تقديم
بقلم علي مهدي زيتون
لعلّ القضيّة الأولى التي تثيرها مجموعة يحيى الإمام الشعريّة الموسومة بعنوان “أما ليد لا ترضى اليباس”، هي علاقة الشاعر بالمتلقي، ونجاح هذه العلاقة هي المؤشر الأساسي لنجاح القصيدة. لا يمكن لشاعر، مهما علا أوسه، أن يكتب قصيدة من دون الحضور القبلي للمتلقي الذي يتناسب مستواه الثقافي مع مستوى تلك القصيدة. ذلك أن الحضور القبلي هو المؤسّس القويّ للكتابة. تختل هذه العلاقة إذا فرض القارئ، لسبب غير فنيّ، على الشاعر ما يقول، أي أن تتعالى قاعدة المسايرة فتخترق رؤية الشاعر، وتحدّد لها ما ترى.
فالشعر، أولاً وأخيراً، أسلوبٌ من أساليب القول قائم على ثلاثيّة. تبدأ برؤية الشاعر إلى العالم، أعني بها ثقافته، وتمرّ عبر العالم المرجعي، أعني به المادّة التي تشكّل موضوع القصيدة، لتنتهي باللغة التي يعبّر بها عن العمق الذي التقطته الرؤية من بين أعماق العالم المرجعي. وإذا كانت الرؤية بصمة لا تماثلها بصمةٌ أخرى، فإنّ العمق الذي نفذت إليه هو عمق خاصّ بهذه الرؤية، في اللحظة التي توجّهت بها إلى تلك المادّة. وتأتي اللغة، بناء على هاتين المقدّمتين، لتمثّل خصوصيّة وتفرّدا هو رأس مال الشاعر. كيف لا، ولا يكون الشاعر شاعراً إذا لم يكن التفرّد سمة قصيدته المحورية.
ولئن مثّلت هذه الثلاثيّة الرأي العلميّ في الشعر، فإنّ وضعيّة المتلقّي ومستواه الثقافي من جهة، واللحظة التاريخيّة السياسيّة التي قيلت فيها القصيدة من جهة ثانية، سيكونان عاملين حاضرين في تحديد البُعد الوظيفي للنصّ الشعري. وإذا هدفت القصيدة، وهي مكتوبة لملتقٍ، إلى أسر ذلك الملتقي إلى عالمها، فإنّ نجاحها متمثّل بالانخطاف الذي يشعر به حين يستمع إليها. وغياب مثل هذا الانخطاف يعني غياب القصيدة نفسها، تكون محض تكلّم.
ويبقى أن قصيدة يحيى الإمام هي التي استدعت هذه المداخلة النظريّة. ذلك أن قصيدته تنتمي بقوّة إلى ما كنّا نصفه بالشعر الملتزم الذي يقوم على تحريض المظلوم وعلى التشهير بالظالم. فحرارة الاندفاعة التي عرفها شبّان الستينات والسبعينات من القرن المنصرم جعلتهم لا يستسيغون أيّة قصيدة لا تشكّل القضايا الكبرى سمتها الأساسيّة : من تحرير فلسطين، إلى الوحدة العربية، إلى العدالة الاجتماعية. وإذا ما بقيت هذه القضايا الثلاث حلماً بقطع النظر عن مدى محافظة هذا الحلم على فعاليته وحضوره، فإنّ رجالاً مثل يحيى الإمام، ولو كانوا قلّة، ما زالوا قابضين على جمر هذه القضايا.
كيف لا، وعنوان مجموعته “أما ليد لا ترضى اليباس”، تعبيّر قويّ عن ثقة الشاعر الكبيرة بقضيّته، وغمزٌ واضح من قناة الكثيرين الذين تسرّب الإحباط إلى نفوسهم، وغزا الركون والوهن عقولهم؟ فالمسألة بالنسبة إلى يحيى قرار. إمّا أن ترضى اليباس فتسقط، وإمّا ألاّ ترضاه فتكون مقاوماً حقيقيّاً للزمن الصعب وللمناخ الصحراوي المنقضّ على الأما ليد قاصداً إيباسها.
ويأتي إهداؤه المجموعة إلى والده الشهيد المجاهد سليمان الإمام ليشكّل إشارة واضحة إلى عدم رضى يحيى باليباس من ناحية، وإلى تفرّغه ليتحمّل الأمانة التي خلّفها له والده شهيدُ الدفاع عن عروبة فلسطين من ناحية أخرى. كيف لا، والأب الشهيد هو أحد الفدائيين الأوائل الذين عبّدوا الطريق إلى فلسطين الحبيبة.
وهو حين يخاطب والده ساخراً من النظام الرسمي العربي.:
أمّا بعد فقد نصر اللهُ العربا (ص 8)
فإن سخريته هذه مفعمة بالاحتقان الذي يضمر رسائل حزينة يتآكلها القهر متعدّية إلى الحاكم العربي المتخاذل من جهة، وإلى الإنسان العربي من جهة ثانية، علّها تنفذ إلى أعماق وجدانه فتحرّك ما ترسّب فيه من حماس للقضيّة. وأكثر ما يوجع في خطابه إشارته إلى انقلاب المقاييس.
أمّا أنت فسوف يحاكمك التاريخ؛
لأنك أورثت الإرهاب لجيل يحترف الغضبا…
أمّا أنت فسوف يعاقبك القانون؟
لأنّك علّمت الأغوار دروساً في التخريب (ص 8)
ولا يملك القارئ دمعته حين يستمع إلى يحيى وهو يقول:
الآن جوادك في العرقوب يحنّ إليك…
يغار عليك..
يسأل عنك وفود الصلح ولا يخجل (ص 9)
ولئن كانت هذه القصيدة وجدانية بقدر ما هي ملتزمة ،استطاعت أن تحكّ الذات على محك قضيّة الأمّة الكبرى، فإنها كانت خطاباً موجها إلى الضمير العربي يطالبه بتحديد موقف من الثنائيّة الضديّة: (النظام العربي المستسْلم المتآمر/ القضيّة الكبرى وشهداؤها). لقد كانت هذه القصيدة صرخة في هذا الفضاء العربيّ الموبوء، صرخة ما زالت مؤمنة بقوتها وبقدرتها على الفعل. هي صرخة مقاومةٌ لإمكانية يباس الأما ليد.
ولئن كانت الخطابيّة هي النمط السائد في قصيدة يحيى الإمام، والخطابيّة نمط أسلوبيّ متسّق مع مذهب الالتزام الشعري الحريص على تثوير القارئ، إلاّ أن خطابيّة القصيدة اليحيويّة غير غارقة في المباشرة التي تقوم على نظم ايقاعي لأفكار وشعارات معروفة مسبّقاً. هي خطابيّةٌ الشعريةُ سمتُها الأساسية، خصوصاً أنّ الشاعر لا يتوجّه إلى المتلقي بالخطاب، يتوجّه به إلى جهة تعنيه وتعني متلقّيه. يخاطب القدس قائلاً:
قومي لأجل محمد وتوضّئي من دمع غزّة أو غدير دماكِ
وتضرّعي ليعيش طفلٌ ثائر حافٍ يدوس اللؤم في الأشواكِ
لقد خرجت دعوتُه القدسَ إلى الوضوء بالقدس من هويتها الوضوعية بوصفها مدينة ليجرّد منها فارساً مسلماً مستعدّاً للنزال. وهذا الوضوء لم يكن وضوءاً عادياً. كيف لا، وماؤه دمع غزّة ودم القدس نفسها؟ إنه وضوء ثوريّ مقاوم. لقد حُمِّلت الخطابيّة، هنا، من الايحائيّة الشعريّة ما حُمِّلت. وينتقل يحيى بالخطابية نقلّة جديدة متوغلة في دنيا الشعريّة، عندما يطلقها على لسان طفل مقدسيّ ثائر يسير إلى الموت بعين لا يرفّ لها جفن. ويموت ثم يقول: لا يا سارقا مني تراب القدس لست بباكِ
سأعود ثانية وأحمل رايتي يا قدس أفدي بالدما أقصاكِ (ص 15)
لقد انشقت الخطابيّة، عند يحيى، عن أصلها الذي كان لها في سبعينات القرن الماضي، جافت المباشرة، لتعبّر بلغة شعريّة رائقة، عن رؤية يحيى إلى قضيّة القدس، وإلى قضيّة الرجال المستشهدين بين يديها. لقد ساق التركيب الموت ليصبح حياة، حياة ناطقة تمثّل وقفة عزّ أومأت إليها الكناية اليحيويّة: (يا سارقاً ـــ مني تراب القدس لست بباك)، فتبدّت موقفا شديد الصلابة يحتار الذهن في تصوّر أبعاده.
