الرئيسية / توقيع كتاب / القابض على النقد

القابض على النقد

د. فاطمة القرصيفي*

بسم الله الرّحمن الرّحيم

     والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في أجواء شهر الإنتصار لا بدّ من السّلام على سيّد المقاومة وعلى جباه المجاهدين وسلامٌ لدماء الشّهداء الأبرار الّذين بفضلهم نحن مستمرّون.

أيّها الحضور الكريم

السّلام عليكم باختلاف ألقابكم ومراتبكم ورحمة الله وبركاته.

إنّه لمن دواعي سروري أن أقف على أرض الجنوب المعطاء الولّادة، في دائرة الدّكتور علي حجازي، منتدى الثّقافة والأدب، وأن أكرّم بالكلام عن أستاذ وعالم ومدرسة في النّقد والأدب، أستاذ لطالما عمل وعلّم ونصح وأرشد، إنّه النّاقد البروفسور الأستاذ علي مهدي زيتون.

النّقد الأدبي هو العلم الّذي يُولي عنايةً واهتمامًا كبيرين بنقد الأدبِ والأدبيّةِ من كافّة جوانبها، وذلك لكي يكون قادرًا على إطلاق الأحكام عليها سواءً أكانت جيّدة أم رديئة. وتوجد هناك علاقة كبيرة بين النقد الأدبيّ والأدب، فبقدر ما يكون النّقد الأدبيّ جيّدًا بقدر ما ترتفع جودة الأدب، وذلك لأنّ الأديب سيعلم أنّ هناك أشخاص ستراجع أعماله وتحلّلها، وبالتّالي يقوم بكتابتها بشكلٍ جيّد الأمر الّذي يؤدّي إلى ارتفاع مستوى الأدب بشكلٍ كبير.

إنّه عبارة عن دراسة ونقاش وعلميّة وتقويم يقوم بها النّاقد للأدب معتمدًا على النّظريّة الأدبيّة، ويقوم بشكلٍ رئيسيّ على فكر النّاقد وسعة اطّلاعه في مجال البحث وذلك بفرض الكشف عن مواطن الإبداع في النّصّ الّذي يقوم بنقده.

ويرتبط النّقد الأدبيّ بباقي العلوم الإنسانيّة الّتي تدرس الإنسان كعلم الفلسفة والاجتماع والتّاريخ وعلم اللّغة. كما أنّ النّقد يعمل على تفسير مؤلّفات الماضي والحاضر من أعمال المؤلّفين القدماء.

وبعد ظهور النّقد الأدبيّ مرتبطًا بشكلٍ رئيسيّ بظهور الأدب، فلو لم يكن الأدب موجودًا لما كان هناك داعٍ لتأسيس النّقد الأدبيّ، ولما كان هناك أيّ فائدة من ظهور مدارس النّقد المختلفة، وذلك نظرًا لأنّ قواعد النّقد الأدبيّ تمّ استخراجها واستنتاجها من الأدب نفسه.

حيث كان النّاقد يقوم بالاطّلاع على النّصّ شعرًا كان ام قصّة أم رواية أو غيره من الأجناس الأدبيّة المختلفة ثمّ يبدأ بتحليله وفق منهج محدّد، وتحديد مواطن الإبداع فيه.

 

 

حركة النّقد عند العرب—

     تقسيم حركة النّقد الأدبيّ عند العرب إلى حقبتين، الأولى امتدّت من العصر الجاهليّ واستمرّت حتّى نهاية عصر النّهضة في القرن التّاسع عشر، والثّانية تمتدّ من بداية القرن التّاسع عشر وحتّى العصر الحديث.

كان النّقد في العصر الجاهليّ بسيطًا، ولم يكن سوى انطباعيّ لا غير.

أمّا في صدر الإسلام فقد تطوّر النّقد عمّا كان عليه في العصر الجاهليّ، وتغيّرت طبيعة الأشعار، حيث ابتعد العرب عن الأسواق وانشغلوا بفتوحاتهم.

تطوّر النّقد في العصر الأمويّ، إذ تعدّدت المراكز الثّقافيّة وكثُرَ النّقّاد الّذين كانوا يُبرزون نقاط القوّة في القصائد كما ويبرزون نقاط الضّعف.

أمّا في العصر العبّاسيّ فقد شهد النّقد ثورةً كبيرةً، وخاصّةً بعد ازدهار حركة التّرجمة والنّقل، وبعد اطّلاع العرب على الكتب اليونانيّة وبخاصّة أفلاطون. وظهر في هذا العصر عدد كبير من النّقّاد العظام، “كالجرجاني” و “قدّامة بن جعفر” و “ابن طباطبا” وغيرهم من النّقّاد الّذين دفعوا حركة النّقد نحو الأمام.

وصولاً إلى العصر المملوكيّ والعثمانيّ، فقد شهدت الحركة الشّعريّة والأدبيّة في هذا العصر ركودًا كبيرًا حيث تراجع الأدب وتراجعت الثّقافة وحلّ الجهل، وانعكس هذا الأمر بشكلٍ واضح على النّقد حيث قلّ ظهور النّقّاد وشهدت حركة النّقد ركودًا كبيرًا.

ونصلُ إلى النّقد في العصر الحديث والمعاصر.

فمع النّهضة الفكريّة والثّقافيّة الّتي شهدها الوطن العربيّ، إذ اطّلع العرب على المناهج النّقديّة الأدبيّة الّتي ظهرت في أوروبا في القرون الماضية وأفادوا منها، وظهر عدد كبير منهم: “كصلاح فضل وسعيد يقطين وحميد لحمداني وعبد الكريم حسن” وغيرهم ولا مجال لذكرهم. ناهيك عن نقّاد أجانب، أصحاب نظريّات ومذاهب نقديّة من أبرزهم “جولوكاتش وتزيفيان تودوروف وبريمان والشّكلانيّون الرّوس” وغيرهم.

البروفسور د. علي مهدي زيتون علمٌ ومدرسةٌ، من أبرز المساهمين المعاصرين في مجال نظريّة الأدب والمناهج النّقديّة تنظيرًا وتطبيقًا. هو مدرسةٌ في النّقد خصوصًا في النّقد الرّوائي.

له عدّة آثار نذكر منها “النّصّ الشّعريّ المقاوم” و “النّصّ من سلطة المجتمع إلى سلطة المتلقّي” و “في مدار النّقد الأدبي”. أمّا أيقونة أعماله فهو الكتاب الّذي نحن في صدد عرضه ” المدرسة الإيكوية في الكتابة

             ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده”

الكتاب إصدار دار المعارف الحكميّة، ط 1، 2018، بيروت.

توزّعت مادّته على مئتين واثنين وخمسين صفحة مقسّمة على قسمين.

توجّه في بدايته بإهداء ومقدّمة لحظت مادّته، وأقفل بخاتمة، كما وأشار النّاقد في صفحة أخيرة إلى مصادر بحثه. أهدى الكاتب النّاقد العلم د. زيتون عمله إلى قبضتين عظيمتين هما قبضتي بطلي المقاومة الفلسطينيّة “أحمد جزّار وعهد التّميمي”.

أوضح الكاتب في مقدّمته أنّ همّه هو نقد النّقد لجهة الأزمة الّتي يعاني منها، فالنّقلة الّتي أنتجتها حركة الحداثة العربيّة من جهة الإنعكاس إلى نظريّة الإنكسار، لم تصل بالنّقد الأدبيّ إلى برّ الأمان الأدبيّة الّتي أمل بها، فقد ظلّت حبيسة دائرة التّقنيّات خصوصًا الجانب السّرديّ من الأدبيّة، تلك الأدبيّة الّتي تنتمي إلى دائرة التّمرّس دون دائرة الأدبيّة الحقّة، فلم تنتمِ إلّا إلى ثلاثيّة: (الرّؤية / العالم المرجعي / اللّغة)، الّتي شهدت لنظريّة الكشف وما استتبعته من منهج ثقافيّ بالولادة، وللأدبيّة الممسوحة ببصمة القراءة بالتّوهّج، وهمُ الأدبيّة الأسلوبيّة السّيمائيّة هو ما جعل الكاتب لا يلتفت إلى الشّخصيّات الثّقافيّة الغربيّة إلّا بمقدار ما قدّمته من آراء نقديّة منتمية إلى الحداثة وعقلها العلميّ، إذ أنّه رافض معظم مقولات ما بعد الحداثة فقد حاول امتلاك معرفة بها في كتابه “النّصّ من سلطة المجتمع إلى سلطة المتلقّي” فقد رأى في هذه الحركة هدفًا للقضايا الكبرى لصالح سرديّات صغرى، تفرق في المعيشي الإستهلاكي اليومي. وهذا ما جعلها حركة متفارقة مع أوضاعنا السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، خصوصًا في الشّرق العربي شرق القضيّة الفلسطينيّة، فلم يعرها اهتمامًا إلّا ما استدعى الأمر دفاعًا عن الحداثة.

انطلق الكاتب في عمله من مشروع الكشف عن الفكريّة أو الجينات الّتي يقوم عليها نتاج “أمبرتو إيكو” بجانبه النّظري والإجرائي السّردي، إذ جذبته قراءة رواية “اسم الوردة” إلى قراءة سائر رواياته الّتي كلّفته زمنًا وجهدًا، إذ جعلته ينحو طريقًا عكسيّة لحركة إيكو الفكريّة الّتي تستند إلى مقولته الشّهيرة، “ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده”.

وجاء كتابه الّذي اختار له عنوانًا:

“المدرسة الإيكويّة في الكتابة

                    ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده”

سلسلة من المباحث القراءات الّتي شهدت ولادتها وفق التّرتيب الآتي:

-الإهداء

-مقدّمة

-هكذا تكلّم “أمبرتو إيكو” في مقابلاته

  1. القسم الأوّل: ما يمكن تنظيره

    “الأثر المفتوح” ونقد النّقد

    “التّأويل بين السّيميائيّات والتّفكيكيّة” عند إيكو

    “آليّات الكتابة السّرديّة” وما بعد الحداثة

 

  1. القسم الثّاني: ما ينبغي سرده

    “اسم الوردة” والشّراكة بين السّيميائيّة والتّفكيكيّة

    “جزيرة اليوم السّابق” واستدعاء القارئ النّاقد المفكّر

    “باودو لينو” مناخ الأكاذيب والأوهام والخرافات

    “مقبرة براغ” وسوء الظّنّ بالتّاريخ

-الخاتمة

جاء كتابه موضوع بحثنا سلسلة من المباحث القراءات الّتي شهدت ولادتها كما ذكرنا آنفًا.

كانت الرّوايات الأربع موضوع الدّراسة كافية لتقديم فكرة واضحة عن تجربة “إيكو” السّرديّة كما أورد النّاقد في مقدّمته. والأمر بالنّسبة إلى الكتب النّظريّة الخاصّة “بإيكو” فقد وجد أنّ “الأثر المفتوح” والتّأويل بين السّيميائيّات والتّفكيكيّة، يمثّلان تمثيلاً جيّدًا وبشكلٍ كافٍ وجهة نظره النّقديّة، وخصوصًا أنّ كتاب “إيكو” “آليّات الكتابة السّرديّة” قد جاء ليمثّل عودًا على بدء ويتيح له التّفكير بمقولته المعروفة “ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده”. وتجدر الإشارة بعد هذا إلى أنّ مناهج النّقد طيّ قبضة د. زيتون، واتّبع فيما قام به من نقد روائي في جانب ومن نقد النّقد في جانب آخر، منهجًا واحدًا هو المنهج الثّقافيّ الّذي يستند إلى نظريّة الكشف الّتي تقول: “إنّ أيّ جانب من جوانب العالم المرجعي، شيئًا كان أم حدثًا، أم سلوكًا بشريًّا هو متعدّد الأبعاد”. وأدبيّة أيّ أديب، أو شعريّة أيّ شاعر قائمة على ما استطاعت رؤيته النّفاذ إليه من بين تلك الأبعاد، وكشفته للمتلقّي باللّغة.

وهذا المنهج سُمّيَ ثقافيًّا لحاكميّة الثّقافة على سائر مكوّنات الرّؤية وبانتمائه إلى الحداثة القائمة على سلطة العقل العلميّ الموصل إلى اليقينيّة، هو منظار قادر على مراقبة ما يضادّ الحداثة.

يختم النّاقد د. زيتون في مقدّمة كتابه أنّ نقد النّقد لا يستطيع الخروج على سلطة المناهج الحداثيّة، أو تلك الما بعد حداثيّة فهو مراقبة رؤية ناقد النّصّ الأدبيّ والكيفيّة الّتي تعامل بها مع ذلك النّصّ برؤية ناقد النّقد وبقطع النّظر عن خياراتها المتعدّدة، ويعني أنّ رؤيته الّتي راقب بها “إيكو” في كتاباته النّظريّة هي عينها الّتي راقب بها كتاباته السّرديّة، يعني بذلك المنهج الثّقافيّ نفسه.

وإذا كانت الرّؤية للعالم هي الفاعل الأساسيّ والحاكميّة المنتجة للأدبيّة، فإنّها تتشكّل منه: ثقافة، وقناعات، وهمومًا، واهتمامات. هي بصمة فريدة تنتج كشفًا فريدًا لأسلوب فريد هو الأدبيّة عينها.

أيّها الحضور الكريم

لن أطيل عليكم، ففي نهاية كلامي لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مناهج النّقد طيّ قبضته.

هو القابض على النّقد له بصمة فريدة أنتجت كشفًا فريدًا لأسلوب فريد لا يمكننا تلخيصه بهذه العجالة.

والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

2 آب 2019

قبريخا / الجنوب

 

د. فاطمة القرصيفي*: دكتوراه في الأدب العربي من الجامعة البنانية
عضو هيئة إدارية في حركة الريف الثقافية
كاتبة، تكتب القصة القصيرة، القصص المنشورة:
” عودة الفارس ”، ”العيد طعم آخر”، ” هجرة النورس ”، ” نبض الأرض ميدون” ، “الباب لم يقفل ”
وأعمال أخرى قيد الإنجاز. 

شاهد أيضاً

ندوة حوش الرافقة حول كتاب “بين الشعر والجرح قرابة”

  أقام الملتقى الثقافي الجامعي بشخص رئيسه الدكتور البروفسور علي مهدي زيتون ندوة ثقافية نقدية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *