الرئيسية / توقيع كتاب / راغدة المصري بين ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

راغدة المصري بين ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

  

سلمان زين الدين*

مذْ أرسلَ آرثر جيمس بلفور، وزيرُ الخارجيةِ البريطانيةِ، رسالتَهُ الشهيرةَ إلى ليونيل روتشيلد، أحدِ زعماءِ الحركةِ الصهيونية، بتاريخ 2 / 11 / 1917، واعدًا إيّاهُ فيها بدعمِ بريطانيا إقامةَ وطنٍ قوميٍّ لليهودِ في فلسطين، وما ترتّبَ عليها من مضاعفات خطيرة، لعلّ أبرزها قيام الكيان الغاصب في العام 1948، راحت المسألة الفلسطينية تتبلور واقعًا تاريخيًّا متماديًا طبع الحياة العربية في القرن العشرين، وما يزال، بتأثيره المباشر، في مختلف مناحيها، ومنها الأدب. وشكّلت محورًا لحركة أدبية ناشطة، وعالَمًا مرجعيًّا لكثيرٍ من الأعمال الأدبية التي تمتح منها وتحيل إليها، وتمخّضت تلك الحركة وذلك العالم عن أسماء كبيرة في الشعر والنثر، ولم تقتصر تلك الأسماء على الفلسطينيين أنفسهم بل تعدّتهم إلى العرب الآخرين، ذلك أن الهمّ الفلسطيني هو همٌّ عربيٌّ وإنسانيٌّ بامتياز.

في “رحلة القهر” (أثر للنشر والتوزيع)، تطرح الدكتورة راغدة المصري حكاية المرأة الفلسطينية المقاومة، من خلال “قاهرة” وأخواتها من السجينات الفلسطينيات، وهي حكاية حافلة بالممارسات القمعية الاسرائيلية، من جهة، وآليّات الدفاع الفلسطينية المختلفة، من جهة ثانية. وإذا كانت الكاتبة تستلهم روايتها من التاريخ الفلسطيني المعاصر، فإنّه من نافل القول أنّ هذا التاريخ حافلٌ بأسماء المقاومات الفلسطينيات، وحسبنا الإشارة إلى الفدائية زكية شموط، والشهيدة دلال المغربي، والمناضلة ليلى خالد، على سبيل المثال لا الحصر. وبذلك، تنطلق الرواية من عالم مرجعي تاريخي واقعي.

تأتي راغدة المصري إلى الرواية من التاريخ، وهذان الحقلان المعرفيان يشتركان في المادّة الأوّلية، ويفترقان في طريقة تصنيعها. كلاهما يتّخذ من الأحداث مادّة له غير أنّ التاريخ علمٌ يرويها وفق منهجية البحث العلمي، ويضع الأمور في سياقها التاريخي، بينما الرواية فنٌّ سرديٌّ ينطلق من الأحداث، ويضيف إليها أو يحذف منها أو يعدّل فيها، ويرويها وفق تقنيات السرد ومقتضيات الفن الروائي، أي أنّنا إزاء حقلين معرفيين مختلفين لكنّهما يُفيد أحدهما من الآخر. على أن المصري الروائية أحسنت الإفادة من المؤرّخة فيها حين رسمت الخلفيات التاريخية لبعض الأحداث الروائية، فذكرت مجموعة من الوقائع التاريخية التي تزامنت مع وقائع روائية معينة، من ثورة القسّام عام 1935، إلى النكبة عام 1948، إلى شرارة الانتفاضة الأولى في 9 / 12 / 1978، إلى اجتياح مخيّم جنين في 29 / 3 / 2002، إلى أسر الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط في 25 / 6 / 2006، ما يوحي بواقعية النص وتاريخيته. غير أنّها لم تحسن الإفادة من التاريخ حين جعلت الوحدة السردية الأولى في الرواية، على قِصَرِها، مدخلًا تاريخيًّا إلى الرواية كان بوسعها الاستغناء عنه. ومع هذا، فقد أفادها المؤرّخ فيها الروائيّة أكثر ممّا أضرَّ بها.