ولا يقلّ خطابُه السيد حسن نصرالله شعريّةً عن خطابه القدس. وكان كنزك وعدا صادقاً، فأنا قد صرت ألمح في مسراك طيف أبي (ص 42).
ذلك أن صدر البيت لا يمثّل خصوصيّة نصرالله الجهاديّة، بقدر ما هو تعريض بمالكي الكنوز الذين اتّهموا وعده الصادق بالمغامرة، قصد تشويه الحقيقة لصالح العدو الإسرائيلي. والكناية في عجز البيت لا تعبّر عن حال وجدانيّة خاصة بيحيى ابن الشهيد الذي قضى على درب القدس، بقدر ما تقرأ بعين الغيب الدرب الذي اختطّه سيّد المقاومة والذي سيوصل حتما إلى القدس .
ولئن حملت خطابيّة يحيى هذا القدر من الشعريّة، فكيف بقصائده التي تجاوز فيها تلك الخطابيّة، خصوصاً في قصيدته الخاصة بالشيخ الشهيد المجاهد أحمد ياسين. فما أحيلى ذلك التساؤل الذي يفيض شعراً على لسانه:
من قال: الشيخ الثائر ماتْ؟
فالشيخ يطوف على الأمصار على صهوة تلك الغيماتْ (ص 23).
إنّ الاستفهام الانكاري الذي عمر به السطر الشعريّ الأول، لا يستدعي إجابة، ولكنّه يطرح مسألة دقيقة عبر إعادة التعريف بمعنى الموت. يلفت الانتباه إلى موت هو الحياة، موتٍ يسبغ الاستمرارية على مفاعيل الشهادة ، فيجعلها عابرة للزمان . والصورة التي أعقبت ذلك الاستفهام (فالشيخ يطوف على الأمصار على صهوة تلك الغيمات)، إنّما ترسّم لنا الشهادة فعلاً عابرا الحدود، مبشرّاً بالتغيير الذي يعود بالخير العميم على فلسطين وعلى الأمة.
يبقى أننا أمام شاعر واعد. أنبأتنا مجموعته الأولى بثقافة وطنية عميقة، وموقف إخلاقي راقٍ قدّماه حمّالَ همّ، ملتزما. وهي ثقافة، وإن طرحت على التردي العربيّ أسئلتها المرّة، فإنّها قد طرحت على ثقافة العصر اسئلتها الأخلاقية والوطنية المرّة نفسها. اسئلة لم تستطع الإجابة عنها سوى تجربتي غزّة وجنوب لبنان. وشاعر هذه وضعيّته مطالب بامتلاك ثقافة نقديّة أدبية تناسب موهبته واخلاقياته، فيتجاوز الخطابية إلى ما بعدها، ليجعل من قصيدته سؤالاً محرِجاً يُطرَح على ثقافة العصر، فلا تستطيع الإجابة عنه.