قراءة في رواية مها خير بك ناصر «أحبّها… ولكن»
بقلم علي مهدي زيتون
مها خير بك ناصر أكاديميّة اختارت لنفسها موقعًا يسعى إليه أيُّ أستاذٍ جامعيٍّ يحترم الحِرفة التي اختارها. وهي في موقعِها ذاك رقمٌ قويٌّ على سُلَّم الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية.
وأختي مها إلى أكاديميّتها المرموقة هذه شاعرة وروائية. تتحرّك في أخطر المواضع بين الكتابة الإبداعية من جهةٍ ، وبين نقدها من جهةٍ أخرى. والذين رَادوا مثل هذه المدارج الصعبة قليلون. نجح بعضهم ناقدًا وتعثّر أديبًا، وحاز بعضهم الآخر قصبَ السبق في دنيا الأدبية، ولكنه لم يستطع التحليق في سماء النقد.
وضعت مها خير بك ناصر نفسها في التجربة الصعبة، ومدّت جناحَيها طليقين يغالبان الريح. وروايتها الموسومة بعنوان «أحبّها… ولكن» نتاجٌ من نتاجاتها الإبداعيّة التي نذرت نفسها لتلك الريح. وهذا العنوان المتشكّل من كلمتين تفصل بينهما ثلاث نقاط، عنوان يدفع المتلقي إلى كثيرٍ من الأسئلة، فالجملة الخبرية (أحبّها) القائمة على فعل وفاعل ومفعول به، هي إعلانٌ عن موقف شعوريٍّ من أنثى.. فالهاء المشفوعة بالألف (ها) إشارة شديدة الوضوح إلى وجود أنثى يتعدّى إليها الفعل (أحبّ). وإذا كان المفعول به منتميًا إلى مناخ أنثوي، فإن الفاعل غير معروف الانتماء، لأنه ضمير مستتر يمكن أن يكون (هو) مثلما يمكن أن يكون (هي)، ما أدرانا؟.
ويعني ذلك، أن الفعل (أحبّ) فعل احتمالي يمكنه أن يكون قد أقام علاقة بين ذكر وأنثى، أو أن يكون قد أقام علاقة بين أنثيين وليست العلاقة الثانية كالعلاقة الأولى. فإذا كان رأسمال الثانية علاقةً شبيهة بالعلاقة بين أختين، فإن رأسمال الأولى احتمالي، ومتعدد . وتترك هذه الاحتمالية المتلقي فريسة لفرضياتٍ متعددة تضعه على سكّة الانتظار، انتظار المتن لمعرفة طبيعة الفاعل من جهةٍ، ومطاوي الفعل من جهةٍ ثانية. ودفعُ المتلقي إلى الانتظار لا يقدم الكلام كلاماً بنائيًّا فحسب، ولكنه يقوم بعملية التشويق التي هي تقنية حكمَت الرواية ردحًا طويلاً حتى تجاوزتها إلى بنائية تراكمية تقوم على سببية نفسية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو على سببية تجمع كل هذه المقوّمات. واعتماد الرواية الحديثة على مثل هذه السببية لا ينفي استمرار وظيفة التشويق التي تدفع بالقارئ إلى استكمال القراءة، وهي بسبب ذلك وسيلة من الوسائل التي يلجأ إليها الكاتب للإمساك بالقارئ وإدخاله إلى عالمه. وتمثل هذه السيطرة لذّةَ الكاتب في ما يكتبه مقابل لذة المتلقي التي تقوم على التوغل والاستكشاف داخل الخطاب الأدبي، فتجعل منه شريكًا في التأليف. ولعلّ اجتماع اللذتين في نتاج أدبي واحد هي العلامة الأرقى على النجاح، خصوصاً إذا كان كلٌّ من الكاتب والقارئ مثفقين من طراز عادي.
وجملة (أحبّها) الخبرية ، على كل حال، لا تثير سؤال جنس الفاعل فحسب، ولكنها تتعدّى (فائدة الخبر) إلى لازمة أيضاً، خصوصاً أن الاستدراك بـ(لكن) يتعدّى إلى تلك الجملة الخبرية، فيفتحها على احتمالات كثيرة. ما الذي يُستدرك داخل حقل المحبّة؟ يضع ذلك المتلقي وسط غموض تشويقي يجعل من انتظاره انتظاراً قائماً على شيء من الاحتقان. هل هناك حائل دون هذا الحب الجميل؟ ما الذي يجعل من حب جميل أمرًا غير قابل للتحقق؟ ما الذي يعطّله؟ ما الذي يجعله منغّصاً؟
يقدّم الدخول إلى عالم الرواية هذا العنوان عنواناً بنائيًّا، تكاد تكون الرواية بأجمعها توسيعاً لتلك الجملة الخبرية (أحبها)، وللاستدراك عليها بـ(لكن).
نور المحبوبة هي الشقيقة التوأم لميشال المحب. ولو كانت حياة عائلة هذين التوأمين طبيعية لدخل فعل الحب هذا العادية العفوية التي لا تحوج أديبة كمها أن تكتب رواية في هذا الموضوع. والأديبة حين لجأت في هذه الرواية، إلى دراماتيكية أسكنت شقيقاً وشقيقته في بناية واحدة من دون أن يعرف أحدهما صلته بالآخر، لم تكن تقصد إدهاش المتلقي بهذه المصادفة بقدر ما كانت تريد الكشف عن عمق من أعماق آلَمِ الأوجاع التي حفرت عميقاً في وجدان بعض العائلات اللبنانية، بسبب ما نالها من مآسي الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان في ربيع العام 1975.
ولا تقدم مها افتراضات، في روايتها هذه، ولكنها تقدم وقائع.
ما مصير الدبلوماسيين الإيرانيين الذين اختطفوا على حاجز البربارة؟
وما مصير علي القاضي الذي اختُطف في بيروت العام 1982 ولم يعرِف أهلُه ماذا حلّ به حتى الآن؟
وإذا كانت هذه حال الكبار، فكيف هي حال الأطفال الذين قُتِل أهلُهم بالقصف ونجوا هم صدفة من الموت؟ حاولت رؤية مها أن تتوغل في هذا النوع من المآسي مسكونة بنفس تفاؤلي ينتمي إلى شخصيتها ويعطيها طابعها.
تطالعك الرواية، وبسطرها الأول، بكيمياء العنوان، وذلك من خلال السؤال: «ماذا فعل به وجهُها ذاك الصباح؟» (ص 7).
لم يكن ميشال قد جالس نورا حين سأل نفسه: “أين رأى هذه الساحرة» (ص 7) بعد أن قابلت نظراتُه وهو يستعد للانطلاق بسيارته إلى عمله، نظراتِها وهي تتناول قهوتها على شرفة شقتها، وهي من جهتها «كانت عاجزة عن طرد صورة هذا الشاب من تفكيرها» (ص 9). ولئن كشف هذا عن فاعل (أحبّ) وعن المفعول به (ميشال) زوج الطبيبة سلاف التي يحبّها حبًّا كبيرًا ، ونور زوج رجل الأعمال جاد الذي جمع بينهما حب كبير أيضاً، فإن ورود العنوان بشكل مختلف قليلاً في إحدى صفحات المتن «نور امرأة أحبها، ولا أحبها» (ص 40)، إنما كان مبنيًا على اختلاف تفسيري يضيء زاوية من زوايا العنوان.
فمن الطبيعي أن يكون نفي الحب (لا أحبّها) بعد إثباته مباشرة (أحبّها)، نفيًا لنوع من الحب المرتكز إلى اشتهاءِ رجلِ جسدَ أنثى، وإضاءةً لنوع آخر من الحب، الحب ذي البعد الإنساني المبرّأ من أية نفعية. ولقد حاول ميشال أن يوضح نوع حبّه حين قال: «هل هو نوع من العشق لعالم المثل الذي قال به أفلاطون؟» (ص 40)، وإذا لم يسبر هذا التوضيح عمق هذا العشق مبرزًا طبيعته، اندفع ميشال إلى سؤال آخر: «هل كان بيننا لقاء في زمن تقدّم على هذا الزمن» (ص 40). وإذا بالسؤال الثاني يضيف إلى الغموض الذي اكتنف السؤال الأول، غموضًا أبعد حين ألمح إلى نظرية التقمّص. ولقد ظل المتلقي عالقاً في شكّه هذا ما يقارب أربعة أخماس الرواية، إلى أن اكتشفت نور أنها ميشلين أختُ ميشال. وطول الانتظار هذا مثار لتعب المتلقي، خصوصاً أن الحبكة المحورية التي قامت عليها الرواية قد ارتكزت إلى ذلك الارتباط الشفيف من ناحية والغامض من ناحية ثانية بين نور وميشال.
والرواية، على كل حال، لم تكن حيادية فيما يتعلق بتلك الحبكة، وهذا الاشتباك. كان الاشتباك وسيلة نفذت من خلالها رؤية مها خير بك لتكشف عن عمق من أعماق المآسي التي نالت المجتمع اللبناني جراء الحرب الأهلية.
فبدريّة أمّ عثمان ونور لم تكن أمّهما. وهما ليست عثمان ونورا. التقطت بدرية كلًا منهما على حدة ومن مكان مختلف. انتشلتهما من الضياع ومن تحت ركام البيوت المتصدعة في مدينة طرابلس. أعطتهما اسمي ولديها اللذين قتلتهما الميليشيات الطائفية في أثناء هرب أمهما بهما إلى الشمال.
ولا يكتمل مشهد الرواية إلا بعد استحضار أم هاني (عثمان) إلى الرواية، والأبعاد الدراماتيكية التي شهدتها الرواية فيما يتعلق بأخوّة ميشال ونور من جهة، وبتعرّف نور إلى أم هاني، أمِّ أخيها عثمان من جهة أخرى، كانت دراماتيكية انسيابية، لأنها ناتجة عن دراماتيكية العالم المرجعي وما جرى فيه من أحداث مؤلمة، يعني أنها لم تكن لعبة تشويقية إدهاشية، بقدر ما كانت لعبة أدبية وظيفية، لا يُستطاع النفاذ إلى عذابات الأمهات اللواتي فقدن أولادهن في أثناء تلك الحرب من دونها.
ولعلَّ أهمَّ ما أثارته هذه الرواية من قضايا هو ذلك الجدلُ الذي أُدير داخل ثنائيّة (قربى الدم)، و(قربى التربية والــتبنّي). أدارته مها خير بك بحرفية أدبية عالية. أيُّهما أمُّ نور/ ميشلين: ماما جانيت أم ميشال، أم ماما بدرية؟ وأيُّهما جدّة عثمان الصغير لأبيه: السيّدة بدريّة أم السيّدة أم هاني (عثمان)؟ والأمُّ الحقيقية هي الأمّ التي تعبت وربَّت أم الأم التي ولدت وحرمتها ظروف الحرب من ابنها؟ والجدّة هي تلك التي تعهّدت الوالد وربّته، أم تلك التي ولدته وحُرمت منه؟
إنَّها أسئلة تثيرها الرواية، تاركة الشخصيات التي تتمتع كلُّ واحدة منها بفرادتها لتجيب عن هذه الأسئلة فتتحدَّدَ خصوصيّتها. فالسيدة جانيت أمّ ميشال «كانت تصلِّي ليكون لابنها ]ميشال] طفلٌ يحمل جيناته قبل أن تغادر هذا العالم»، (ص501). وهذا طبيعي من أمٍّ ظلَّت ما يزيد على الثلاثين عامًأ حزينة جريحة الخاطر بسبب فقدانها ابنةَ ولدتها. فقربى الدم هي القاعدة التي تؤجِّج حزنها، ولا يسهلُ أن تتنازل عنها. ولا يمكن أن تتقبّل تبنِّي كنتها ولدًا من غير صلب ابنها ميشال. تجربتها جعلتها غير مؤمنة بقربى التبنّي.
ولقد حضر قبالةً موقف أم ميشال هذا موقف ابنتها نور/ ميشلين التي تنظر إلى الأمر نفسه من زاويتها هي. فعندما سألها زوجها جاد الذي اطلع على ما تكشّف من حقائق، قائلاً: «تبدو علاقتك الوجدانية بعثمان أعمق من علاقتك بميشال» (ص 448)، أجابته: «أخبرتك يا جاد عن حقيقة مشاعري. علاقتي بعثمان علاقة روحيّة ووجدانية. هي علاقة أخوَّة حقيقية، علاقة ترشح بالألم والأمل وبالحلم والرجاء، وبالبوح والذكريات الأخوية. أمَّا علاقتي بميشال، فهي علاقةٌ فرضتها عاطفة الدم، لا شيء يجمع بيننا إلا رابطة الدم. ذكرياته تختلف عن ذكرياتي» (ص448).
وتقف تجربة أم هاني موقفاً ثالثاً من هذه المسألة، قال حسين الفنان المزيّن «رأتني تعلقت بي، وقالت إنها رأت في وجهي وجه ابن ضاع ولا تزال تبحث عنه» (ص 43) المسألة هنا ذاكرة وتشابه حرّكتها أحزان أمٍّ ما زالت تبحث عن طفل ضاع في أثناء الحرب الأهلية.
وإذا وصفت نور علاقة (العشرة) بينها وبين عثمان بأنها أخوّة حقيقية مع أنها باتت تدرك بأنها غير قائمة على قربى الدم، يعني أنها قد جعلت التربية والعشرة قربى متعالية على قربى الدم. وهذا الموقف نتاج طبيعي لتجربتها التي عاشتها.
ولئن ألحّت الرواية، وفي مواضع كثيرة، منها على تعويل الشخصيات على قربى الدم، فإنها أطلّت على الحقيقة الإنسانية من مواضع متنوعة وحرجة تضعها موضع الاختيار الحقيقي، قربى الدم وقربى التربية تنافستا على صفحات الرواية تاركتين للمتلقي أن ينحاز إلى ما يناسبه. والرواية، في ذلك، لم تصل حدود التفكيكية التي تقول بأن الحقيقة وجهة نظر، لأن نورا التي رأت أن قربى التبنّي والعشرة متعالية على قربى الدم، بناء على تجربتها، لم تنفِ وجهة النظر الأخرى نفيًا قاطعًا. قربى الدم قربى فاعلة، هي التي دفعت كلًّا منها ومن ميشال ليتعلق كل منهما بالآخر، وقبل أن يدركا أنهما أخوان دمًا. وجانيت المؤمنة بقربى الدم إيمانًا راسخًا لم ترفض النوع الثاني من القربى، تفهّمت علاقة ابنتها نور/ ميشلين بأخيها بالتنبّي عثمان.
والرواية التي حرصت أن تعطي كل شخصية من شخصياتها فرادة وخصوصية لم تستطع أن تتخلص من مناقبية مها الخلقية التي مسحت بزيتها المقدّس جميع هذه الشخصيات، فبدت متناغمة خلقًا وسلوكًا: مشى الجميع، تقريبًا، على صراطٍ مستقيم رسمته لهم الأديبة مها خير بك ناصر.
هذا ولم تنسَ هذه الأديبة أن تطلّ على مأساة الشعب السوري الحالية من شرفة مآسي الحرب الأهلية اللبنانية عبر شخصيّتي كل من عمر وزوجه لارا السوريين، ثمة أكثر من إيماءة إلى اتصال المأساتين برابط قوي، فالمحرك واحد والمستفيد واحد.