“رحلة القهر” عنوان شعري لمتنٍ سردي؛ في العنوان، تُشكّل إضافة كلمة “رحلة” التي تنطوي على فرح السفر ومتعة الاكتشاف إلى كلمة “القهر” التي تنطوي على إحساس بالغلبة تجاورًا بين معجمين متضادين، وتقدح شرر الشعرية الناجمة عن هذا التضاد. أمّا في المتن فيقول السرد حكاية المعتقلات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الاسرائيلي، وما يتعرّضن له من فنون التعذيب، وما يبدينه من آليّات المقاومة، من خلال “قاهرة” وأخواتها المناضلات. وبذلك، يتصادى العنوان الشعري مع المتن السردي، ويتجادلان، لتحقيق روائية الرواية.

في الحكاية، تشكّل واقعة اقتحام المحتلين الاسرائيليين بيت “قاهرة” الزوجي في رام الله، وقيامهم بإطلاق النار على بعض المناضلين الذين لجأوا إليه، على مرأى من أطفالها، واعتقال أخيها محمد وزوجها ناصر، نقطة تحوّل أولى في حياة الشخصية، وهي التي شهدت طفلةً اقتحام بيتها الوالدي في مدينة جنين واعتقال إخوتها وأقاربها، فتقرّر، وقد بلغ السيل الزبى، الانخراط في أعمال المقاومة مغلّبةً واجبها الوطني على واجبها الأسري، وهي الأمّ لثلاثة أطفال، وتعبّر عن قرارها بالقول: “إنّ الساكت عن الحقّ شيطان أخرس. لن أكتفي بمشاهدة الأحداث، لن أبقى مستسلمة…لن أدعهم يهدّدونني في كلّ مرة…يسرقون الأمان من عيون أطفالي…سأنتقم من هؤلاء الأعداء..سأبدأ الآن..” (ص 40). وتقوم بترجمة هذا القرار من خلال: نقل الأسلحة، صناعة الأحزمة الناسفة، مراقبة الطريق، وإيصال استشهادي إلى الداخل الفلسطيني، ما يجعل قوّات الاحتلال تداهم منزلها، تعيث فيه خرابًا، تُرعب أطفالها، وتعتقلها…

هذه الواقعة تشكّل نقطة تحوّل ثانية في حياة الشخصية، فتبدأ جلجلة الاعتقال، وتُحكم بثلاث مؤبّدات، ويكون عليها أن تنتقل بين معتقل المسكوبية ومعتقل تلموند وسجن الرملة، في رحلة قهرٍ طويلة تتعرّض فيها لأبشع أنواع التعذيب، وتبدي فيها أرقى آليات المقاومة.

تتمظهر أنواع التعذيب في: التعذيب الجسدي والنفسي، التهديد بالاغتصاب، العزل، منع الزيارات، التمييز العنصري، التجويع، الطعام الفاسد، قطع المياه، منع العلاج، وسواها من الأنواع التي تتفتّق عنها المخيّلة الاسرائيلية المريضة.

تتمظهر آليات المقاومة في:  الإيمان بالله، الاستعانة بالتاريخ، التحصّن بالذاكرة، الإضراب عن الطعام، الحلم بالحرية، الغناء، بثّ روح الصمود في السجينات الأخريات، الاعتصام لتحسين ظروف الاعتقال، الاحتفال بشهر رمضان، الاحتفاء بالمناسبات السعيدة، شرح قضية السجينات للرأي العام العربي والعالمي، وسواها من الآليات التي تجترحها الإرادة الفلسطينية المقاومة. وهكذا، نكون أمام شخصية قيادية صلبة، تؤمن بحقّ شعبها في الحياة، وتبذل دون ذلك الغالي والنفيس.

النقطة الثالثة التي تُحدث تحوّلاً داخليًّا في نفس “قاهرة” تتمثّل في قيام زوجها “ناصر”، ذات زيارة، بإبلاغها رغبته في الزواج من أخرى، بذريعة رعاية الأولاد، فينزل الخبر عليها كصاعقة، غير أنّها ما تلبث أن تتحرّر من تلك الصدمة، وتبلغه موافقتها على الأمر.

وإذا كانت نقاط التحوّل الثلاث الآنفة ذات طابع روائي محض، فإنّ النقطة الرابعة والأخيرة، المتمثّلة بالصفقة التي أبرمتها المقاومة الفلسطينية مع السلطة المحتلة، لتحرير الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط، هي ذات طابع تاريخي، وتتمخّض عن تحرير “قاهرة” معهم، وبذلك، ينقلب القهر على القاهر، فتقهر “قاهرة” السجّان وأحكامه المؤبّدة، وتولد من جديد: ” أنا ولدت من جديد، كنت محكومة ثلاث مؤبدات. لا أصدق… سأتنشّق من جديد هواء الحرية… سأعود إلى أولادي” (ص 136).  وهنا، يُحسن التاريخ إلى الرواية، وتنصف المؤرّخة الروائية.

في الخطاب، نحن إزاء بنية سردية بسيطة، قوامها: خيطٌ سرديٌّ واحد ينتظم الأحداث، وعلاقة خطية تربط الوحدات السردية، وراوٍ عليم يقوم بعملية الروي، وتقشّف في استخدام تقنيات السرد، ما يدفع إلى الاستنتاج أنّ الحكاية تطغى على الخطاب، وأنّ الاهتمام الذي أولته الكاتبة الأولى هو أكبر من ذاك الذي أولته الثاني، وأن ماهية القول تتقدّم على كيفيته في “رحلة القهر”. هذه المقوّمات تتجسّد في لغة سردية بسيطة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة ما يمنح السرد طلاوته. وإذا كانت اللغة السردية تسمّي الأشياء والأمور بأسمائها، فإنّ الكاتبة حالفها التوفيق في إطلاق اسمي “قاهرة” و”ناصر” على الشخصيتين المعنيتين، فكانا اسمين على مسمّيين، ولعلّها استوحت الأوّل من مدينة القاهرة، والثاني من القائد جمال عبد الناصر لما يرمز إليه القائد والمدينة من قيمٍ نضالية تاريخية. إنّ تمحور الأحداث حول شخصية “قاهرة” يحيلنا إلى قصّة الشخصية، وهي نوعٌ أدبي بين الرواية والقصة القصيرة، ما يطرح مسألة النوع الأدبي الذي ينتمي إليه النص على بساط البحث، على أنّ ذلك لا ينتقص من قيمة النصّ أو يزيد فيها، فالعلاقة بين الأنواع الأدبية ما كانت ولن تكون علاقة تفاضلية، ولكلِّ نوعٍ حيّزه الذي لا ينازعه فيه سواه.

وعودٌ على بدء، ثمّة رسالة مزدوجة تُطلقها راغدة المصري في “رحلة القهر”، وتتناقض، بالتأكيد، مع رسالة آرثر جيمس بلفور المشؤومة التي سبقت الإشارة إليها. وهي رسالة تقول، في شقّها الأول، قدرة المرأة الفلسطينية على التضحية والمقاومة جنبًا إلى جنب مع الرجل، وتقول، في الشقّ الثاني، أنّ الحرية قدر الأحرار مهما خيّم ظلام السجون، وأنّ القاهر سيُقهر، ولو بعد حين.

*الأستاذ سلمان زين الدين: أديب، شاعر، ناقد ومفتش تربوي. صدر له: كتابان في الأدب الريفي. خمس مجموعات شعرية. وخمسة كتب في النقد الروائي.
حاز جائزة سعيد عقل للشعر من جامعة سيدة اللويزة عام ٢٠١٥ وجائزة سعيد فياض للإبداع الشعري عام ٢٠١٦. دخلت نصوصه الأدبية مناهج التعليم في القطاعين العام والخاص وشارك في تأليف كتاب التربية الوطنية الصادر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء. يكتب حاليا في مجلة العربي وإندبندنت عربية.

شاهد أيضاً

ندوة حوش الرافقة حول كتاب “بين الشعر والجرح قرابة”

  أقام الملتقى الثقافي الجامعي بشخص رئيسه الدكتور البروفسور علي مهدي زيتون ندوة ثقافية نقدية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *