البيئة الإستراتيجية العربية
لمواجهة التحديات الإسرائيلية
دكتور مجدي حماد
مقدمة
لا شك في أن أي تطور جدي في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، بغض النظر عن الموقف من منهج التسوية، يتوقف على تغيير جوهري في “الطبيعة الاستيطانية” لتكوين إسرائيل. في ضوء ذلك؛ ليس من المرجح – على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط، وفي ضوء توازنات القوى – أن يأتي التغير في “الطبيعة الاستيطانية” تبعاً لتغير “داخلي”، إنما تبعاً لتغير “إقليمي” إلى حد ما، وتبعاً لتغير “عالمي” إلى حد كبير، على غرار ما حدث في جنوب إفريقيا. أساس ذلك أن القوى الغربية الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة تشعر أن صيانة مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية في المنطقة العربية أصبحت تستلزم تحول دولة الاستعمار الاستيطاني إلى “دولة عادية”، وفقاً لما يمكن أن يطلق عليه اصطلاح: “الاستعمار الاستيطاني الحديث”، وخلع رداء الاستعمار الاستيطاني التقليدي عنها، بحيث يسهل في النهاية دمجها، ودمج المنطقة التي تسيطر عليها، في النظام الدولي الجديد للهيمنة. من هذا المنطلق يحدث اللقاء بين أهداف إسرائيل وأهداف الدول الغربية.
وفي هذا السياق تنبغي مناقشة أهمية الوضع الدولي تجاه القضية الفلسطينية – بشكل عام، وتجاه المقاومة – بشكل خاص، مع تأكيد أنهما وجهين لعملة واحدة، وإن كان التناسب بينهما ليس طردياً في كل الأحوال. على أنه من الواضح أن المقاومة الفلسطينية الباسلة والمستمرة، كما المقاومة العربية، حالت بين الصهاينة وتكرار النموذج الأمريكي في إبادة الشعب الأصلي. ولا تزال العنصرية الصهيونية مضطرة إلى مواصلة التصدي للرفض والمقاومة المستمرة من قبل الشعوب الفلسطينية والعربية.
أولاً – التحدي والاستجابة
في ضوء ما تقدم، بشأن التحدي الأميركي الإسرائيلي؛ تمكن الإشارة، بشكل عام، إلى أنماط الاستجابة الفلسطينية والعربية، سواء على المستوى الرسمي، والمستوى غير الرسمي.
إن الشعب الفلسطيني قد خبر عملياً، داخل وطنه وخارجه، حصاد “مؤتمر مدريد”، و”اتفاقيات أوسلو”، وحقيقة عملية التسوية الجارية والمتوقعة، وهو مهيأ لمتابعة العطاء وتقديم التضحيات، وتحمل تبعات المقاومة، كما لصراع النفس الطويل، في مواجهة العنصرية الإسرائيلية الصهيونية، شأنه طوال قرن مضى، حتى استحق عن جدارة لقب “شعب الجبارين”. ويبقى أن يبرز قيادته لهذه المرحلة، التي يمكن أن ترتفع إلى مستوى تضحياته واستعداداته، والتي تستطيع توظيف طاقاته، في إطار من حشد طاقات الأمة.
كذلك فإن الأمة العربية – التي عانت مرارة “حروب الخليج” – من غزو إيران، إلى غزو الكويت، إلى غزو العراق – وما أصاب النظام العربي بسببها، وما أسفرت عنه “مسيرة مدريد”، وما تلاها من اتفاقيات وتحركات على طريق بناء “نظام الشرق الأوسط”؛ باتت تدرك طبيعة المرحلة الراهنة في الصراع، بعدما تمثلت “خبرة التسوية”؛ حيث يتأكد أمامها أن التحالف الاستعماري الصهيوني ازدادت أطماعه فيها، وأنه يتمسك بمخططاته التي تستهدف ترسيخ تبعيتها وتخلفها وتجزئتها. كما يتأكد أمامها أن النظام العربي ضرورة لازمة؛ ضرورة أمن وضرورة تنمية، وضرورة هوية وشرعية ومرجعية، لذلك لابد من إعادة الفاعلية إليه، بعدما اتضح أن “الوجه الآخر” لمنطق عملية التسوية يتمثل في تحطيم النظام العربي لمصلحة بناء “نظام الشرق الأوسط”، الذي يجسد هيمنة إسرائيل.
لقد استجابت الأمة العربية لتحديات المرحلة، بخاصة على المستوى غير الرسمي، بالتوجه نحو “المقاومة المسلحة” و”العمليات الاستشهادية” على الصعيد الشعبي، فضلاً عن تفعيل “المقاطعة”، ومواجهة “التطبيع” الذي تحاول قوى الهيمنة فرضه بشتى السبل، وكان ذلك داعياً لالتقاء تيارات الأمة الفكرية والسياسية على برنامج عمل شعبي يرفع شعار: “فلنعتصم بالمقاومة”.
مع ذلك؛ يلزم تأكيد أن الحديث عن المستوى العربي غير الرسمي – الذي يمتد من المجتمع المدني إلي المقاومة المسلحة – لا يعني إغفال أهمية ومحورية دور المستوى الرسمي، بل إن نقطة البداية الضرورية قد تكمن في تصحيح العلاقات بين الدول أنفسها، بين الأقطار، وداخل كل قطر، فيعاد بناء هذه العلاقات على قواعد من العقلانية، والاحترام المتبادل، والإدراك العميق لحجم المصالح المشتركة.
والخطوة الأولى على طريق تصحيح العلاقات على هذا المستوى الرسمي تتمثل في إعادة الاعتبار الفعلي – لا الرسمي فقط – لمؤسسة القمة العربية، بعد أن تقررت اجتماعاتها الدورية، لتصبح منتظمة وثابتة، وغير خاضعة لتقلبات الأهواء، أو لنزعات الإملاء، فضلاً عن تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك كافة. ليس أدل على أهمية هذه الخطوة من التطلع الدائم في محيط الأمة إلى انعقاد مؤتمرات القمة، كلما تعاظمت التحديات التي تواجه الأمة العربية، وكلما تفجرت الخلافات والمنازعات العربية – العربية. مع تأكيد أن مجرد انعقاد مؤتمرات القمة لا يزال يشكل قيداً نسبياً على الحكام العرب، حيث أن مبدأ الشرعية القومية لا يزال سائداً ومؤثراً، رغم كل ما حل بالأمة العربية. وربما يكون من المفيد – في مجال تقييم الآمال والتوقعات التي تعلق عادة على مؤتمرات القمة العربية – الإشارة إلى أن هناك رأيان بهذا الخصوص في محيط الرأي العام العربي، ومجموعات المثقفين، والمنشغلين بهموم أمتهم وقضاياها:
أولهما – يعتقد بضرورة اجتماع عربي على مستوى القمة لمواجهة هذه التحديات الخارجية والداخلية.. وذلك يبدو تفاؤلاً يمني نفسه بالأمل وينسى درس التجربة؛
وثانيهما – يعتقد أنه لا فائدة من اجتماع عربي على مستوى القمة، خصوصاً إذا كان انعقاده مرهوناً “بضوء أخضر” من خارج الوطن العربي.. وذلك الاعتقاد – بصرف النظر عن هم ثقيل فيه – يبدو تشاؤماً يطفئ بقايا شمعة تذوب.. لكنه ليس هناك غيرها في ظلام هذا الليل.
والحقيقة أن كلا من الرأيين دليل أزمة عميقة تهدد الأمة في مستقبلها ذاته، وليس في مجرد خياراتها، بخاصة إذا وضع في الاعتبار أن هؤلاء الحكام العرب هم الذين يختلفون ويتفقون، وهم الذين يتخذون القرارات ويصدرون “الأوامر” بشأن التنفيذ من عدمه، وهم الذين يجمعون بين أيديهم كل خيوط “الحل والعقد”!
إن من الملاحظ أنه لم يكن ثمة فصم، صاحب مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي، بين ابرز مفاصل تلك المسيرة، الممتدة على مدار نحو سبعين عاماً، وبين المقاومة الفلسطينية باعتبارها حركة تحرر وطني، بل إن الأخيرة بدت تأصيلاً لرد فعل طبيعي، يجابه الجحافل الاستعمارية بشتى صنوف وأساليب المقاومة المتاحة. إن تقييم دور المقاومة في التأثير في معادلة الصراع، في ضوء معطيات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، يقتضي إدراج عدد من الملاحظات والمؤشرات:
أولاها – أن خبرات التحرر الوطني، والنماذج التاريخية السابقة، تظهر أن الاختلال في التوازن القائم بين قوى الاستعمار وبين الشعوب المناضلة، لم يحل دون مآل المحصلة النهائية إلى مصلحة الشعوب التي ناضلت من أجل التحرر الوطني. كما تبين الخبرات التاريخية ذاتها أن الحالات الاستيطانية الإحلالية التي قدر لها البقاء (مثل الولايات المتحدة واستراليا)، نجحت بعد إبادتها السكان الأصليين، فيما أخفقت تجربة نظيرات لها في تحقيق ذلك، مثل جنوب إفريقيا، بفعل المقاومة التي واجهتها، ما أدى إلى تصفيتها.
لا تستثنى إسرائيل من هذه القاعدة التاريخية، باعتبارها جيباً استيطانياً إحلالياً. وقد تجلى ذلك بوضوح في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كحرب عام 1973، حين تمكن العرب من تحدي الخلل الفادح في التوازن السياسي والعسكري مع الجانب الإسرائيلي، بمجابهة عربية مشتركة. كما برز عبر نجاح المقاومة اللبنانية في دحر الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، بانسحاب منفرد من دون قيد أو شرط عام 2000، مثلما تجسد في صمود المقاومة اللبنانية أمام ترسانة الحرب الأمريكية – الإسرائيلية عام 2006. كما يتضح على الجبهة الفلسطينية من خلال ما حققته انتفاضة الأقصى من انجازات، لم تتمكن “عملية التسوية” من إحرازها طوال مسيرتها التي ابتدأت في مؤتمر مدريد 1991، وأيضاً عبر نجاحها في حمل المحتل الإسرائيلي على الانسحاب من قطاع غزة في عام 2005، على الرغم من أن الانسحاب كان صورياً؛ حيث لا تزال سلطات الاحتلال تحكم سيطرتها على القطاع، الأمر الذي دفع البعض إلى اعتبار خطوة الانسحاب محاولة تكتيكية إسرائيلية بغية إحكام السيطرة على أراضي الضفة الغربية، التي تشكل بالنسبة إليها أهمية تفوق بكثير تلك التي يحتلها القطاع. إلى جانب الانتصارات البطولية التي حققتها المقاومة الفلسطينية في “معارك غزة” المتوالية منذ عام 2008. بيد أن ذلك كله من شأنه أن يدلل على حقيقة أن المقاومة باستطاعتها أن توقع خسائر ضخمة في صفوف العدو وفي جيشه النظامي، ما يلقى بتأثيراته المؤكدة على المواقف الدولية.
ثانيتها – أن النموذج العام لتطور حركات التحرر الو طني يؤشر إلى نجاحها في تحقيق هدف الاستقلال السياسي نتيجة نضالها، سواء أكان ذلك من خلال تسوية مع الدول المستعمرة، حينما تدرك الأخيرة تآكل مشروعها الاستعماري، وعدم جدوى استمراريته، بفعل الخسائر الفادحة التي يتكبدها من المقاومة، أو عن طريق الكفاح المسلح ضدها في أغلب الأحيان. ويعتبر نضال الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، في سبيل مباشرة حقها في تقرير المصير، نضالاً مشروعاً يتفق مع مبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، التي من أبرزها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 1965، والقرار رقم 2625 في 24 تشرين الأول/أكتوبر 1974.
بيد أن إسرائيل تتجاهل حق تقرير المصير، وحق المقاومة في النضال من أجل التحرر، مستندة في ذلك إلى ادعاءات تاريخية أسطورية. وتواري إسرائيل نزعة إنكار حق أهل البلاد الأصليين في تقرير مصيرهم، عن طريق تحويل نضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرر إلى مجرد “نزاع في الشرق الأوسط”، لا يحل عن طريق الاعتراف بحق تقرير المصير للفلسطينيين، بل من خلال الموافقة على “شروط السلام”. وفي ظل غياب لغة العدل وسيادة المعايير المزدوجة، فإن إملاء الطرف الأقوى هو الذي يضبط حل هذا الصراع، كما يغلب القوة في المفاوضات، التي يكون هدفها كبت إرادة الأمة نحو التحرر من الاحتلال.
إن دوافع اللجوء إلى الكفاح المسلح والمقاومة لا يسهل فهمها بمعزل عن سياق الصراع، وفشل مسار التسوية، وتنامي نزعة التطرف والعنف اليميني الديني في إسرائيل. فقد أدت الممارسات العدوانية الإسرائيلية المدعومة أميركياً، التي تستند إلى القوة والعنف لفرض الأمر الواقع، إلى نسف “عملية السلام” التي تعاني أصلاً من وهن وهشاشة الركائز المستندة إليها، ما أسفر عن تعثر مسيرتها إلى حد الجمود على الصعيد الفلسطيني. وبخلاف الانجازات التي حققتها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في حروبها الإقليمية منذ عام 1948، فإنها فشلت في تحقيق أي من أهدافها في التعامل مع فلسطين ولبنان أمام المقاومة.
ثالثتها – إن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” لا يخرج عن ذات المسار، على الرغم من تواتر إخفاق محاولاته السابقة، التي كان آخرها مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي أعلنته الولايات المتحدة بهدف تحقيق ثالوث “الإصلاح” المزعوم: الديمقراطية والمعرفة والازدهار الاقتصادي في المنطقة، باعتبار أن أوضاعها السياسية والاجتماعية المتدهورة تشكل – وفقا لمنظورها – مرتعاً خصباً لنمو التطرف والإرهاب، وهو المسوغ الذي اتخذته واشنطن ذريعة للتدخل في شؤون المنطقة بحجة مكافحة الإرهاب، بخاصة بعد إحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 التي كان من أبرز تجلياتها مرادفة المقاومة بالإرهاب، بينما تهدف إلى القضاء على البنية التحتية للمقاومة الإسلامية، وبالتالي، طمس مفاهيم الكفاح المسلح، واستئصال ثقافة المقاومة، وإقحام الجسم الإسرائيلي الغريب في هيكلية الدول العربية والإسلامية، توطئة لتبوئه سدة الزعامة في المنطقة.
رابعتها – أن هذا المقصد الأمريكي لا يعتبر بالجديد؛ إذ انه يندرج في جزء منه ضمن إطار اٍهتمام مبكر بالحركات الإسلامية وبالمقاومة، تكثف منذ ما بعد اٍندلاع الثورة الإسلامية في إيران، حيث نشطت حينها مراكز الدراسات والأبحاث الغربية، المرتبطة بمراكز صنع القرار، لتشخيص ودراسة دوافع المقاومة والحركات الإسلامية وتطورها في المنطقة، وحجم قاعدتها الجماهيرية، ومدى تأثيرها في وضعية المنظومة المجتمعية البنيوية المتكاملة، ومن بينها دراسة رائدة أصدرتها مؤسسة “كارنيجي” البحثية، التي خلصت إلى تنامي دور حركات المقاومة الإسلامية خلال السنوات العشر الأخيرة، بحيث باتت تلعب دوراً سياسياً أساسياً ومهماُ في المنطقة. في حين توقعت دراسات أخرى حدوث استقطاب ثنائي في حركة العلاقات الدولية، بخاصة على صعيد الساحة السياسية العربية بين الأنظمة والتيارات المختلفة للإسلام السياسي.
وقد نظرت الحكومات الأمريكية والغربية بعين القلق والتوجس إلى تنامي نفوذ التيار الإسلامي، فضلاً عن تداعيات الثورة الإسلامية في إيران، من خلال تصاعد دور المقاومة الإسلامية في فلسطين، عدا عن تصاعد دور “حزب الله” في لبنان وسورية، والعجز الأمريكي الإسرائيلي عن إلحاق الهزيمة به، إضافة إلى العجز الأمريكي العام في المنطقة، حيث شكل كل ذلك محركاُ مهماُ من دوافع المساعي الأمريكية لضرب البنية التحتية للمقاومة، بخاصة في فلسطين ولبنان.
خامستها – إن كثيرين منا – بخاصة بعد خطاب أوباما البليغ في جامعة القاهرة في حزيران 2009 – قد تصوروا أن الولايات المتحدة ستغير إستراتيجيتها تجاه إسرائيل لتتحول نحو الضغط عليها، بدلاً من مسايرتها على طول الخط؛ فهل هناك أي مبرر لتصور أن سياسة التحالف الأميركي مع إسرائيل هي من المتغيرات وليست من الثوابت؟ إن أية إستراتيجية عسكرية وسياسية وأمنية تنتهجها الولايات المتحدة، في تحالف وثيق وقوي مع إسرائيل، ما كان يمكن أن تتغير إلا لأن أغلبية النظم الحاكمة العربية ارتأت أن تتقدم نحو الولايات المتحدة وإسرائيل بعدد هائل من التنازلات، التي زعزعت الثوابت القومية العربية تجاه قضية فلسطين. لقد تصور هذا العديد من الحكام العرب أن التراجع إلى مواقف هادمة للثوابت العربية من شأنه أن يكفي للحصول من الولايات المتحدة على تغيير في واحد من أكثر ثوابتها رسوخاً. والأمر المؤكد أن التنازلات العربية، التي شملت اتخاذ مواقف عدائية تجاه إيران بلا مبررات موضوعية لمجرد أن الولايات المتحدة وإسرائيل تتخذان مواقف عدائية منها، قد عززت تقدير المخططين السياسيين الأميركيين والإسرائيليين على السواء بصواب السياسة المشتركة التي ينتهجانها في المنطقة، بما في ذلك سياسة إسرائيل العدوانية تجاه الفلسطينيين والعرب – من ناحية، وتجاه إيران – من ناحية أخرى.
سادستها – استمرار الموقف الأميركي والإسرائيلي والأوروبي من قضايا التسوية، ولقد اتضح بجلاء أن مواقفها من رفض قيام دولة فلسطين من حيث المبدأ – من ناحية، ورفض المصالحة الفلسطينية – من ناحية أخرى؛ كما تكشف عن ذلك البيانات الحادة التي أصدروها، بمناسبة عرض الاعتراف بدولة فلسطين على الأمم المتحدة، وقبول عضويتها الكاملة في اليونسكو، والتوصل إلى مصالحة فلسطينية برعاية مصر الثورة، لأن هذه المواقف تؤكد أن لديها “مواصفات” خاصة لتلك الدولة، كما أن رفض المصالحة الفلسطينية ينطوي بالضرورة على رفض الديموقراطية، و”مواصفات” خاصة أيضاً لتلك الديموقراطية!
ثانياً – جدلية التحرير والتسوية
إن أية دراسة لتاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، بخاصة تاريخ النضال الفلسطيني، ولما آل إليه شعب فلسطين، تؤكد أن المستقبل الفلسطيني سيصب في أحد مسارين: مسار أوسلو ومسار النضال، ولن يكون أحدهما بديلاً عن الآخر؛ فلا اتفاقيات أوسلو قادرة على تحقيق الأماني، أو على المعالجة الشاملة لكل أوضاع وأوجاع الشعب الفلسطيني، ولا استئناف النضال قادر على تحقيق نصر في أفق منظور من الزمان. وسيكون لكل من هذين المسارين “جماهيره”، كما سيكون لكل منهما مقوماته الخاصة المستمدة من وضعه؛ والأرجح أن يتمحور مسار الصراع، أو مسار النضال، حول الفلسطينيين الذين يعيشون خارج الأراضي الفلسطينية، وأن يتمحور مسار التسوية، أو مسار أوسلو، حول الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق الحكم الذاتي. فيما يأتي عرض كل من هذين المسارين، وما يرتبط بهما من تساؤلات.
1 – مسار أوسلو
سيظل هذا المسار مرتبطاً بكل الالتزامات الواردة في اتفاق أوسلو، أو التي سيلتزم بها في اتفاق الوضع النهائي الذي يتم التوصل إليه لاحقاً. وقد اتخذ هذا المسار بالفعل شكل مؤسسة دولة ترعى مصالح الدولة ومواطنيها، وتمارس عقيدة المطابقة ما بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة للنخبة القائمة على إداراتها. كما أن هذا المسار سيظل مرتبطاً بالإطار الجيوبوليتيكي الذي تكون في رحمه، وهو إطار التحالف الصهيوني – الغربي. وسيظل السقف المتاح لهذا المسار هو ما ينص عليه اتفاق أوسلو وامتداداته المستقبلية. هناك عقبات كبرى في طريق التوصل إلى اتفاق حول الوضع النهائي؛ مثل طبيعة “الدولة” ومساحتها، وحق العودة، والمجال المتاح للحركة والبناء ويشمل الأرض والمياه والتواصل الجغرافي، والقدس والسيادة المنقوصة، التي ستظل منقوصة حتى إذا طور النظام إلى دولة، والاندماج الأمني مع إسرائيل والولايات المتحدة (بخاصة وكالة المخابرات المركزية)، والتعرض المستمر لهيمنة إسرائيل السياسية، والمشكلات التي سوف تخلقها باستمرار بهدف تقطيع استمرارية الحياة، واستبعاد تطبيع العيش حتى لا تنشأ توقعات مستقرة تساعد على التنمية وتثبت الأقدام. وسيبقى الكيان الذي قد تسفر عنه مفاوضات الحل النهائي كياناً مقطع الأوصال “مخنوقاً”، ومحروماً من أي “فراغ داخلي” قد يفكر في ملئه. وستملى عليه سياساته التعليمية والبحثية، ليظل سقفه العلمي والثقافي دون ما تتوصل إليه إسرائيل، وستفيض عليه اختراقات ثقافية بينها ما قد يمس صلب حضارته. بينما تفرض عليه القيود في مجال الإعلام، حيث سيبقى مجاله الثقافي مفتوحاً للإعلام الإسرائيلي. ولا مفر لمثل هذا النظام من أن يكون نظاماً تابعاً، ولئن قيل إن هذا هو أيضاً شان أنظمة كثيرة، فإن التبعية التي ستفرض عليه ستكون أشد إحكاماً وتغلغلاً من أشكال التبعية المعروفة.
ومن المفارقات في هذا السياق أن المخاطر الجسيمة لهذه التوجهات ستتجسد في حال قيام “الدولة الفلسطينية”؛ لأنها ستكون ملتزمة بفرض قيود صارمة على مناهج التنشئة وأجهزتها كافة – سواء المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام والثقافة، وحتى دور العبادة – لكي لا تمس إسرائيل والصهيونية من قريب أو بعيد، وهو وضع أكثر سوءًا بكثير من وضع الاحتلال .. فهل ندرك مخاطر تنشئة أجيال وراء أجيال على أن “إسرائيل بلد صديق مجاور”، وأن “الصهيونية إيديولوجية حركة تحرر وطني”؟
فضلاً عن ذلك، فإن مسار أوسلو يواجه احتمالات ذات خطر كبير؛ منها أن التزاماته الأمنية تستخدمها إسرائيل لضرب عناصر وطنية تنتهج خطاً نضالياً. معنى ذلك أن إسرائيل ستبذل كامل قدرتها لتدفع “مؤسسة أوسلو” لكبت كل تحرك نضالي فلسطيني، وسوف تزعم أن هذا النضال يشكل خطراً مشتركاً، أملاً في أن توثق لنفسها مصلحة مشتركة مع طرف فلسطيني ضد طرف آخر. ومن الواضح ميدانياً أن السلطة الفلسطينية تمارس سياسة حذرة تحاول خلالها أن تبقي شعرة في هذا الاتجاه وشعرة في الاتجاه الآخر. ومن الواضح أيضاً أن جمهرة الشعب الفلسطيني تمارس ضغطها لاستبعاد أية مواجهة فلسطينية – فلسطينية، وأن التيارات النضالية مقتنعة بضرورة الالتزام بهذا المبدأ وإعطائه الألوية القصوى.
ومن المؤكد أن مسار أوسلو وعاء صغير، وغير قادر على تجميع الطاقات الفلسطينية واستيعاب إمكاناتها، بالتالي فإن من المحتم قيام خط فلسطيني نضالي متحرر من التزامات “خط أوسلو”، وقادر على التحرك في جميع الاتجاهات التي يختارها الشعب الفلسطيني لتحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب.
2 – مسار النضال
يمكن القول أن هذا المسار قادر على أن يعيد النضال الفلسطيني إلى المجال التحريري الذي سلكته جميع الأمم التي عانت من الاستعمار، من ثم يعتبر هذا المسار ضرورة للعمل الفلسطيني لأسباب شتى:
أولها – أن مسار أسلو سيبقى دوماً رمزاً للهزيمة، والتسليم بالأرض والحقوق وانتقاص الكرامة، وإذلال الشعب الفلسطيني. كما أنه سيظل محظوراً عليه أن يتحدث عن استرجاع ما اغتصب من أرض وحقوق، وما استبيح من مقدسات، وسيبقى عاجزاً مهما تكن مراوغاته الإعلامية، عن تقديم أي أمل لفلسطينيي الشتات بالعودة إلى وطنهم، أو تقديم أي عون لهم في مواقع حياتهم.
وثانيها – أن الهيمنة السياسية والأمنية التي فرضت بالفعل في اتفاق أوسلو تعني أن أي كيان سينشأ عن هذا الاتفاق سوف يكون معزولاً عن البيئة العربية، التي سوف تنظر إليه بريبة، خشية أن يكون ممراً أو جسراً لتأسيس هيمنة إسرائيلية مماثلة خارج إطاره.
وثالثها – أنه عندما يتساءل المرء عن ضرورة وجود قوى معارضة في أي مجتمع، من أجل تحريك نشاطات المجتمع وتصحيح أخطائه، فإن مسار النضال قادر على أن يجسد تلك المعارضة بأهداف بينة وذات جاذبية لدى جماهير الشعب.
ورابعها – أن مثل هذا المسار – من خلال تحرره من القيود والالتزامات المحكمة التي يتضمنها اتفاق أوسلو وامتداداته – يستطيع أن يؤكد الذات الفلسطينية، والالتحام الفلسطيني بالبيئة العربية، والدور الفلسطيني الباهر الذي أسقطته اتفاقية أوسلو.
3 – توزيع الأدوار
إن أحد أشكال العلاقة المتصورة بين هذين التيارين هو وضع توزيع أدوا، والمثال المعاصر على ذلك هو حال إيرلندا؛ فقد التزمت بدولة على جزء من أراضيها، والتزمت بذلك بحدود دولية، كما التزمت ضمناً بعدم الإخلال بأمن إيرلندا الشمالية، لكنها أغمضت العين عن تنظيم سياسي نضالي (شين فين)، وآخر عسكري (الجيش الجمهوري الايرلندي)، كانا يعملان على تحرير الجزيرة الايرلندية بأكملها، وإعادة توحيدها.
غير أن تفاعلاً سياسياً لا بد من نشؤه بين المسارين، ولا بد من مزايدات تدفع كلاً منهما إلي تحقيق شيء ما، يشكل تحسيناً على الوضع القائم. وثمة نقطة مهمة بالنسبة للنظرة التنظيمية المحتملة إلى المسار النضالي؛ فمن المفيد أن يستخلص هذا النضال الدروس التنظيمية التي خبرتها حركات التحرير. ولعل من أهم ما يجب الانتباه إليه أن يكون هنالك تنظيم متماسك ذو جناحين: أحدهما سياسي يستطيع العمل في العلن إلى حد ما، ويستطيع أن يحصل على رعاية وتعاطف من قبل “أصدقاء” في العالم الإسلامي وفي العالم الثالث وفي الدول الغربية، لأن عملاً نضالياً صرفاً، غير مواكب بالإعلام، وغير مزود بخطوط اتصال مع العالم الخارجي، لا يلبث أن يواجه ضغوطاً ومواجهات ميدانية إعلامية تشله وتعجزه. والجناح الآخر عسكري، غير معلن، يستفيد من التجربة السابقة التي جمعت العملين السياسي والعسكري في قيادة واحدة، فضلاً عن التجربة المعاصرة التي تمثلها حركات المقاومة الإسلامية المسلحة في فلسطين ولبنان. إن لكل من العملين السياسي والعسكري اختصاصات تحتاج إلى ترتيبات محددة تتلاءم معها.
فمن ناحية العمل السياسي؛ هناك حاجة أولاً إلى التركيز على العمل الإعلامي. ولئن كان مفهوم العمل الإعلامي في السابق قد انصرف إلى العمل في الدول الغربية فإن تركيزاً خاصاً يجدر أن يوجه إلى البلاد العربية نفسها، بالإضافة إلى البلاد الإسلامية. فلقد جرى التعامل مع البلاد العربية في ما مضى على افتراض بداهة تعاطفها مع القضية الفلسطينية. لكن المسار الذي وصلت إليه يؤكد أن ثمة حاجة حيوية لإعادة التوضيح بالقول والعمل بما يعيد اللحمة والثقة بين العمل الفلسطيني والبيئة العربية، التي لا بد من أن يجري في إطارها. كذلك هناك حاجة ثانياً إلى الاقتصاد في النفقات وفي المظاهر، والتركيز على المواقع والأشياء ذات الفاعلية فقط. إن السياسة التي انتهجتها منظمة التحرير الفلسطينية في إقامة المكاتب والدوائر والمؤسسات العاملة التي كانت تعمل في فراغ، إنما كانت نتيجة لتوافر الأموال التي وضعت بتصرفها في فترة الفوائض العربية، بالإضافة إلى “الأهداف” الأخرى المتمثلة في الاحتواء والفساد والإفساد.
أما من ناحية النضال العسكري؛ فإن أهم ما يجب الالتفات إليه هو الجانب التكنولوجي. فمن الواضح أن النضال الفلسطيني قد اعتمد حتى الآن اعتماداً كلياً على أسلحة وتكنولوجيا مستوردة، صممت في الأصل لأوضاع وعمليات تخص البلاد التي صممتها، وتقع في إطار إستراتيجيتها ومنظومات أسلحتها. وإذا كان من الواضح أن لدى إسرائيل كماً هائلاً من الأسلحة التي تتسلح بها الجيوش النظامية، فإن التصور العسكري الذي استوردت من أجله هذه الأسلحة كان مبنياً على افتراض حروب نظامية مع الدول العربية. وستظل إسرائيل تفترض، في حال قيام دولة أو شبه دولة فلسطينية، إمكان حصول صدام نظامي مع تلك الدولة. لكن النضال التحريري في غير حاجة إلى مثل هذا الكم أو النوع من الأسلحة المستخدمة في الحروب النظامية، بل لا بد من أن يكون قادراً على ابتداع ما يناسبه ويتلاءم وعملياته.
4 – الحل المطلق والحل التاريخي
يتمثل “الحل المطلق” لأي صراع في حصول أحد الطرفين على كل شيء، ونجاحه في تحقيق كل أهدافه، وعدم حصوص الطراف الثاني على أي شيء، وإخفاقه في تحقيق أي من أهدافه، أما “الحل التاريخي” فيتجسد في المفاوضات والتنازلات المتبادلة بين الطرفين.
من هذا المنظور تؤكد حال الصراع العربي – الإسرائيلي، كما حال التسوية الجارية والقادمة، أن احتمال التوصل إلي حل مطلق لهذا الصراع، بخاصة للقضية الفلسطينية، يعد أمراً غير واقعي، في الأجلين القصير والمتوسط، سواء للجانب الصهيوني وللجانب العربي، وأن الحل التاريخي وحده هو المتصور.
أ – المنظور الصهيوني
إن الصورة الهندسية التي رسمها آباء الصهيونية للدولة اليهودية تختلف عن الصورة الواقعية لهذه الدولة من ناحيتين: أولاهما – الجغرافية (إسرائيل الكبرى)، وثانيتهما – الديموجرافية (النقاء اليهودي). وحيث أن إسرائيل لا تزال تتطلع إلي تحقيق تلك الصورة الهندسية، أي الحل المطلق؛ فمن غير الممكن أن ينشأ نمط مستقر من العلاقات العربية – الإسرائيلية، إلا إذا تغير ميزان القوى لمصلحة العرب، أو إذا استطاع النضال العربي إسقاط هذا الحل وإظهار استحالته.
ب – المنظور العربي
أصبح من غير العملي، ومن غير الممكن، في الأجلين القصير والمتوسط، التطلع إلي حل مطلق يؤدي إلي قيام دولة عربية على جميع الأراضي الفلسطينية. لقد تبنت إسرائيل إستراتيجية إشاعة اليأس في مواجهة العرب، وكانت التسويات القائمة والقادمة ثمرة من ثمراتها. لكن حال اليأس لا يمكن أن تستمر إلي الأبد لاعتبارين: أولهما – أن الخبرات النضالية العربية تكشف عن قدرة على الصمود، بخاصة أن فترات اليأس والإحباط يرافقها صعود في الإيمان، وصحوة التيارات السياسية الدينية، التي يشكل “الجهاد” ركناً أساسياً من أركانها. وثانيهما – أن الصهيونية، كما النازية، لا تحمل نظرة شمولية يمكن أن تستوعب طرفاً مهزوماً. لقد بين الخبير الإستراتيجي البريطاني “ليدل هارت” في كتابه عن الحرب العالمية الثانية أن الانغلاق العنصري الاستعلائي الذي ألتزمته النازية كان مفصل الانهيار الحتمي لحروب هتلر.
ثالثاً – الحروب النظامية والمقاومة الشعبية
منذ قيامها قبل سبعين عاماً، عمدت إسرائيل إلى تطبيق قرار التقسيم باستخدام القوة العسكرية، وتوسيع جغرافيتها بالحرب لتشمل أراضي فلسطينية أخرى لم يقطعها لها قرار التقسيم رقم 181. وباستخدام القوة العسكرية نفسها احتلت عام 1967 باقي أجزاء فلسطين، ومدت سيطرتها إلى كامل شبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان، ومزارع شبعا، قبل أن تتوسع بالحرب في الجنوب اللبناني خلال عامي 1978 و1982.
وعلى النحو نفسه، فقد جربت الدول العربية أن يردوا على الاغتصاب الصهيوني لفلسطين، وعلى احتلال إسرائيل للأراضي العربية الأخرى عام 1967، باستخدام القوة العسكرية. هكذا فرض عليهم أن يخوضوا أربع حروب ضد إسرائيل في ربع قرن منذ قيامها. لا شك في أن هذه الحروب الأربع – رغم ما حفلت به من هزائم وسلبيات – أبقت على جذوة الصراع العربي – الإسرائيلي متقدة، وعبرت عن إرادة رفض الأمر الواقع الإسرائيلي، وأججت المشاعر الوطنية والقومية المعادية لكل ما ينطوي عليه زرع إسرائيل في المنطقة. وبكلمة: قاومت الاستسلام بالإمكانات العسكرية المتاحة.
وفي فترة ربع القرن الأخيرة، الفاصلة بين حرب عام 1973 واللحظة الراهنة، لم تخض الدول العربية أية حرب نظامية حقيقية. إنما الذين خاضوا تلك الحروب هم الشعوب والحركات الوطنية المسلحة: حركة المقاومة الفلسطينية بين عامي 1965 و1985، وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في النصف الأول من الثمانينيات، والمقاومة الإسلامية اللبنانية منذ النصف الثاني من الثمانينيات، والمقاومة الإسلامية الفلسطينية (“حماس” و”الجهاد الإسلامي”) منذ عقد التسعينيات، فضلاً عن أسلوب العنف الوطني المدني الذي ابتدعته الانتفاضة الفلسطينية، ومارسته بنجاح في الانتفاضة الأولي، منذ نهاية عام 1987 إلى نهاية عام 1993 (تاريخ توقيع “اتفاق أوسلو”)، ثم في الانتفاضة الثانية، “انتفاضة الأقصى”. ويمكن القول أن هذا التطور الجذري في مسيرة الصراع يعبر عن فرضيات أربع:
أولاها – أن الحل العسكري الحاسم بات ممتنعاً.
وثانيتها – أن الحروب والمواجهات العسكرية المحدودة واردة.
وثالثتها – أن المقاومة الشعبية المسلحة ضرورة.
ورابعتها – أن النضال السلمي المساند لازم.
1– الفرضية الأولى – الحروب النظامية الشاملة ممتنعة
تبني هذه الفرضية على عناصر ثلاثة:
أولها – أن الاختلال في ميزان القوى العسكرية بين الدول العربية وإسرائيل بات اختلالاً فادحاً على صعيد الأسلحة التقليدية. وذلك بسبب تقدم الصناعة العسكرية الإسرائيلية، وحيازتها قدرة تكنولوجية هائلة، ثم بسبب الدعم السخي الذي تتلقاه من الولايات المتحدة التي تلتزم بأمن إسرائيل، وبضمان تفوقها الإستراتيجي على الدول العربية مجتمعة.
وثانيها – أن إسرائيل نجحت في احتكار السلاح النووي، وهي لذلك باتت قادرة على استعمال هذا الرادع الإستراتيجي لمنع أية دولة عربية من التخطيط لحرب ضدها، بل صار في وسعها أن تمارس بواسطته عمليات مختلفة من الابتزاز السياسي للنخب العربية الحاكمة.
وثالثها – أن القرار العربي الرسمي لم يعد معنياً بالمواجهة العسكرية؛ بتأثير التركيب الاجتماعي للطبقات الحاكمة، وحقيقة مصالحها وانتماءاتها وتوجهاتها الداخلية والخارجية، فضلاً عما طرأ من تغير على سلم أولوياتها. لتلك الأسباب، لا يبدو أن في وسع العرب – في الأجل المتوسط – أن يحققوا هدف التحرير واستعادة الأرض والحقوق (حتى في حدها الأدنى: أراضي وحقوق 5 حزيران/ يونيو 1967) من خلال حسم عسكري استراتيجي، بخاصة بعد أن حسم القرار العربي الرسمي أمره فاعتبر “السلام خيار استراتيجي”!
هنا تنبغي الإشارة إلى توازن الرعب الذي نشأ بين الدول العربية وإسرائيل، نتيجة امتلاك بعض تلك الدول – بخاصة مصر وسورية – صواريخ ذات رؤوس غير تقليدية، مع ذلك ينبغي التأكيد مجدداً أن متطلبات الأمن القطري هي التي تدفع إلى مثل هذا التوازن، لا الاعتبارات التي يمليها الصراع العربي الإسرائيلي، ولا متطلبات الأمن القومي العربي. في هذا السياق يجدر التنويه بالدراسة التي نشرها “المشير عبد الحليم أبو غزالة” وزير الدفاع المصري الأسبق في صحيفة العربي، بعنوان: “هزيمة إسرائيل ممكنة بهجوم صاروخي عربي “.. والعنوان في حد ذاته يكفي للدلالة على المضمون.
2- الفرضية الثانية – الحروب النظامية المحدودة واردة
ليست الحرب مستبعدة بين الدول العربية وإسرائيل، على الرغم من الحقائق الإستراتيجية السابق ذكرها، بل هي ممكنة وواردة. لكنها ستكون – في حال نشوبها – حرباً محدودة الأهداف، على شاكلة حرب عام 1973 . أما الدافع إلى مثل هذه الحرب فهو الجمود الذي تشهده عملية التسوية، واحتمال أن تنتهي إلى انهيار كامل، في ضوء تشدد إسرائيل المتزايد في رفض إعادة الأراضي المحتلة، الأمر الذي سيكشف الموقف الرسمي العربي ويرفع عن تردده ذرائع “الحكمة” و”التجاوب” مع مبادرات “السلام”. وإذا ما أضيف إلى ذلك توجهات السياسة الأميركية في المنطقة، ومشكلات المياه، اجتمعت أسباب متعددة للاعتقاد في أن مثل هذا المواجهة المسلحة قد تنشأ في المراحل المقبلة ، حتى وإن لم تختر الأنظمة العربية ذلك.
وإذا كان من الواجب التحسب جيداً لمثل هذا الاحتمال، بإعداد خطط إستراتجية للمواجهة، وتنمية علاقة التنسيق بين القيادات السياسية والعسكرية العربية، واستعادة حال التضامن العربي على أساس الحد الأدنى القومي، لتحصين الموقع الدفاعي، والتخفيف من حجم الخسائر .. إلخ ، فإن من الواجب أيضاً تأكيد أن مثل هذه الحرب إذا لم تسفر عن مكاسب حقيقية، على صعيد استعادة الأراضي والحقوق، فإنها يمكن أن تساهم في تجديد تأجيج جذوة الصراع ضد إسرائيل التي جاءت عملية التسوية – بخاصة منذ مؤتمر مدريد – لإخمادها. ويمكن القول أن هذا الهدف الوظيفي هو على درجة كبيرة من الأهمية من المنظور الإستراتيجي الذي ينطلق من تأكيد أن الصراع ضد الصهيونية وإسرائيل هو صراع أجيال غير قابل للحسم الراهن في أية صورة من الصور. وعليه ستكون أهمية ذلك الهدف الوظيفي في التشديد على استمرارية الصراع العربي – الإسرائيلي، وفي التشديد على أن القضية التي أنتجت ذلك الصراع باقية على حالها معلقة لا تجد حلاً.
3- الفرضية الثالثة – المقاومة الشعبية المسلحة ضرورة
على فرض أن المنطقة لم تعد تتحمل حرباً جديدة مباشرة بين العرب وإسرائيل؛ فإن المواجهة العسكرية ستستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي، وستكون أداتها هي القوى الثورية المسلحة؛ ممثلة في المقاومة التي يقودها “حزب الله” في لبنان، و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” في فلسطين. وهي مقاومة يرشحها للاستمرار رفض إسرائيل استكمال الانسحاب من مزارع شبعا، ورفضها استكمال تنفيذ حتى ما سبق أن وافقت عليه في “اتفاقيات أوسلو”، والانسحاب من كامل الضفة والقطاع والقدس، والاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، مثلما تؤسسها فكرة الجهاد التي دخلت مجال الصراع ضد إسرائيل، فأعطت المقاومة المسلحة للعدو طابع الفريضة الدينية، الواجبة شرعاً، فضلاً عن مضمونها السياسي الوطني التحريري.
ربما نظر البعض إلى هذه المقاومة الشعبية المسلحة باعتبارها مجرد ممانعة رمزية للاحتلال، وضد الاستسلام، لا تعوض بحال الحرب النظامية، وهذا صحيح من وجه. لكنه لا يستطيع تجاهل قيمة تلك الممانعة وفعاليتها في مناخ التراخي العسكري والسياسي الرسمي! بل في مناخ الاستسلام الكامل للأمر الواقع. الأهم من ذلك أن هذه المقاومة الشعبية المسلحة تعبر عن حاجتين في الصراع العربي – الإسرائيلي:
أولاهما – حاجة إستراتيجية تمثلها حقيقة أن هذا الصراع هو في المقام الأول صراع أمة وشعوب ضد عدو، قبل أن يكون صراع حكومات وجيوش، وأنه – لذلك السبب بالذات – ينبغي أن يستمر كذلك.
وثانيتهما – حاجة تكتيكية تمثلها وظيفة تلك المقاومة المسلحة في استنزاف العدو – بشرياً واقتصادياً – وفي زعزعة استقراره النفسي، ثم في تنمية حس المواجهة له من قبل الشعوب العربية. ولعل هذا ما يستبين أمره من مراجعة السجل النضالي لحركة المقاومة المسلحة الشعبية للاحتلال في العقود الأخيرة، وجملة ما أنتجته عملياتها من نتائج بالغة الأهمية.
فتجربة الثورة الفلسطينية – منذ منتصف الستينيات إلى منتصف الثمانينيات – كانت في أساس جملة المكتسبات السياسية التي حققها الشعب الفلسطيني على صعيد الاعتراف العالمي بحقوقه الوطنية المشروعة، وفي أساس بناء شخصيته الوطنية المستقلة. لقد حولت اللاجئين إلى شعب مقاتل، وأسندت صمود فلسطيني الداخل، وكانت مقدمة تاريخية لإطلاق انتفاضتهم. كما أنها قدمت مساهمة عظيمة في استنهاض الوضع الشعبي، وفي تجذير منطلقات حركة التحرر الوطني العربية، وفي إلزام القرار الرسمي العربي باحترام الحد الأدنى القومي. كما أنها نجحت باستنزاف العدو، وفي إلحاق خسائر مادية وبشرية به، وتكفي ملحمة القتال والصمود في حرب عام 1982 في لبنان، ثم في حرب 2006، دليلاً على ذلك.
ومثل تجربة الثورة الفلسطينية، كانت تجربة “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” في الفترة الفاصلة بين احتلال بيروت عام 1982 وتحرير صيدا عام 1985. لقد خرجت من تحت أنقاض الحصار والدمار “بندقية لبنانية مقاتلة” طاردت فلول الجيش الإسرائيلي في بيروت إلى أن أجبرتها على الانسحاب، والانكفاء إلى الشريط المحتل الذي أقامت عليه سلطتها العملية، حتي انسحبت بليل تجرجر أذيال العار عام 2000. كذلك ساهمت هذه المقاومة في إسقاط “اتفاق 17 أيار” الإسرائيلي- اللبناني الموقع عام 1983، وعملت على استعادة التوازن الداخلي لمصلحة القوى الوطنية القومية والإسلامية في البلاد، ولقد استأنفت “المقاومة الإسلامية” التي يقودها “حزب الله” تجربة سابقتها، فأبلت بلاءً عظيماً في ضرب العدو على ساحة جنوب لبنان وفي شمال فلسطين، وأجبرته على توقيع اتفاقين معها (“تفاهم تموز” بعد اجتياحها للجنوب في عام 1993، ثم “تفاهم نيسان” بعد حرب “عناقيد الغضب” في عام 1996) بل هي أجبرته، تحت وطأة النزف البشري اليومي، إلى الاعتراف بقرار مجلس الأمن رقم (425)، ومن ثم الانسحاب من المستنقع اللبناني.
ولا تختلف سيرة “المقاومة الإسلامية” في قلب فلسطين عن الأولى؛ فقد ضربت في العمق الإسرائيلي: تل أبيب، والقدس الغربية، وعسقلان، مزعزعة الأمن الإسرائيلي العسكري والنفسي في المركز، ومؤكدة أن اتفاقات الإذعان لا يمكن أن تنهي بحال قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه، ولا أن تصادر إرادته في القتال المشروع دفاعاً عنها.
لذلك لا ينبغي التقليل من ِأهمية هذه المقاومة الشعبية المسلحة، بخاصة في مثل هذا الصراع الحضاري، بل ينبغي الرهان عليها للرد على الصلف الإسرائيلي، واستنزاف قوى العدو، لتأكيد حقيقة الاحتلال، ومن ثم حق مقاومة المحتل، ثم لإشاعة روح الصمود والمقاومة في المجتمع العربي، بخاصة مع التردي الرسمي المتزايد، وهي جميعها ذات عوائد سياسية ونفسية بالغة الأهمية. وإذا كان من الصعب حسم الصراع العربي الإسرائيلي عسكرياً، فإن وظيفة المقاومة الشعبية المسلحة هي في عدم حسمه سياسياً ضد الأمة العربية . وإذا كان التوازن الإستراتيجي مختلاً لمصلحة إسرائيل فإن من وظيفة تلك المقاومة ألا تجعل التوازن النفسي مختلاً لمصلحتها أيضاً. ومن دون المبالغة في دور هذا المقاومة الشعبية المسلحة تنبغي الإشارة إلى أن الحرب الجهادية السائدة الآن تختلف عن المحاولات السابقة من أوجه أربعة أساسية:
أولها – التطورات التكنولوجية التي ضاعفت قدرات المقاومة الشعبية المسلحة بحكم ما يتوافر لها حالياً من أسلحة متطورة وطاقة نيران.
وثانيها – أن الشرطة الفلسطينية في الضفة والقطاع، مع التعثر في المفاوضات وتطبيق الاتفاقات، أصبحت بمثابة خطر قائم في قلب الكيان الصهيوني.
وثالثها – أن استمرار الحرب غير النظامية ليس أمراً سهلاً ، بخاصة أمام عدو هائل الإمكانات، فهي تتطلب تمويلاً وتخطيطاً، وتدريباً وإمداداً بأسلحة حديثة، ومن ثم لا بد من قاعدة أرضية ملتزمة لتقوم بتقديم كل هذه التسهيلات. وفي سنوات الصراع السابقة كانت إسرائيل قادرة على الحد من خطر عمليات الاستنزاف ضدها من خلال تجفيف المنابع، أي من خلال إستراتجية الردع الجسيم لأية دولة تقوم بدور القاعدة لهذه العمليات، وحتى مع مصر استخدم الطيران الإسرائيلي تفوقه لتهديد المواقع الإستراتيجية في عمق مصر، رداً على حرب الاستنزاف التي شنتها. والجديد الآن بفضل مثلث القوة الذي سبق ذكره – الصواريخ، والجيوش النظامية، المقاومة الشعبية المسلحة – أن يد إسرائيل أصبحت مقيدة وعاجزة عن ضرب سورية وإيران، باعتبارهما الآن قاعدتي انطلاق في منظورها، بسبب تخوفها من الرادع الصاروخي. وحتى في لبنان برز مؤخراً عجز إسرائيل عن تكرار قانا، والسبب تخوفها من احتمال امتلاك “حزب الله” صواريخ تصل إلى عمق إسرائيل، وقد تأكد هذا التوقع خلال حرب لبنان عام 2006. إن ضرب قواعد الانطلاق والمساندة لم يعد ممكناً، كما أن تجفيف المنابع لم يعد متاحاً بحيث يمنع استمرار حرب الاستنزاف غير النظامية، بل إن استمرار هذه الحرب أصبح ممكناً الآن وفاعلاً لأنه أصبح جزءاً من مركب القوة الرادعة في مجموعة.
ورابعها – أن استعداد الشباب العربي للشهادة بلغ أعلى الدرجات، بينما الحلف الإسرائيلي – الأمريكي في أدنى درجات الاستعداد لخوض حروب غير نظامية، وتحمل الخسائر البشرية التي تنجم عنها.
4- الفرضية الرابعة – المقاومة الشعبية السياسية لازمة
إن الوصول إلى هدف محدد قد يتحقق أيضاً بوسائل سلمية، أو يمكن لمثل هذه الوسائل أن تلعب دوراً في تحقيقه. والوسائل السلمية كثيرة، منها أسانيد الجدال والإعلام. ويستخدم البعض وسائل الإغراء لكسب تأييد شخصيات ذات وزن وتأثير. وهناك وسائل سلمية ذات طبيعة احتكاكية محدودة؛ كالإضرابات، والتعامل السلبي برفض التطبيع والمقاطعة. وقد ترفع درجة الاحتكاك كما في العصيان المدني. ومن الوسائل السلمية ما يتجه إلى الجبهة الداخلية للعدو عاملاً على التأثير فيها، من خلال التناقضات أو التباينات أو الخلافات التي يعيشها، كأي مجتمع على وجه الأرض. ويغلب على هذه الوسائل أن تكون وسائل مساندة للنضال من أجل تحقيق هدف ما، ويخطئ من يظن أنها قادرة على إحداث نقلة التغيير الحاسم. فهناك من يظن أن التفوق الإسرائيلي هو تفوق إعلامي، وإننا إذا استطعنا كسب المعركة الإعلامية فلسوف نتوصل إلى كامل الهدف المنشود. لا شك في أهمية الإعلام، لكن ما من إعلام يترك أثراً باقياً، بل إن الناس ينسون بعد وقت ما كانوا قد تحمسوا له. لكن الإعلام يخلق فرصة لإحداث التغيير؛ لأنه يوجد تراخياً في القوة المتشبثة، وينذر بإمكانية تغيير الموازين التي تحاول تثبيتها.
في هذا السياق لابد أن يوضع في الاعتبار، عند تقييم فعالية هذه الوسائل السلمية، أن “المهاتما غاندي” لم يكن بحال مستسلما للاحتلال البريطاني، ولم يكن “مارتن لوثر كنج” مستسلما للتفرقة العنصرية، ولا كان “نيلسون مانديلا” مستسلما للمستعمرين البيض، ولم يكن أطفال انتفاضة الحجارة الفلسطينيون دعاة استسلام للاحتلال الإسرائيلي. لم يمسك أي من هؤلاء ببندقية، ولم يطلق رصاصة، ولم يخف لحظة مدى كراهيته للعدو، لكنهم جميعا قاوموا بطريقتهم الفذة، من ثم احتفظوا بقرارهم مستقلاً عن صناع السلاح؛ فالحجارة لا تستورد، كذلك رايات المتظاهرين وهتافاتهم واحتجاجاتهم.
رابعاً – مغزى الصراع الحضاري
يبدو من درس النكسة عام 1967 أن العرب وكأنهم وصلوا، بعد خمسة عقود على تلك النكسة، إلى ما يشبه إعلان اليأس من المواجهة مع الصهيونية، والاعتراف بدولة إسرائيل كأمر واقع، دخل في نسيج المنطقة الجغرافي والتاريخي، وأصبح عصيّاً البحث في أسسه وخلفيات وجوده، لكأن ما تنبأ به “نجيب عازوري”، في كتابه “يقظة الأمة العربية” قبل أكثر من قرن، بات قريباً من نتيجته الحتمية، لكن في غير ما أمل العرب، وقدموا من أجله الدم والأرض والمال. فقد رأى “عازوري” أن قيام إسرائيل سيعلن بدء صراع بين القوميتين العربية والصهيونية لن ينتهي إلا بقضاء إحداهما على الأخرى. إلا أن العرب الذين انساقوا في هذا الصراع بشكل وبآخر، على مدى القرن الماضي، وكانت “النكسة” كبرى خيباتهم المتكررة وهزائمهم المتتالية، لم يدفعوا به في اتجاه مواجهة حضارية شاملة، واستغرقوا في أزماتهم المستعصية وتخلفهم المزمن، فيما كانت إسرائيل تحقق انجازات متقدمة في كل المجالات العسكرية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
انصرف العرب بعد الهزيمة الى جلد الذات، فيما استمروا في خطابهم السياسي المكرر، يشجبون العدوان، ويمجدون قيم العدل والحق، كأنما وجود إسرائيل في فلسطين مسألة أخلاقية، وليست مسألة وجودية يحكمها منطق القوة. فقد واجهوا الاحتلال الصهيوني قبل النكسة، وبعدها، ببنية حضارية مأزومة، مهدرين قرناً كاملاً من الصراع كانت حصيلته تقهقرهم، وضياع حقوقهم الوطنية والقومية، ووقوفهم على أبواب القرن الحادي والعشرين حيارى من أمرهم، خائبين قلقين، يساورهم رعب المستقبل وتحدياته. لم يتوجه ردهم على تلك “النكسة” إلى تكوين الكيان القومي أو السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الفكري الذي يمكنه أن يواجه الدولة الصهيونية.
هكذا لم يتمكن العرب، بعد خمسة عقود على النكسة، من أن يجعلوا الإنسان العربي يطمئن، ولو على تأمين حاجاته الأساسية؛ من غذاء ودواء وتكنولوجيا وعلم وسلاح، حتى أن الوطن العربي، في مطلع هذا القرن، لا يزال يستورد (75 %) من غذائه، و(90 %) من سلاحه، و(95 %) من علومه الحديثة وتكنولوجياتها. وإذ يصل عدد العرب تحت خط الفقر إلى ثلث السكان، وتظل الطبقة الوسطى في تدهور مستمر، تذهب الدراسات العلمية المتواترة إلى أن توافر الغذاء للكم الكبير من سكان الوطن العربي، في الربع الأول من هذا القرن، من أهم المشكلات التي تواجه العرب، حيث الفجوة الغذائية العربية تزيد حالياً على (50 %) ويدفع الوطن العربي أكثر من (25) بليون دولار سنوياً تغطية لاحتياجاته الغذائية، الرقم الذي سيتضاعف عام 2025 مع تضاعف السكان العرب.
ولم يتمكن العرب من إحداث تغيير سياسي في أنظمتهم التسلطية، يضعهم في الاتجاه الدولي الراهن نحو الديموقراطية، فسؤال الحداثة السياسية لا يزال الأكثر ثقلاً، حيث العرب، مطلع هذا القرن، هم الأقل تمتعاً بالحرية، ولم تنشأ بعد في الوطن العربي، على ما تشير تقارير “التنمية الإنسانية العربية”، دولة الحق والقانون والمساواة، ولا يزال العقد الاجتماعي اعتباطياً ومفتقراً إلى الشرعية، بينما التكوينات الطائفية والقبلية والعشائرية المتخلفة هي الفاعلة والسائدة، والدولة الوطنية والقومية مهددة على الدوام بالانتكاس إلى الحرب الأهلية والنزاعات ما قبل الوطنية وما قبل القومية.
كذلك يبرز، بعد خمسة عقود على النكسة، سؤال العلم والثقافة، فقد وصل عدد الأميين العرب الى تسعين مليوناً عام 2015، وتبلغ الأمية العربية عموماً، وأمية النساء بخاصة، مطلع هذا القرن، معدلات قياسية حتى بالنسبة إلى الدول النامية؛ حيث أن الدول العربية لا تنفق سوى (0.2 %) من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، مقارنة بنحو (2.4 %) على الصعيد العالمي، ونحو (4.96 %) في إسرائيل، التي تتفوق على العرب بنحو (70 مرة) في تسجيل الاختراعات، وتصدر سبعة أضعاف ما يصدرون من تكنولوجيا عالية.
في ظل هذا التردي الاقتصادي والسياسي والعلمي والثقافي لم يتمكن العرب طيلة العقود الخمسة الماضية من إبداع خطاب سياسي يواجه خطاب الصهيونية؛ فظل الفكر العربي أسير صيغ ما قبل النكسة، تلك الصيغ الملتبسة ، التي قوامها الإقصاء والإلغاء، وتمجيد الماضي التاريخي، ومآلها الدوران المتواصل في كنف مسلّمات وبديهيات تكرر ذاتها إلى ما لا نهاية. هكذا لم يحسم أياً من إشكالياته الرئيسة؛ من إشكالية التراث والحداثة، إلى إشكالية الآخر والغرب، إلى إشكالية الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية. ولم يجد بعض الإيديولوجيين العرب حرجاً في استعادة التوجهات التوفيقية في القرن التاسع عشر، حتى أن هناك الآن من يطرح “أسلمة الديموقراطية”، أو رفضها بالكامل لمصلحة الشورى الإسلامية. بهذا لم يفلح الخطاب السياسي العربي في إحداث أي تغيير نوعي ذا شأن في بنية المجتمع والدولة.
ثمة هزيمة حضارية إذاً جرى تجاهلها، أو التعتيم عليها، بدلاً من الولوج الى خلفياتها التاريخية المعتمة التي حالت دائماً دون مواجهة حضارية عربية متكافئة مع الصهيونية. لقد كان التصور العربي، طيلة العقود التالية بعد النكسة، أن استيراد الأسلحة وتكريسها سيؤديان حتماً إلى تصفية الحساب مع إسرائيل، تستعاد معها الحقوق العربية المغتصبة، لكن العرب على الرغم من إنفاق آلاف بلايين الدولارات على السلاح والجيوش منذ النكسة إلى اليوم، لا يزالون يراوحون مكانهم في المأزق ذاته، لا تزال أراضيهم مغتصبة، وحقوقهم مستباحة، ولا تزال المطامع الإسرائيلية تهددهم من كل جانب.
إن إدراك حقيقة أن المواجهة مع إسرائيل والصهيونية هي مواجهة حضارية شاملة، ليس الصراع العسكري إلا جانباً منها فقط؛ هو بداية التغيير الفعلي في الزمن العربي، لكن هذه المواجهة يبدو أنها لا تزال بعيدة، وأن لا بد لمزيد من الانتظار بعد .. ما معني ذلك؟ وما مغزى الصراع الحضاري؟
ينتمي الصراع ضد إسرائيل والصهيونية إلى نمط “الصراعات التاريخية – الاجتماعية الممتدة”، من هذه الخاصية يكتسب هذا الصراع أبرز جوانب خصوصيته، التي تنصرف إلى أنه صراع حضاري طويل الأمد، ناجم عن استهداف قوى الهيمنة الغربية المتغيرة – التي تعتبر الحركة الصهيونية جزءًا لا يتجزأ منها – الدائرة العربية، وفلسطين في القلب منها، باستعمار استيطاني عنصري صهيوني، إلى جانب وسائل الهيمنة والاستغلال الأخرى. إن الطرف الأول في هذا الصراع هو تحالف قوى الهيمنة الغربية مع إسرائيل والحركة الصهيونية. والطرف الآخر هو شعب فلسطين وأمته العربية، وشعوب دائرة حضارته العربية الإسلامية، وجميعهم ينتمون إلى هذه الحضارة. يترتب على ذلك النتائج الآتية:
1 – إن عملية التسوية الجارية تؤكد، قبل غيرها، أن الصراع العربي – الإسرائيلي هو صراع حضاري طويل الأمد، وأن هذه المقولة لم تكن صحيحة ودقيقة بمثل ما هي عليه في هذه المرحلة. كان ظن كثيرين – في ما مضى – أن نزع البعد الحضاري يمكن أن يفتح الباب أمام تسوية تبنى على “التنازل المتبادل” عن الخلفية العقائدية للمشروعين المتجابهين: المشروع العربي والمشروع الصهيوني، مثلما خُيل لهم أن اختصار هذا الصراع جائز متى اقتنع الطرفان بقبول “حلول مرحلية” تلغي مشروعات “إسرائيل الكبرى”، و”فلسطين من البحر إلى النهر”. لكن تبين للذين أسقطوا هذه “الخلفية الحضارية للصراع”، واستسلموا لتيار “الواقعية”، و”الاعتدال في المطالب”؛ أن إسرائيل لم تتخل عن جوهرها العقائدي، أو تنزع “خلفيتها الحضارية”، ولا هي ارتضت نهج الواقعية السياسية، والاعتدال في أهدافها ومطالبها. لقد كانت “اتفاقيات أوسلو” تمثيلاً أميناً ودقيقاً لمدى الفارق والاختلاف، بل والتناقض الجذري، بين “الرؤيتين”، مثلها في ذلك مثل غيرها من اتفاقيات ومعاهدات التسوية.
2 – مثل هذا “الوهم السياسي” كان “وهم الحسم العسكري” سبباً في ضعف الوعي بحقيقة الطبيعة الحضارية للصراع؛ حيث يترتب على ذلك أنه لا يسهل تصور حل عسكري لحسم هذا الصراع مرة واحدة وإلي الأبد. لقد تم إسناد مهمة حل “المسألة اليهودية” إلى الدولة وأجهزتها، أي اعتبرت بمثابة “مهمة رسمية”، ثم ثبت – مع تلاحق النكسات – أن العلة ليست فنية (ضعف القدرات العربية)، بل هي فكرية وثقافية أيضاً، أي تتعلق بالمنهج الذي تناولنا به إسرائيل والصراع العربي الصهيوني. اندفعنا كثيراً – في المراحل الأولى للصراع – إلى استصغار شأن هذه “الدويلة”، ثم عزونا قوتها – في ما بعد – إلى الدعم الاستعماري، قبل أن نبدأ في تبين المصادر الداخلية والذاتية لقوتها، رغم الميل إلى اختزالها في “القدرة العسكرية” الضاربة، والتفوق التكنولوجي والعلمي، أي في الجوانب المادية على وجه الحصر. لعل الأوان قد آن لإعادة تأسيس الوعي العربي، الرسمي والشعبي ، تجاه إسرائيل على قواعد جديدة ومنطلقات شاملة. لا شك في أن إسرائيل تنطوي على: جيش قوى، وتكنولوجية متقدمة، واقتصاد متين، لكنها أيضاً نظام سياسي حديث، وتنظيم مجتمعي قوى – رغم ما تشهده من حدة الصراعات السياسية، والانقسامات الاجتماعية والثقافية – وعقيدة دينية قابلة للتوظيف الإيديولوجي والسياسي، وحافز وجودي فاعل (تنظيم “الشتات” اليهودي في كيان “قومي” جامع)، وسوى ذلك من العوامل التأسيسية العميقة، التي يتغذى منها بقاء إسرائيل وتفوقها على العرب أجمعين.
3 – أن يكون الصراع ضد إسرائيل صراعاً حضارياً معناه أن الذين سيخوضونه ضد إسرائيل والصهيونية العالمية وقوى الهيمنة الغربية لن يكونوا الدولة والجيوش الرسمية حصراً، بل المجتمعات العربية أيضاً، ومخزونها الحضاري الثقافي العظيم – من ناحية، وأنه لا يقبل بفرض حل سياسي منقوص؛ لأن مثل هذا الحل المفروض بفعل ميزان القوي، والأمر الواقع، لن يكون في ميزان التاريخ أكثر من هدنة ظرفية – من ناحية ثانية . أما الذي يكسب هذا “الصراع الحضاري”؛ فهو من يستطيع أن يعبئ سائر موارده تعبئة فاعلة، وهي ليست الموارد المادية فقط، بل الموارد الروحية والرمزية أيضاً. صحيح أن الحرب تتقرر بميزان القوى بين المتحاربين، مع ذلك ينبغي ألا نخطئ الوجه الآخر للحرب، وهو أنها “صراع إرادات”؛ يهزم فيها من تضعف إرادته وتهن وترتهن، وينتصر فيها – في المطاف الأخير – من يحفظ إرادته من الزلل والزوال، ومن يعززها برصيد مادي ومعنوي، يضمن لها التمكن والتمكين. بهذا المعنى لا يصبح الانتصار أو الهزيمة مجرد انتصار جيش في معركة أو هزيمة آخر فيها، بل يصبح الانتصار تعبيراً عن “فرض الإرادة” على العدو، مثلما تصبح الهزيمة الفعلية هي “الهزيمة النفسية”.
4 – في ضوء مسار الصراع ومسيرة التسوية؛ يبدوا أنه ليس لدى العرب – في الأمد المنظور – ما يعزز إمكانية نجاحهم في تحقيق انتصار عسكري حاسم على إسرائيل. مع ذلك؛ فإن صراعهم ضد الدولة الصهيونية سيستمر، وسيتخذ في المراحل المقبلة، شكل صراع حضاري: ثقافي، وسياسي. لن يكون في وسع الدولة والجيش أن يخوضا هذا الصراع، بل ستكون قواه وأدواته هي المجتمعات العربية، والثقافة العربية، والإسلام، والمسيحية الشرقية. وسيحتاج كي يكون فاعلاً إلى كسب معركة الديموقراطية في الدول العربية، على النحو الذي يؤمن إطلاقاً للطاقات والإرادات، ويرد على إسرائيل بطرح مشروع تاريخي في المنطقة، يضعف من قدرتها على التميز السياسي أمام جمهورها اليهودي، وأمام العالم. في هذه المرحلة تبدو تباشير هذا النوع من الصراع في المعركة الجماهيرية ضد التطبيع، وفي ظاهرة “الصحوة الإسلامية” الإيجابية والمستنيرة، التي ترفع راية “الجهاد”، ثم في نضال المثقفين القوميين، ومؤسسات المجتمع المدني، ضد تزوير التاريخ ومحو الذاكرة القومية، ومن أجل بناء رأي عام وطني وقومي مناهض للهزيمة.
5 – إن الرهان على حركة التاريخ والمستقبل ليس ضرباً من الاتكالية، بل هو يصدر عن إيمان بضرورة النجاح في تعبئة كل الموارد والإمكانات العربية، وتحقيق الانتصار في هذا الصراع الحضاري الممتد، مثلما هو إيمان باستحالة تعايش الكيان الصهيوني مع محيط عربي معاد، فضلاً عن التناقض الجذري بين طبيعة ذلك الكيان وتوجهاته – من ناحية، ومتطلبات السلام الحقيقي، وفي مقدمها: التحرير والعدل والمساواة – من ناحية أخرى، بينما يلتزم ذلك الكيان التزاماً معلناً وصريحاً بقيم العنصرية والعدوانية والتوسعية. إن تحديد “القيم الحضارية” في هذا الصراع الحضاري يكتسب أهميته من حقيقة الدور الذي تمارسه هذه القيم بالنسبة إلى استمرار الصراع وحسمه. إن العنصرية مهما تسلحت بالقوة الغاشمة لا يمكن أن تسكت مقاومة الشعوب لها، لأنها لا تعدهم إلا بالظلم في أبشع صوره، وبامتهان كرامتهم. كذلك فإن “السلام” المفروض بالقوة هش لا يصمد، وسرعان ما ينكسر، واعتماد “ازدواجية المعايير” يعني غياب العدل، من ثم المقاومة والكفاح لاسترداده وإحقاقه. هنا تنبغي استعادة الخبرات التاريخية البارزة؛ بخاصة: خبرة الحروب الصليبية، وخبرة حالات الاستعمار الاستيطاني في أفريقيا، وخبرة “معاهدات فرساي” بعد الحرب العالمية الأولى، التي تضمنت في نصوصها وأحكامها أصول الحرب العالمية الثانية.
خامساً – الانتفاضة الثالثة
تتسم “انتفاضة القدس” الحالية بسمات خاصة تميزها عما سبقها من حركات فلسطينية؛ إذ أنها تتحرك حتى اللحظة تبادلياً في الجغرافيا الفلسطينية. وقد بدأت بزخم جماهيري مرتفع نسبياً لكنه محصور مناطقياً، ثم ما لبث أن تقدم الفعل النوعي على الحراك الجماهيري، ومنتشراً في المناطق الفلسطينية كافة. وهي ذات نسق متفاوت الوتيرة من حيث التصاعد والهبوط في فعالياتها. وأكثر ما يميزها تسيد فردية التحركات، بخاصة في العمل النوعي، على مناخها العام. ولا تزال الانتفاضة الحالية على الرغم من ذلك غير واضحة الشخصية، ويكتنف مستقبلها سحب كثيفة من الغموض، وتواجه تحديات عدة.
لقد أخذ شعب فلسطين يعلن عن مخاض مرحلة جديدة، بدأت بـإطلاق “هبة” محدودة، لكنها تشمل شعب فلسطين في كل مكان (في الأراضي المحتلة منذ عامي 1948 و1967، وفي الشتات)، للعودة بالقضية الى جذورها الأصلية، رفضاً لغايات المشروع الاستعماري – الصهيوني الأساسية، ورفضاً لحال الاستسلام العربي، التي بدأت في بعض الاوضاع تتحول إلى حال من التواطؤ.
قد يبدو المخاض طويلاً – ابتداءً بحال محدودة لا تزال تحمل اسم “هبة” رغم أنها تمثل الانتفاضة الثالثة – لكنه منذ بدايته كان ولا يزال صراعاً طويلاً، يذكر بمرحلة السنوات المائتين التي استغرقها مشروع “الدولة الصليبية” قديماً، حتى سقط. كما يذكر بدولة “الأبارتيد” السابقة في جنوب افريقيا، التي امتدت لثلاثة قرون ونصف القرن حتى سقطت.
لقد انخرط المجتمع الفلسطيني في هذه الانتفاضة استناداً إلى إرادة التحرر ورفض الاحتلال، مع الوضع في الاعتبار أن الانتفاضة الجارية اليوم هي الثامنة عشرة في سياق الانتفاضات والثورات والهبّات الشعبية التي شهدتها فلسطين خلال مائة عام منذ الاحتلال البريطاني في عام 1917 حتى اليوم. لقد انطلقت الانتفاضة في البيئة الجغرافية لاتفاق أوسلو؛ حيث الكثافة السكانية الفلسطينية محاصرة في داخل المدن، والريف الفلسطيني، في معظمه، تحت السيطرة العسكرية والإدارية الإسرائيلية المباشرة، وأكثر من 522 حاجزاً إسرائيلياً يتحكّم بحركة الفلسطينيين في كل مكان. ويلاحظ أن الضفة الغربية دخلت في هذه الانتفاضة من دون أن يكون لديها بنى تنظيمية فاعلة، باستثناء حركة “فتح”، وهي حال تختلف عما كانت عليه الحال في انتفاضتي 1987 و2000.
لقد حلت هذه الهبّة على فلسطين بعد سنوات من التحرك السياسي في الاتجاه المعاكس، وغداة استثمار دولي مديد في الميزانيات التشغيلية للسلطة الفلسطينية الذي كرّس سياسات الإقراض البنكية وتوسيع التوظيف الحكومي، الأمر الذي أبعد الكتلة السكانية الفلسطينية عن الإنتاج الزراعي والحرفي الذي كان يضمن قدراً من الاستقلالية في الدخل وفي الموقف السياسي.
أما على المستوى السياسي، فالانقسام الفلسطيني ما برح سيد الموقف، أكان في الضفة الغربية، أو في قطاع غزة، ما يعني أن الانتفاضة الحالية إندلعت في أحوال اجتماعية وسياسية واقتصادية وأمنية معاكسة لها، الأمر الذي يفسر، ولو جزئياً، تركزها في المدن، لا سيما القدس والخليل.
من ناحية اخرى يلاحظ أن الانتفاضة نشبت عشية عام 2016 الذي سيتساوى فيه عدد اليهود والفلسطينيين في فلسطين التاريخية. وهذا الشأن سيكسر، أول مرة، التفوق السكاني اليهودي الذي صنعته حرب 1948، ويضع المشروع الصهيوني أمام معضلة وجودية؛ تتمثل في أن اليهود يحاولون السيطرة على شعب يساويهم عدداً في نطاق الجغرافيا نفسها.
إن عرض البيئة الإقليمية والدولية والمحلية الحاضنة للانتفاضة، يوضح أن دور الولايات المتحدة ينحسر، بالتدرج، في العالم، في الوقت الذي تعجز أية قوة دولية عن ملء الفراغ الذي يخلّفه هذا الانحسار.
وبناء على تلك المقدمات يمكن عرض أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل الانتفاضة من الزاوية الفلسطينية:
الأول – احتمال اتساع رقعة الانتفاضة جغرافياً، وتوسعها بشرياً، وهذا الاحتمال رهن تغير موقف السلطة الفلسطينية وتبنّي هذا الخيار.
والثاني – إمكانية استمرار وتيرة الانتفاضة كما هي عليه اليوم، أي استمرار العمليات الفردية من غير أن يتمكن أي طرف من فرض تسوية سياسية على الطرف الآخر تتوقف بموجبها هذه العمليات.
والثالث – احتمال التوصل إلى تسوية لوقف الانتفاضة ممكناً، لكنه قليل الاحتمال.
والرابع – الذوبان التلقائي والمتدرج لعمليات الطعن والدهس جراء القمع واستنزاف قدرات الناس، وهذا الاحتمال هو الأسوأ لأنه يُنهي الانتفاضة من دون أي ثمن سياسي.
يرجّح الاحتمالين الثاني (أي استمرار الانتفاضة على المدى المتوسط)، وكذلك الاحتمال الرابع، (أي الذوبان التلقائي) مع أن تقدير الموقف نفسه يقرّ بأن جميع الاحتمالات تبدو متقاربة لكنها غير واضحة المصير. بناء على هذه الرؤية، وعلى تقدير الموقف استطراداً، يلزم دفع الأمور نحو استدامة المواجهة؛ والبحث عن أدوات فاعلة لدعم الانتفاضة، كي لا تبقى فردية الطابع؛ وتطوير فاعلية المواجهة في القدس والخليل؛ وصياغة بدائل شعبية مجدية تشجع الناس على الانخراط في فاعليات الانتفاضة؛ وكشف جرائم الاحتلال أمام العالم بصورة متواصلة.
هنا ينبغي أن توضع المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية لإسرائيل في الاعتبار، على أساس أنها باتت واحداً من الميادين الرئيسة للنضال الوطني والأممي ضد إسرائيل. كما ينبغي أن يوضع في الاعتبار دور الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال منذ عام 1948، في دعم الانتفاضة والضغط على إسرائيل.
أما من جهة الاحتلال؛ فيعتمد توجه الحكومة الإسرائيلية في معالجة الانتفاضة على درجة تطورها وتصاعدها بالدرجة الأولى، وتفاعلات الائتلاف الحكومي، وحجم الضغط الجماهيري الإسرائيلي، فضلاً عن الضغوط الدولية في حال تصاعدها. إن أمام الحكومة الإسرائيلية عدة خيارات في مواجهة الانتفاضة:
الخيار الأول – اجتياح كامل الضفة الغربية، أو بعض مناطقها، والبقاء فيها لمدة تصل لعدة أشهر، لإدارة الأزمة بانتظار انحسارها.
هذا الخيار كانت تدفع إليه بعض قوى اليمين، لكن تراجع عنه بعضها لعدم جدواه. وهو مسار لا فعالية له، لأنه لا توجد أهداف منظورة تمكن مهاجمتها والسيطرة عليها. كما أن قوى الأمن والجيش ومعظم الساسة لا يؤيدونه لعدم فاعليته، وتخوفهم من أن يؤدي إلى تصاعد الانتفاضة بدلاً من وقفها.
الخيار الثاني – انسحاب أحادي من بعض مناطق الضفة الغربية دون اتفاق مع السلطة الفلسطينية، على غرار خطة “شارون” في غزة، مع ضم الكتل الاستيطانية الكبيرة، وإبقاء مناطق واسعة من المنطقة (ج) لمصلحة الاحتلال.
إن تنفيذ هذا الخيار سيلاقي مصاعب ليست بالهينة، مع أن بعض أطراف اليمين تزينه أمام “نتنياهو”، بالرغم من أن الولايات المتحدة ستدخل في أجواء الانتخابات وستنشغل بها عن المنطقة، كما أن البيئتين الدولية والإقليمية منشغلتين عن الملف الفلسطيني.
إن خيار الضم يروق لليمين المشارك في الائتلاف، لكن خيار الانسحاب الأحادي غير مقبول، بالتالي يعتمد تمرير هذا الخيار على قدرة “نتنياهو” على إقناع شركائه بهز
إن مفاعيل الانتفاضة لا تزال غير ضاغطة لدرجة تجبر الحكومة الإسرائيلية على التوجه نحو هذا الخيار. وهو على الأغلب سيؤجج الانتفاضة ويشعلها أكثر.
الخيار الثالث – الهجوم على جبهة غزة لتسليط الأضواء عليها، بهدف تجاوز الانتفاضة في الضفة والتغطية عليها.
إن عدم سد الثغرات التي ظهرت في الجيش الإسرائيلي من جراء حرب غزة عام 2014 حتى الآن، لا تشجع على الدفع تجاه هذا الخيار.
إن هذا الخيار تكاليفه عالية عسكرياً، ولا تؤيده المؤسستين الأمنية والعسكرية حتى الآن. كما أن الأداء غير المشجع للاقتصاد الإسرائيلي حالياً يقلل أيضاً من فرصه.
الخيار الرابع – التنسيق مع السلطة، وتحريك مسار التسوية، لامتصاص الاحتقان، وتنفيس مفاعيل الانتفاضة، وتشجيع السلطة على بذل جهود أكبر لوقف الانتفاضة.
إن مكونات الائتلاف الحكومي غير جاهزة لهذا الخيار. فضلاً عن ضعف قيادة السلطة، وعدم قدرتها على تسويق مشروع التسوية منخفض السقف يلائم متطلبات اليمين. فضلاً عن عدم اقتناع الولايات المتحدة بجدوى هذا المسار في ظل وجود الحكومة الإسرائيلية الحالية.
الخيار الخامس – معالجة الانتفاضة من خلال مواجهة متوسطة المستوى، بمراوحة بين الضغط والاحتواء، والرهان بالسيطرة عليها بهذا التكتيك.
إن المعطيات المتوافرة في الميدان تؤشر أن هذا هو المسار المعتمد حتى الآن، بخاصة أنه يعد أقل تكلفة من غيره من الخيارات سياسياً وعسكرياً.
هذا الخيار يوفر أمام “نتنياهو” فرصة مركبة تجمع بين الاحتفاظ بائتلافه الحكومي، ومعالجة الانتفاضة بتكلفة معقولة، وفي الوقت ذاته مقاومة تحريك المسار السياسي الذي تطالب به بعض قوى المعارضة والأجهزة الأمنية.
تتراوح خيارات “نتنياهو” بحسب المعادلة القائمة الآن بين الاستمرار في الخيار الحالي؛ خيار الضغط والاحتواء، وبين التوجه لتحريك مسار التفاوض. والمسار الأخير لن يندفع إليه إلا حينما تتصاعد الانتفاضة إلى مستويات أعلى، وفي حال توافر قاعدة توافقية له داخل ائتلافه الحكومي، وربما توسيع أو تعديل ائتلافه في الحال القصوى. من المستبعد في الوقت الراهن أن يلجأ “نتنياهو” للهروب إلى الأمام من خلال التصعيد على جبهة غزة، إلا إذا تصاعدت الانتفاضة بشكل شامل، وأفرزت ضغوطاً لا يمكن تجاوزها، ولم يتمكن في الوقت نفسه من إقناع ائتلافه بتحريك مسار التفاوض.
مؤخراً أخذت أجهزة الأمن الإسرائيلية تكثر من الحديث عن تراجع حدّة الانتفاضة، ومن المؤكد أنها ترمي من وراء ذلك الإيحاء بأن جهودها في مواجهتها ناجحة، وأن الظروف تتحسّن سواء عبر العلاقة مع السلطة الفلسطينية، أو عبر سياسة “ضبط النفس”. مع ذلك فإن التقديرات الأمنية الإسرائيلية تتحدّث عن تخوّف من احتمال عودة التصعيد في هذه الانتفاضة، التي لم تعد تُصرّ على تسميتها “موجة إرهاب”، إنما صارت تقرّ بأنها انتفاضة ثالثة.
وفي كل الأحوال فإن الأداء الرسمي الإسرائيلي تجاه الانتفاضة يظهر حجم الخلاف بين المستويين السياسي والعسكري. وفيما تتراجع شعبية رئيس الحكومة “نتنياهو”، الذي يصطدم بانفضاض متزايد للجمهور من حوله، رغم تبنّيه لإيديولوجيا التقرّب من الرأي العام، يجد الجيش نفسه يدير سياسة. ومؤخراً بدا رئيس الأركان الجنرال “آيزنكوت” وكأنه يختط للجيش سياسة مغايرة للسياسة التي يريد “نتنياهو” واليمين انتهاجها. ويبرز الخلاف بشكل جوهري أكثر من أي مجال آخر في الموقف من السلطة الفلسطينية، وفي تحديد دوافع الانتفاضة الحالية وسماتها.
فنتنياهو، ومن خلفه الائتلاف اليميني الذي يقوده، والرافض أصلاً لمبدأ الحل على أساس دولتين لشعبين، معني باتهام رئيس السلطة الفلسطينية بأنه يقف خلف “موجة الإرهاب”. ومثل هذا الموقف يساعد “نتنياهو” ليس فقط على تحريض الشارع الإسرائيلي ضد أية مفاوضات مع السلطة، وإنما يوضح للقوى الدولية أن لديه مبرراً في عدم الجلوس إلى طاولة مفاوضات والتساهل مع السلطة.
لكن الجيش الإسرائيلي، الذي يرى الكثير من المخاطر التي تحيط بالدولة، ويحاول أن يكون متأهباً لمواجهتها، يعمل على إبعاد نفسه قدر الإمكان عن التورط في إدارة الاحتلال بأكثر من قدراته. وتظهر المعطيات أن الانتفاضة تشغل حالياً حوالي 28 كتيبة من الجيش، في حين أن تصاعدها قد يضطر الجيش إلى إشغال ما لا يقل عن 100 كتيبة. وعدا ذلك فإن التصعيد في الضفة الغربية يقود بالضرورة إلى تصعيد لاحق مع قطاع غزة، الذي غالباً ما ينتهي إلى حرب تتطلّب قدرات وموارد وقوات ليست قليلة.
وخلافاً للأوضاع على الجبهات الأخرى، يعرف الجيش الإسرائيلي أن صراعه مع الفلسطينيين لا يسمح له أبداً بتحقيق نصر حاسم، أو حتى ردع نهائي. فأية عملية إسرائيلية مهما كبرت لا يمكنها أن تحول دون عودة المقاومة للفعل أكثر من أيام أو أسابيع. لذلك فإن كل جهد يبذله الجيش على هذا الصعيد لا يضمن تحقيق نتائج على المدى البعيد. وهذه سنّة الحياة مع المقاومة التي تدفع الجيش قبل غيره للإعراب طوال الوقت عن اقتناعه بعدم توافر حل عسكري، وعن الحاجة للتفكير في حل سياسي.
وهنا يتجه الجيش لإظهار اختلافه عن المستوى السياسي، منطلقاً ليس فقط من اقتناعه، وإنما أيضاً من مصلحته. فهو يريد القول للإسرائيليين أن عجزه عن حسم المعركة مع الفلسطينيين يعود لا إلى خلل في بنيته وأدائه بمقدار ما يعود إلى خلل في أداء الحكومة. وباختصار الجيش معني طوال الوقت بالقول للجميع طالبوا المستوى السياسي بالعثور على حل، فكل دورنا هو السعي للمحافظة قدر الإمكان على الهدوء إلى حين العثور على الحل السياسي. لكن من الواضح أن استمرار الصراع بين المستويين السياسي والعسكري قاد واقعياً إلى تلاشي فرص الحل السياسي. فالمستعمرات، التي بات العالم يعرف أنها عقبة أمام السلام، تتجذّر بصفتها كذلك. مَن أرادوا المستعمرات كعقبة أمام السلام، بخاصة بعد اتفاقيات أوسلو، أفلحوا في ذلك أكثر من سواهم. والمسألة لم يعد بالوسع حلها عبر فكرة تبادل أراضٍ، إنما صارت أعقد من ذلك. فوجود المستعمرات يحول فعلياً دون أي تواصل جغرافي بين أراضي السلطة الفلسطينية – من جهة، ويساعد في استمرار السيطرة الإسرائيلية فعلياً عليها – من جهة أخرى.
وأمام هذا الواقع تتبارى مختلف الجهات في إسرائيل في الدوران حول النفس بحثاً عن سبل موضوعية لحل، من دون أن تعثر على ذلك. حكومة “نتنياهو”، التي وافقت لفظاً على مبدأ دولتين لشعبين، تعجز حتى الآن عن تعريف هذه الموافقة ورسم حدودها. ومؤخراً قالت الإدارة الأميركية أنها تشك في أن حكومة “نتنياهو” لديها ما يثبت تمسكها بهذا المبدأ. لكن ما هو أهم من ذلك أن العديد من قادة الليكود ومن وزرائه لا يخفون رغبتهم حتى في التخلص من السلطة الفلسطينية، وثمة بينهم من يؤمن أن التخلص من السلطة يلغي اهتمامات الفلسطينيين بالمقاومة، ويبدّد اهتمام العالم بالقضية.
مع ذلك، لا شيء أوضح اليوم مما كان معروفاً للفلسطينيين منذ زمن بعيد: القضية الفلسطينية باقية ما بقي الفلسطيني على أرضه، وما بقي لدى العرب إحساس وأمل بأنهم بحاجة للوحدة على طريق المستقبل، وما دام في العالم مَن يقف إلى جانب الحق. ومرة تلو المرة، سواء ارتفعت الموجة أو تدنّت، تدرك إسرائيل فعلاً أن الفلسطيني لن يتخلَّ عن حقه. فالانتفاضة الجارية قالت، كما سبق للانتفاضات والهبات السابقة أن قالت: لا سلم ولا هدوء قبل أن ينال الفلسطيني حقه، وأن إسرائيل إلى زوال.
سادساً – إستراتيجية بديلة
يواجه الشعب الفلسطيني وضعاً سياسياً قاتماً في ظل قيادته الضعيفة، وتجزُّئه الجغرافي والإداري، وفقدانه الركيزة السياسية، هذا بالإضافة الى النزعة الفردية التي أخذت تطغى على مجتمعه المدني. فمشروع بناء الدولة، الذي حمل في طياته وعوداً كثيرة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات لم يعد يرقى الى اعتباره هدفاً سياسياً بديلاً يحظى بتأييد شعبي، بل بات يفقد مؤيديه باطراد بالرغم من اعتراف 137 بلداً بالدولة الفلسطينية. إلا أنه من الواضح أن الوهن السياسي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني يرجع في معظمه إلى غياب التفكير الإستراتيجي، وذلك بالرغم من بعض الجهود المنظَّمة التي تبذلها بعض المراكز الفكرية والبحثية الفلسطينية في هذا الصدد. فقد أصبح من الأهمية بمكان أن يضع الفلسطينيون إستراتيجيةً، سواء بمشاركة الفصائل السياسية داخل منظمة التحرير وخارجها أو دون مشاركتها. ففي ظل غياب الإستراتيجية سوف تُستنزف الطاقات والتكتيكات التي تبذلها تلك الاطراف، وبالتالي لن تحقق النتائج المرجوة منها.
إن التفكير الإستراتيجي السليم يعتمد على إجراء تقييم دقيق للبيئة السياسية الحالية، وما تحتويه من فرص وتحديات داخلية وخارجية. ومن الأهمية بمكان أن يُجري الفلسطينيون تقييماً دقيقاً لاستراتيجيات إسرائيل كونها الطرف الأقوى الذي يقرر نطاق الصراع ومجرياته إلى حد بعيد. اذ أن من الأسباب الرئيسية لاعتبار “اتفاقات أوسلو” كارثةً سياسية أن القادة الفلسطينيين، وبسبب افتقارهم إلى الكفاءة أو يأسهم لإيجاد حل، صدَّقوا رغبة إسرائيل المعلنة في إقامة دولة فلسطينية، وعملوا على تحقيق ذاك الهدف السياسي. سوء التقدير هذا، وما تبعه من تنازلات، انعكس بشكل كارثي على قدرة الفلسطينيين التفاوضية ووحدتهم وقدرتهم على صياغة إستراتيجية وطنية متماسكة.
فالفلسطينيون يعيشون الآن في “حل اللادولة”، الذي تأمل إسرائيل أن تحتويهم فيه إلى حين أن تتمكن من تحقيق رؤيتها المتمثلة في منح اليهود حقوقاً أكثر ومختلفة عن حقوق غير اليهود، وبالطبع مع الحفاظ على أغلبية يهودية في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها المباشرة. فاستراتيجية إسرائيل في تحقيق رؤيتها ثابتة إلى حدٍ كبير منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية عام 1967، وتتمثل في احتواء الفلسطينيين من خلال رفض ترتيبات الوضع النهائي، سواء كانت سيادةً فلسطينية في إطار دولتين، أو حقوقاً متساويةً في دولةٍ واحدة ثنائية القومية. وبالنظر إلى أن إستراتيجيةَ إسرائيل مبنيةٌ على الوفاء بحقوق الإسرائيليين والمستوطنين اليهود، والانتقاص من حقوق المواطنين الفلسطينيين، فإن إستراتيجيةً فلسطينيةً قائمةً على الحقوق ستكون فعالة في فضح الخطط الإسرائيلية ومجابهتها. وينبغي أن يتحول الهدف السياسي الفلسطيني في هذه الإستراتيجية من إقامة الدولة، إلى النضال من أجل حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبالإضافة الى مواجهة المشروع الإسرائيلي في جوهره، تقدم الإستراتيجية الفلسطينية القائمة على الحقوق مزايا عديدة مختلفة، وتوفر مجموعة من المبادئ التوجيهية للنضال. كما أنها تضيِّق الخلافات بين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وداخل إسرائيل، وتتماشى والخطاب الدولي بشأن الحقوق ومناهضة العنصرية الذي يصعب تجاهله. الامر الذي يساعد في إقامة تحالفات وطيدة دعماً للنضال.
إن الإستراتيجية الناجحة يجب أن لا تقتصر على تقييم دوافع إسرائيل تقييماً دقيقاً، وتحديد مواطن الضعف في ترسانتها، بل يجب أيضاً أن تحشد توافق الآراء في المجتمع الفلسطيني. وهذا تحدٍّ صعبٌ لأسباب عديدة منها تشرذم الشعب الفلسطيني، والتعلق بفكرة الدولة الوطنية الفلسطينية، رغم عدم تحقق حل الدولتين. لذا من الأهمية بمكان أن يتم التوفيق بين الإستراتيجية السليمة سياسياً وبين الشعور الوطني الفلسطيني إلى أقصى حد ممكن. فيتعين مثلاً على الأصوات المدافعة عن النهج القائم على الحقوق أن تؤكد أن التخلي عن التركيز على إقامة الدولة لا يعني التخلي عن الارتباط بالأرض، وأن تتحرى تلك الاصوات السبل التي يمكن من خلالها تجاوز الخلط الضيق بين الأمة والدولة.
من الملفت أن الطريقة الأسرع والأسلم والأنجح لتعزيز الإستراتيجية الوطنية قد تكون من خلال قيادة ممثلة وفعالة. لذلك فإن التفكير الإستراتيجي قد لا يكون سهل التحقيق في ظل غياب قيادة فاعلة في الأرض الفلسطينية المحتلة، أو للشعب الفلسطيني عموماً. لكن باستطاعة الفلسطينيين الاستفادة من بعض الأدوات التي طورتها المؤسسات والشبكات القائمة في المجتمع المدني الفلسطيني والعالمي لتعزيز التفكير والعمل الإستراتيجي، فتوجيه الخطوات في الاتجاه الصحيح من شأنه ان يُسرِّع أو يساهم في تأسيس قيادة جديدة.
وتبرز حركةُ “مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها” كأداةَ مدنية قادرة على تجسيد النضال الفلسطيني في لغة حقوقية، وتحدي القمع الإسرائيلي القائم على أساس الفصل العنصري. فحركة المقاطعة معروفة بالتكاليف التي تكبّدها الاحتلال بصفة منتظمة، لكن أهميتها الكبرى تكمن في فلسفتها ورؤيتها. فهي تطرح خطاباً يمكن للكثير من الفلسطينيين أن ينتسبوا إليه، ويمكن للعالم أن يتعاطف معه. وهو خطاب لا يعلق في متاهات المناقشة حول الحلول والمراحل النهائية. هذا الخطاب يتصدى أيضاً لصميم الرؤية الإسرائيلية للمنطقة، حيث لم يُبالغ “نتنياهو” عندما وصف حركة المقاطعة بأنها “تهديدٌ استراتيجي” للمشروع القومي الإسرائيلي، نظراً لصبغته العنصرية والاستعمارية الاستيطانية. وبالرغم من أن حملة المقاطعة تواجه قيوداً داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بسبب اعتماد تلك الأراضي هيكلياً على الاقتصاد الإسرائيلي، فإن من العلامات المشجعة انتشار لغة الحقوق. فتبني خطاب المقاطعة، وإطلاق حملات المقاطعة في الجامعات والمجالس المحلية ومجالس الأعمال وغيرها من المؤسسات، هو خطوةٌ ملموسة على طريق مساعدة الفلسطينيين في مقاومة الفصل العنصري، والاقتراب من إحراز حقوق الإنسان.
بوسع الفلسطينيين أيضاً أن يستفيدوا من الأدوات القانونية القائمة التي تُعنى مباشرةً بحقوق الإنسان وسيادة القانون. تشمل الأدوات القانونية المتاحة بالفعل للشعب الفلسطيني الرأي الاستشاري الصادر من محكمة العدل الدولية عام 2004 بشأن الجدار الفاصل، الذي يعزز توافق الآراء الدولية بشأن عدم شرعية المستعمرات بموجب القانون الدولي. ويمكن استخدام هذه الأدوات للإشارة إلى الدول الثالثة بأن مشاركتها مع إسرائيل تهدد سلطتها القانونية، ولمطالبة تلك الدول باحترام القانون الدولي بتعليق تجارتها أو معاهداتها مع إسرائيل، طالما تقوم إسرائيل على نظام الفصل العنصري. وبوسع عضوية فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية أن توفر أدوات للتصدي للانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان، والعمل على حشد دعم دولي.
في الأرض الفلسطينية المحتلة، تساعد فصول المواجهة مع المحتل في كسر احتكار السلطة الفلسطينية للسياسة، وقد تساعد في تسريع وإضفاء شرعية على البحث عن استراتيجيات بديلة. وتعيد موجات الغضب المتكررة تعريفَ علاقة الفلسطينيين بدولة إسرائيل باعتبارها علاقةً “صراع” وليست علاقة “تفاهم”، ومن ثم تدعو علناً لإلغاء “اتفاقات أوسلو”. ورغم أن قدرة هذه الموجات على تحقيق الأهداف السياسية محدودة جداً، بسبب ضعف قدراتها التنظيمية، ورد الفعل العنيف من جانب السلطة الفلسطينية وإسرائيل، إلا أنها تطرح خطاباً راديكالياً، وتعمل على توحيد رسالة الفلسطينيين، ولو رمزياً فقط.
الأهم من ذلك هو أن الفلسطينيين “المواطنين” في إسرائيل، الذين همَّشتهم منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية أثناء السعي وراء إقامة الدولة، هم أيضاً في صميم النهج القائم على الحقوق. وهذا الامر بالطبع يدّعم صراحةً نضالَهم من أجل العدالة والمساواة في الحقوق. وعلاوةً على ذلك، فإن اتصالهم الوثيق ومعرفتهم بالدولة الإسرائيلية يمثل مصدراً رئيسياً للفهم الإستراتيجي في علاقتهم مع الطرف الاسرائيلي. الأمر الذي ينبغي أن يستفيد منه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة وفي مخيمات اللجوء والشتات.
في الوقت نفسه، يفرض غياب الإستراتيجية مخاطرَ من حيث عدم معرفة أي الأدوات والتكتيكات ينبغي تجنبها. فعلى الرغم من أن الاعتراف بفلسطين كدولة فتحَ الباب لانضمامها إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن حشد الدعم لإحراز العضوية كدولةٍ مراقبة في الأمم المتحدة، أو اعتراف الدول الثالثة لفظياً بفلسطين كدولة، ينطوي على مخاطر جسيمة. فهو يُخفي حقيقةَ إستراتيجية إسرائيل التي تهدف إلى الحيلولة دون قيام هذه الدولة. وهو يصادق على “نموذج أوسلو” البائد، ويُضعِف الحجة القائلة بأن إسرائيل هي المسؤولة عن حقوق السكان الذين تحتلهم وتضطهدهم. ومن التكتيكات الأخرى المنطوية على مخاطر التعبئةُ لانتخاب المجلس الوطني الفلسطيني، الذي هو بمثابة هيئة ذات فاعلية محدودة، أو إجراء انتخابات ديمقراطية ترسِّخُ حكم أحزابٍ غير ديمقراطية، في ظل غياب إستراتيجية وطنية. وبالمثل، فإن نهج بناء المؤسسات الذي اعتُمد في السنوات الأخيرة، والذي يتم بموجبه ضخُّ المساعدات الدولية في مشروع بناء الدولة المزعوم، أثبت أنه هشٌ وغير واقعي. وعوضاً عنه، فإن إستراتيجية الاحتواء الإسرائيلية الحالية تحول لا دون قيام دولةٍ فلسطينية فحسب، بل تحول أيضاً دون قيام اقتصاد فلسطيني قابل للحياة. حيث ينبغي بذلُ مجهود أكبر إزاء “حل اللادولة”، وسُبله في إبقاء الاقتصاد الفلسطيني تابعاً، وغيرَ منتجٍ، ومتخلفاً هيكلياً.
خلاصة القول، تكمن المسألة لا فيما إذا كانت الأدوات والتكتيكات جيدة أو سيئة من حيث المبدأ، بل فيما إذا كانت تتصدى للواقع السياسي القائم مباشرةً أم تُبهمه، وما إذا كانت تنهض بإستراتيجيةٍ محددة تهدف إلى تصويب هذا الواقع أم تعوقه؟ فالواقع القائم يتطلب صياغة إستراتيجية توحد الشعب الفلسطيني خلف نضالٍ يتحدى رؤية إسرائيل لنظام الفصل العنصري.
سابعاً – خريطة صراعات المستقبل
لا يزال الصراع العربي – الإسرائيلي يشكل حلقة مركزية، إن لم يكن أبرز الحلقات في الصراعات التي تشهدها المنطقة العربية راهناً، والمتوقع تصاعدها مستقبلاً. يتجلى هذا الصراع بزيادة وتيرة الحركات الإسلامية، التي باتت الساحة الفلسطينية ميداناً أساسياً لعملها، مستفيدة من فراغ نجم عن تدهور قوى المشروع القومي والوطني، وعجزه عن استعادة الأرض المحتلة. إن انسداد آفاق تسوية القضية الفلسطينية يشكل المصدر الأساس للعنف الدائر اليوم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومصدر الخطر على سائر الجوار العربي؛ حيث تتبدى مخاطر غياب المشروع القومي العربي، وتبرز الحيرة العربية بين مشروعين: المشروع الأمريكي والمشروع الإيراني.
إن التسويات القائمة والقادمة، بالنظر إلي أطرافها ومرجعيتها، لن تضع نهاية للصراع العربي – الإسرائيلي، ولن تمنع استمرار المواجهة بالوسائل كافة، بل إن “خارطة الطريق” إنما تحدد خريطة صراعات المستقبل، التي يمكن أن تدور على مستويين للصراعات المحتملة: مستوى الصراع العربي – الإسرائيلي، ومستوى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
1 – مستوى الصراع العربي – الإسرائيلي
فمن ناحية أولي؛ سيبقي هناك صراع عربي – إسرائيلي بحكم حقائق وضرورات لا مهرب منها:
أولاها – استمرار توجهات قوى الهيمنة الغربية، بما تتضمنه من تأكيد الرابطة العضوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل – من ناحية، فضلاً عن الحرص الإسرائيلي على تأكيد الانتماء للغرب، بما ينطوي عليه ذلك من امتهان الخصائص الثقافية – الحضارية للمنطقة العربية و شعوبها – من ناحية أخري.
ثانيتها – إن أية قوة متفوقة عسكرياً على الحدود، بمعيار الأمن القومي المجرد، تعتبر قوة معادية. فإذا أضيف إلي ذلك أن إسرائيل تسعي إلي تحقيق “الأمن المطلق”؛ بما يعنيه من “تهديد مطلق” للأمة العربية – من ناحية، وطبيعة العنصرية المجنونة التي تنطوي عليها العقيدة الصهيونية، وتطلعها إلي إخضاع الأمة العربية كلها – من ناحية أخري؛ لاتضح إلي أي مدي يمكن أن تستمر التسويات التي تم التوصل إليها.
ثالثتها – حقائق الهزيمة التاريخية التي لحقت بالأمة العربية وأثقالها وأثمانها، إذ لم يحدث أن استسلمت أية أمة إلي ما لا نهاية لهزيمة تاريخية ساحقة فرضت عليها الاستسلام الكامل، رغم انتفاء مقوماته ومبرراته.. ولاشك في أن حال ألمانيا – بعد الحربين العالميتين – خير دليل.
رابعتها – حجم وطبيعة القيود الواردة في المعاهدات والاتفاقيات بين بعض الأطراف العربية وإسرائيل، التي تمثل انتهاكاً صارخاً لمبدأ سيادة الدولة، بل ولا يبررها غير “حال الحرب” .. لا “حال السلام”، بخاصة بعد استكمال مسيرة التسوية الجارية والقادمة، والتوصل إلي “سلام شامل” وفق المعني الرسمي المتداول حالياً، وكما تجسد في المعاهدات والاتفاقيات القائمة.
خامستها – إن خبرة العلاقات الدولية المتواترة تكشف أن المعاهدات التي تبني على أوضاع ظالمة كثيراً ما تسقط أو تلغي. إن قيام حكومة مصر الملكية، في عام 1951، بإلغاء “معاهدة 1936” مع “بريطانيا العظمي” من جانب واحد ينطوي على أكثر من دلالة.
سادستها – استمرار التوجهات الإسرائيلية المبنية على العنصرية والعدوانية والتوسعية تجاه فلسطين، أرضاً وشعباً ومقاومة، حتى مع افتراض قيام “دولة فلسطينية” في مناطق الحكم الذاتي – من ناحية، وتجاه الدول العربية، سواء قبل التسوية وبعد ذلك – من ناحية أخري.
سابعتها – الصراع بين الأمة العربية إجمالا والمشروع الصهيوني الاستعماري حول مصادر المياه والنفط والأسواق وموارد المنطقة وإمكاناتها.
2 – مستوى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي
من ناحية أخري؛ سيبقي هناك صراع فلسطيني – إسرائيلي متعدد الأبعاد نتيجة مأزق المشروع الصهيوني ذاته:
أولها – أن فلسطيني 1948 يحاصرونه بحق المساواة وحقوق “المواطنة” الكاملة كافة، بما يكشف الطابع العنصري واللاديمقراطي للدولة الصهيونية.
ثانيها – أن فلسطيني الضفة والقطاع يحاصرونه بحق السيادة والدولة.
ثالثها – أن فلسطيني الشتات يحاصرونه بحق العودة وحق تقرير المصير.
رابعها – أن القدس بحد ذاتها قضية كبري؛ فهناك “عملية التهويد” الجارية في القدس الشرقية على قدم وساق منذ احتلالها عام 1967 – من ناحية، وهناك معركة الداخل بهدف عودة أهلها إليها وتمكينهم من حقوقهم وممتلكاتهم فيها – من ناحية ثانية، وهناك معركة عربية إسلامية مسيحية ودولية بشأنها – من ناحية ثالثة.
خاتمة
سلام المستقبل … ومستقبل السلام
يمكن القول أن انتصار الحركة الصهيونية في انتزاع الاعتراف العربي الرسمي قد لا يعني بالضرورة نهاية الصراع العربي الإسرائيلي، حتى بافتراض التوصل إلى “تسوية شاملة”؛ بالمعني الرسمي الدارج الآن. أساس ذلك أن ” التعايش” المتخيل بين الطرفين – فيما لو تم التوصل إلى تعايش – سوف يصبح أشبه ما يكون بتعايش في ظل السلام الصهيوني، ورهنا بتوجهاته وسياساته وممارساته إلى حد بعيد. وأية تسوية يمكن التوصل إليها مع “إسرائيل الصهيونية” لا بد أن تعكس حقيقية الانتصار التاريخي للحركة الصهيونية. ولن يكون الاختلاف بين شكل معين من أشكال التسوية وشكل آخر راجعاً إلى الاختلاف في طبيعة الانتصار الصهيوني، إنما سيتركز الاختلاف في مدى ما تعكسه هذه التسوية من “ثقل”، أو “حجم” ذلك الانتصار الصهيوني . لذلك فإن أية “تسوية” لا بد أن تعبر عن غلبة “القومية الإسرائيلية” وعقيدتها الصهيونية، ويمكن توقع أن تستمر هذه الغلبة طوال فترة زمنية يصعب تحديدها. وليس أدل على ذلك من سيطرة مفهوم “الأمن الإسرائيلي” على التسوية التي تم التوصل إليها في كافة الاتفاقيات والمعاهدات. وكانت تلك عجيبة العجائب: أن تعترف دولة غير نووية بضرورة نوع خاص من الأمن لدولة نووية، ويعتبر ذلك بغير شك أحد مؤشرات نجاح إسرائيل في حصر الصراع كله في مسألة “الأمن الإسرائيلي”. وتكفي هنا شهادة كاتب بريطاني ينطلق من تأييد إسرائيل، والمهم أن شهادته تلك جاءت قبل عشر سنوات من معاهدة “السلام المصرية الإسرائيلية”، حيث يقول في خاتمة كتاب له عن الصراع العربي – الإسرائيلي: “إن أمن إسرائيل العسكري، كما حاولت أن أبين، لم يتعرض لخطر شديد، ولا بد أن إسرائيل تشعر الآن أنها واحدة من أكثر دول المنطقة استمتاعاً بالأمن، فلو تم التوصل إلى اتفاقيات تقوم على مجرد توفير ضمان مادي لإسرائيل، فإن هذه الاتفاقيات من شأنها أن تتغاضى عن جميع الخلافات الرئيسية التي لا تزال قائمة بين الجانبين”.
معنى ذلك إن نزعة التحرر الوطني والتغيير الاجتماعي في المنطقة سوف تجد نفسها رهينة الانتصار الصهيوني ومفاهيم “السلام الإسرائيلي” ومقتضياته وشروطه. فالتسوية في ظل “الحقبة الإسرائيلية”، ليست في الواقع سوى “سلام” المنتصرين على المنهزمين. ومن الواضح هذا الأمر لا يحتمل التمييع باسم “لا غالب ولا مغلوب”، فالتسوية في ظل هذا السياق تعني أن إسرائيل كدولة صهيونية سوف تزداد رسوخاً وتوطداً كوجود غريب في جسد الوطن العربي، دون أن تكون منه في شيء، ودون أن تحظى بقبوله ورضاه، بينما هي تسعى إلى الهيمنة عليه وفرض شروطها بشأن “السلام”. من هنا يكتسب منهج “رفض التسوية” شرعيته وجدارته وأهميته التاريخية في هذه المرحلة، حتى إذا لم يؤد إلى أبعد من ذلك.
لقد عمد “مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي”، الذي احتشدت له مجموعة من خيرة العقول العربية جدية واجتهاداً والتزاماً، إلى دراسة مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، على مدار فترة الاستشراف 1985 – 2015، أي على مدار ثلاثة عقود، ضمن ثلاثة سيناريوهات: أولها – سيناريو التجزئة (التسوية وفقاً للشروط الإسرائيلية)؛ ثانيها – سيناريو التعاون والتنسيق العربي (التسوية وفقاً لتوازن نسبي في القوى)؛ ثالثها – سيناريو الوحدة العربية (التسوية وفقاً للشروط العربية).
وقد خلصت تلك الدراسة إلى أن تلك العقود الثلاثة سوف تشهد استمراراً للتفوق الإسرائيلي على الطرف العربي، واستمراراً للأثر السلبي للصراع في الجانب العربي من زاوية دفعه نحو المزيد من التجزئة والتفكك، فضلاً عن الأثر غير الموات للمؤثرات الدولية في الوطن العربي، مع أن ملامح الزلزالين العربي والسوفييتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي لم تكن قد برزت بعد. وهذه الاستمرارية لعناصر الأمر الواقع كافة، بل نموها خلال فترة الاستشراف، تعني أن الطرف المستفيد من هذا الأمر الواقع، أي إسرائيل، لن يسعى إلى تغييره، كما تعني أن الطرف العربي المتضرر سوف يظل عاجزاً عن إرغام إسرائيل على تغيير ذلك الأمر الواقع. والنتيجة هي أن الخيار المتاح سيصبح إما تسوية وفقاً للشروط الإسرائيلية، أو لا تسوية على الإطلاق، مع الأخذ في الاعتبار أن التسوية وفقاً للشروط الإسرائيلية تعني في جوهرها إضفاء الطابع الرسمي على الوضع الراهن، أي تكريس السيطرة الإسرائيلية.
وفي تفصيل ملامح التسوية، في ظل دولة الوحدة العربية، خلص “مشروع الاستشراف” إلى ما يأتي: “في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية … سوف تصبح إسرائيل مرغمة على التسليم بالكيان الفلسطيني المستقل فوق أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، أي الدولة الفلسطينية”، ويضيف أنه: “في ما يتعلق بهضبة الجولان، فإن الدولة العربية الواحدة سوف تكون في وضع يسمح باسترجاع الهضبة إلى السيادة العربية، في حين قد تستطيع إسرائيل بحكم قوتها العسكرية، أن تفرض نزع سلاح هذه المنطقة والحد من الأضرار المرتبطة بالموقع الإستراتيجي الحاكم للجولان”. فإذا كانت هذه التسوية تعكس كل “قدرات دولة الوحدة العربية”، فهل يمكن أن ندرك “قدرات التجزئة”، وخطورة استمرار الوضع القائم الآن، الذي يملي التسوية وفقاً للشروط الإسرائيلية؟ وإذا كانت إسرائيل تسعى إلى ترسيخ هذا الوضع القائم، بل دفعه إلى غياهب التردي، كذلك تفعل الولايات المتحدة، في ظل تغييرات عالمية هائلة مؤاتيه لهما، وإذا كانت الأمة العربية على ما هي عليه، حكاماً ومحكومين، يصبح المستقبل للتسويات الجزئية والمنفردة؟ وسيادة منطق “السلام الإسرائيلي”؟
إن تلك التسويات، وإن كانت قد تمت “تعبئتها” في مجموعة من “اتفاقيات ومعاهدات السلام”، ليست قدراً لا يمكن توقيه، كما أن الخبرات المتواترة في العلاقات والصراعات الدولية توحي بتأييد فرضية: “إن المعاهدات تعقد لتخرق” .. من ثم فإن هذا التوجه التاريخي العام يمكن أن يصدق على الاتفاقيات والمعاهدات العربية – الإسرائيلية التي عقدت تحت شعار “السلام”؟
في السياق التاريخي الدولي بشأن إبرام “معاهدات السلام” يبرز سؤال مهم حول أسباب ودوافع البحث عن تسوية أو حل لصراع ما؟ وتركز الإجابة على واحد أو أكثر من أربعة أسباب أساسية، أو أربع مجالات للتغيرات: أولها – التغير الجذري في أسباب الصراع الموضوعية؛ وثانيها – التغير الجذري في القدرات اللازمة للاستمرار في الصراع، بخاصة الصراعات المسلحة؛ وثالثها – التغير الجذري في إدراك القيادات، إما للأسباب الموضوعية، أو لإمكانية الحل العسكري؛ ورابعها – التغير الجذري في التحالفات والارتباطات الإقليمية والدولية المرتبطة بالصراع. يمكن القول أن “التغير في إدراك القيادات السياسية”، هو الذي دفع الجانب المصري، ثم الجانب العربي، ناحية ذلك “السلام” مع إسرائيل. وأنه إذا كان هذا التغير الجوهري في الإدراك قد انعكس بدوره على التغير في القدرات، وبالتالي في التحالفات؛ فمن المؤكد أنه لم يكن مبنياً على أي تغير في “الأسباب الموضوعية” التي فجرت الصراع؛ والتي تتلخص في الاستعمار الاستيطاني، الذي فرض قيام إسرائيل في قلب الوطن العربي، فوق أرض فلسطين، وقيام إسرائيل بتنفيذ سياسات عنصرية وعدوانية وتوسعية تجاه الشعب الفلسطيني، والدول العربية، بتأييد كاسح من “النظام العالمي” – بشكل عام، ومن الدول الغربية والولايات المتحدة – بشكل خاص. وهذه نقطة محورية في استشراف المستقبل.
لقد آن الأوان للانتهاء من آثار سبعين عاماً ثقيلة على الأرض العربية المحتلة، وأصبح يتعين على العرب أن يقفوا بموضوعية وواقعية أمام روح العصر؛ شركاء فيه فاعلين، لا متفرجين عليه سلبيين. آن الأوان لكي يعكس العرب إمكاناتهم الحقيقية على سياساتهم، جماعية كانت أو ثنائية، حتى لا يعود شبح ذلك الماضي الكئيب ليطل على الأمة من جديد. لا شك في أن إسرائيل كيان عدواني توسعي استيطاني، وهو أيضاً، بحكم مقاييس العصر، كيان يجسد دولة عنصرية يدرك الجميع – داعموها ورافضوها – أنها تأخذ ما لا تستحق، وتنتهك ما لا يجب، وتعبث بحقوق الآخرين، مع ذلك فهي في النهاية دولة عادية بكل المقاييس، فلقد انتهى عصر الأساطير .. ولن يعود مرة أخرى.
ولعلنا نتذكر ما ذهب إليه “هنري كيسنجر” – في كتابه الشهير “عالم أعيد بناؤه” – حيث قال: “إذا أصبح السلام هدفا في حد ذاته فإن المجتمع الدولي سوف يجد نفسه تحت رحمة أكثر أطرافه عنفاً؛ لأن الأطراف الأخرى سوف تحاول تهدئته بأي ثمن حفاظاً على السلام. وهو ما يؤدي في الحقيقة إلى عدم الاستقرار وضياع الأمن الدولي” .. والتذكرة – دائماً – تنفع المؤمنين!