدر، جريدة الأنوار، المستوى الأيديولوجي في رواية “الجبل الصغير”،ع 16134، بيروت، الجمعة 9 حزيران 2006.

9_ الاستباق(Proplese) يقدّم أحداثا لم تحصل بعد.

Genette. Gérard,  figures III, P.105_114.

وتودوروف، الشعرية، المغرب، دار توبقال للنشر، ط2، 1990، ص148.

 

10_تجلو التراتبية تفاوت الأمكنة من حيث تقسيمها أو توزيعها إلى فئات مختلفة.  فهي عبارة عن “عدة طبقات أو فئات مكانية وفق مبدأ تراتبي معقد ومشكوك في مراميه”.

حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990، ص41.

11_ يقول أوسبنسكي في هذا المجال:” عندما يصوغ الكاتب بناءه القصصي يختار بين طريقتين: فهو يستطيع أن يبني أحداثه وشخصياته من منظور ذاتي من خلال وعي شخص ما (أو عدة اشخاص) أو أن يعرض الأحداث والشخصيات من منظور موضوعي، أو بمعنى آخر يستطيع أن يستخدم معطيات إدراك وعي (أو أكثر) أو يستطيع أن يستخدم الوقائع كما هي معروفة له.

Boris,Uspenki. A poetics of composition , the structure of Artistic text and typology of a composional from, trans. Valentina Zavarin and susan Witig, Berkeley .  University of California Press, 1973, P.81.

12_ المقصود الأم.

13_ الأمكنة بما فيها تعبر عن تفكير الشخصية، ووضعها الاجتماعي والنفسي. يقول بوتور: “إنّ للأشياء تاريخا مرتبطا بتاريخ الأشخاص”.

ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، منشورات عويدات، بيروت، ط1، 1971، ص 17، و54.

خالد حسين حسين، شعرية المكان في الرواية الجديدة، الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، 1421ه ص145.

14_عتيقة”لست من الحرار”،و متزوّجة من زنجي، وهي جلدها أسمر.

نجوى بن شتوان، زرايب العبيد، بيروت، دار الساقي، 2016، ط2، ص20، و12.

15_- الحدود واجتيازها:تعني الحد الفاصل القائم بين مكانين مختلفين، لذلك يجد المرء نفسه موجودا في موضع، يستحيل عليه اجتيازه. ومحاولة الانتقال قد تعرّض المرء لأمر ما قد يتوقعه، أو قد لا يفكّر فيه البتة.

– سعيد يقطين، قال الراوي، ص243.

ويقول خالد حسين حسين، وقد ” وضعه السيميائي الروسي يوري لوتمان والحد هو “الخط الأحمر” الذي يفصل بين مكان وآخر، وهو يشكّل الإنذار الذي يحذر به مخترق المكان أو في نيته فعل الاختراق”.

خالد حسين حسين، شعرية المكان في الرواية الجديدة، ص145.

16- القوقعة:يختار الإنسان العزلة خوفا من الناس، الذين يرى أنّهم قد يشكّلون خطرا على هدوئه، أو قد يحوّلون عيشه من الرتابة إلى الضجيج، أي قد يصعّبون عليه طريقة حياته أو يعقّدونها. تخلق الخشية من الآخر في ذات المتقوقع رغبة في الانفراد. ويمكن تقسيم القوقعة إلى قسمين، هما: مجردة، ومحسوسة.

سيزا قاسم، البناء الروائي، ص166.

17_ يقول الشاعر شوقي بزيع في قصيدته الموسومة بعنوان “عزلة الخادمات”: “لا يَتُقْنَ إلى أيِّ شيء/لأنّ متاع الحياة/ التي صُمِّمَت دونهنَّ موائدُها/ في البيوت الجديدةِ/ أحضرْنَهُ معهنّ بكامل عُدّتهِ/ ثمّ أفرغْنَهُ…/ وأَوَيْنَ إلى غرفٍ/ لُفِقَتْ بغتة لاحتضان عذاباتهنَّ/ عند قفا البيت/… أو في مكان مَواتْ”.

شوقي بزيع، إلى أين تأخذني أيها الشعر، بيروت، دار الآداب، ط1، 2015، ص126.

د. لميس حيدر:
_ دكتوراه في اللغة العربية وآدابها؛ عنوان الأطروحة: تشكّل العالم الرّوائي عند حسن داوود حتى العام 2000
_ دبلوم دراسات عليا؛ عنوان الرسالة: تحقيق (تعليقة لطيفة) للشرف الأيوبي الأنصاري
_ أستاذة في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية
_ كتبت عدداً من القصص القصيرة والأبحاث الأدبية.
_ صدر لها رواية “ناي لعصفور الجنة”، ومجموعة قصائد شعرية.

شاهد أيضاً

الدكتورة هبة العوطة: دراسة حول رواية “والهة على درب زينب”

دراسة حول رواية “والهة على درب زينب” الدكتورة هبة العوطة* بسم الله الرحمن الرحيم ،والحمدُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *