الرئيسية / قصص / لهفة مخادعة

لهفة مخادعة

 

د. لميس حيدر*

  لهفة مخادعة

ملخّص القصة: يعود الرجل لقراءة نص حبيبته الذي نشرته منذ أعوام على صفحة الفيسبوك الخاصة بها، معتقدا أنّ الكلام الذي كتبته كان موجّها له. لذلك يروح يكتب لها كلاما يستعيد من خلاله أحداثا مضت، تبدي علاقته بها وبغيرها. ويستمر في سرد أحداث آنية. يفكّر أن يرسل لها هذا الكلام رسالة من صفحة الفيسبوك الخاصة به عبر messenger ، غير أنّه يتراجع حين يكتشف أنّها تزوجت.

*******                                   

كنّا على علاقة، وكتَبَت يومها نصا نشرتْه على صفحة الفيسبوك، فقرأتُه وتألّمتُ، إذ اعتقدتُ أنّ الكلام وحدي معني بمضامينه. ورد:

… يا لسذاجتكَ أيّها المتخفي وراء عينيكَ غير الموجودتين، إلا في أميال أخيلتها. إنتظرْ لحظة، أنت تبيت في خيوطها المدفونة، لمجرد تهيؤك لحقول ستبنيها لك، وتنمّي ذلك من خلال عطف، أو حضن، سيكونان حتماً لغيرك. تتقصّد فاعليتهما فيك، ومن هناك كعادتك ستهدرني غفوتي، فيما أنت تقصد بيت راحتك غيرالدائم. تكثر من الثرثرة أنّك أنت المتفوّق الأعظم، وما أنت سوى صاحب قصور واهية، أهدتْهَا ظنونُكَ ملكَها من كلامي، وليس فيها سوى جدران متصدّعة، أخَذْتَ ميادينَ قوّتِها منّي.

قالت لي صديقتي: أنت لست الوحيدة البلهاء التي صدّقته.

لكنّني، لم أرد عليها، وكتمْتُ سرَ تساؤلي عن مدى ادّعائها، متأمّلةً خسرانها رأيها، وربحي رهاني.

وأطلْتُ التمادي بعشقِك، وتنعَّمْتُ بما رصفْتُه من تراكم تهيؤات، لم تعد بحوزتي.

في مرايا عينيك شاهدْتُها، فأثرْتَ اشمئزازي، حين تذكّرْت انفرادهما في إحدى الجلسات. ويا للؤم اختيارك امرأة، تعِدُ قلبها بسواك، وأنت تتحذلَقُ في اجتذابها.

كم تعبْتُ من رهانات امتدت لعام. ونحن نقف في صف سيصلنا إلى قاعة المحاضرة السياسية، سخر منّي صديقك الذي عبّر عن إعجابه بي مراراً، ثمّ تراجع عن احترامه حين تيقّن من إهمالي مشاعره، وهو الشاب الذي يصافح الموت كلّ يوم، ولا يهابه، فيما يدرّب شباناً ليدافعوا عن قضايا الوطن، والأمة. هو مَن جنّدَت الصحف وشاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي كلها صفحاتها، معلنة استشهاده في سبيل أرض مغتصبة. لكم كنت حقيرة في خياراتي، فيما هو في أعلى الرتب الإنسانية. أعود إليك، إلى نظراتك غيرالمحشومة من البراءة اتجاهها، إلى قلة هدوئك في أثناء وجودها.

كثيرا ما نبني آمالا، نودع فيها كلّ مدخراتنا، غير أنّها تردنا إلى مراحل سيّئة، ما كانت أبدا مدرجة في حساباتنا.

                                               ****

أخذت الإعجابات تنهمر على صفحة الفيسبوك الخاصة بها في تلك الأيام، وحسبْتُ حينها أنّ الرسالة مخصّصة لي حتماً. عدْتُ إلى رسالتها اليوم، وكنت قد قرأتها عشرات المرات في تلك الآونة، محاولا فكّ ألغازها. وها أنا أعود إلى مضامينها بعد سنوات من فراقنا متلهفاً، كأنّها هي المنقذ لي من خلافاتي التي تتراكم كل يوم مع زوجي. ولا أعلم لِمَ تركت أثرها الآن، وفعلت فعلها، وكأننا البارحة كنّا معا، واليوم افترقنا. ورحت أردّد في سري ما يمكن أن يردَ بيننا من كلام، علّ الغيوم تنزاح من سمائنا. أخذت أطبع ما يتدافع من أفكاري على الحاسوب الآلي. كتبت: حضورك في حياته مجرد هراء، وتكهّن. هو يدرك مشاعري اتجاهك، وقد زودَتْهُ وفاتُها في حادث سير المزيد من الاندفاع نحو العشق الألوهي الخالد. أرأيت تخطئين دائما في حساباتك، لقد كنتِ تعتقدين أنّكِ البديلٍ الأفضل عنها. لكن، لم تكوني مطلقا موطن رغبته الدفينة. أنظري جيّدا، لقد هاجرْتِ لمتابعة دراستك، بعد أن سدّدْتِ سهام الخيانة لي، واستبعَدِتْ أيّ فرصة لقاء، لأوضِّح حقيقةً يبدو أنّك تجهلينها. أتعرفين، لقد أحببتك قبل دخول “ساندي” حياتي، وبعده، ولم أخادعك كما تدّعين، ولن أخادعك. “الذي يحب لا يكره أبداً”. في السنة التي تلت زواجي الفاشل من أنثى غيركما، وكنتِ أنتِ قد سافرتِ، صرت أتسلّل إلى حيث يمكن أن ألامس خطوَ أوّل حب لي للفتاة “وردة”، أتسلّل إلى حيث يمكن أن أشمّ كلمة عنكِ. كلاكما في منزلة واحدة، لا أميّز أيّكما الأنزه، أو الأقوّم، غير أنّي أعي أنّ أوّل عشق قبلك، المخصّص ل”وردة” كان الأكثر نقاء.

في زيارتي الأخيرة لسوريا التي غادرتها للعمل في الخارج، وكان قد مرّ على فراقنا أربع سنوات، كانت ما زالت مدينتي دمشق هي جنة عدن. زرت والدك، ولم أرك. وقررت أن أكرّر الزيارة، بعد أن علمت من والدك موعد رجوعك إلى البلد لمدة عشرين يوما. لكن، بعد أشهر أخذت التظاهرات تتزايد، ثمّ اندلعت حرب سوداء قاتمة، قضت على أُسَر، وأتت على منازلهم، وشلّعت أولادهم، وشرّدت نساءهم من غير أغطية تحجب شعرهن، فعدَلْتُ عن الزيارة.

اتصلت بوالدك، لأطمئن عن الأوضاع، وفي أثناء كلامنا تناولنا الوضع الراهن، وقطعنا أشواطا في الحديث عن التسيّب الحاصل في القرى، والمدن، وكان قلبي حينها، كعادته يطوي رغبته فيك، تلك التي كانت تحطّ على مداركه، ولا تبارحه، مهما استجداه ذهني أن تنسحب لمصلحتي. وما كان يزيدني لهفة صورتك الوحيدة على صفحتك الألكترونية، وبعض الخواطر التي تكتبينها.

ولمّا أعلمني والدك في اتصالنا الهاتفي ما قبل الأخير احتفاله بقدومك لم أعرف متى ستقلع الطائرة بي، لأراك. ستمكثون في بيتي التراثي في سوق الحميدية، ذلك الذي اشتريته مؤخراً، وتركْت مع والدك نسخة من مفتاحه، ليستعمله متى رغب. كنت أعرف حين اشتريته، أنّك ستزدادين تألّقا فيما أنتِ تتجوّلين بين أحضانه.

تأهّل والدك بي حين فتح الباب، وحضنني طويلا ممتنا، فيما كنت أشكره لترحيبه بي، فالبيت بيته. جلسْتُ معه في الدار الواسعة، وكانت عرائش العنب تظلّل المكان، فيما أوراق شجرة الليمون، وثمارها تلمع تحت أشعة الشمس، وبعد قليل دخلْتِ علينا. ضايقني حضور صوت يناديك من غرفة النوم المجاورة، يستعجلك للعودة، للرد على اتصال وردك. تركْتِ فنجان قهوتي أمامي على الطاولة، كذلك كوب الماء، وغادرتِ مسرعة، معتذرة. كنت أريد أن أسألك: أين أنت اليوم؟ ماذا تفعلين؟…؟ لكن خروجك المسرع، جعل كلامي مختصراً بكلمتين. نطقت: شكرا دكتورة.

خشيَت نظراتي المتلهّفة والدك، كنْتُ لوهلة سأرسُبُ في امتحانه، كما فشلت سابقا في مسابقة أعدَدْت أسئلتها منذ سنوات أربع أو خمس. كنت سأتبع صوتا ناداك قبل قليل، حين خرج والدك، ليفك اشتباكا دار بين أولاد أجهل أعمارهم كما أجهل هويتهم. كنت سأتبعك، غير أنّ زعيق الأولاد خفُت فجأة، وانتهى الصياح، وعاد والدك مبتسما، مردّدا: أولاد، لاحول ولا قوة إلا بالله. أين صرنا؟ هكذا زجر تمدّد تواصل أوهامي بسؤاله. لقد ردّني عن استرسالي في لقاء معك أسسه وقحة، وسيئة النوايا،  أبنيها وحدي من دون علمكما بين جدران منزلنا التراثي. كأنّني كنت أريد أن أنشئ بيني، وبينك، ما لم أستطع فعله قديما. أردت المغادرة، فاستأذنت والدك متلافيا امتنانه لمكوثه في منزلي. توجهت إلى بيت العائلة لأبيت الليلة هذه، ثمّ أتوجه غدا إلى بيروت التي يغريني سحرُها.

اتصّل والدك بي اليوم، وأنا في الفندق اللبناني الذي أبيت في إحدى غرفه منذ يومين.  سألني عن مكان يقيكم برد الخارج، ووعورة عيشه. وقد أخبرني ماذا حلّ بأهلي، وكيف أتى الموت على بعض أبناء سوريا، لأنّهم تركوا كتبا مطمورة تحت التراب، متحسّبين عودتهم إلى بيوتهم، وإعادة مدخراتهم إلى أمكنتها. لقد شاهد الجميع رؤوسهم مقطوعة، متعفّرة أرضهم بدمائهم. قال لي أنّه عليّ أن أدبّر منزلا لأهلي، بعد تفاقم سوء الأوضاع الأمنية، وأخبرني أنّ ما يردني من أخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي يعدّ ضئيلا، قياسا مع ما تراه العين المجرّدة. دعوت الله في سرّي أن يصل أهلي إلى لبنان بخير، كذلك أهلك، وقرّرت أن أفتّش عن منزلين يتسعان لحلولهما، وفكّرت لو أنّك تكونين معهم، وتحضرين، فأراك في الأيام القليلة القادمة، وقبل أن أغادر مجددا إلى الخارج، حيث أعمل رئيس قسم في إحدى الشركات الهندسية. استخبرت من أهلي عن الأوضاع، وسألت والدك مجددا عن موعد قدومكم، وغادرت متوترا. فكّرت في أمي، وأبي، وخروجهما مع متاعهما القليل، من غير أرضنا الواسعة وبيوتنا الكثيرة. فكّرت في أبي الذي سيترك مزروعاته التي يسقيها من بئرنا، ويأكلّ من خيراتها الكثيرة… كيف سيضطر لشراء القليل منها في لبنان. فكّرت في مزارعنا، وإنتاجيتها… .

 طبعت هذا الكلام، ولم أرسله.

                                        *****

لقد أنشأ والدها موقعا خاصا به على الفيسبوك، وقد حوت صورة الصفحة الشخصية جمالها مع ولدين، ورجل. لا شك في أنّه زوجها. يا للمصادفة، إنّه هو الذي التقيته أمام مدخل بيتي التراثي، وانا مغادر. لم أعرف حينها صلة القرابة بينهما، لأنّه كان قد أقلع في سيارته قبل أن أسلّم عليه، غير أني لمحت وجهه. لقد رأيت ولدين معه في السيارة، ولم أعرف حينها من هما، ولا أعمارهما. إنّ استرسالي اليوم في الاتصال الهاتفي مع والدها صوّب مداركي، وأنهى مراهاناتي عليها، خصوصا بعد أن رأيت صورة الفيسبوك.

شيئا فشيئا غابت عن بالي، وانهمكت أكثر بتدبير شؤون أهلي. نسيت هذه المرة أن أحزن على فراقها، ولم أعبأ طويلا حين وضعت رأسي على الوسادة لعدم انفرادنا في تلك الأيّام.  عدلْت عن إرسال أيّ رسالة لها عبر Messenger. قرّرت بيع منزلنا التراثي، لأنّه لن يجمعنا، فضّلت أن أمحوَ مخيّلة تجمعنا.  أمّا زوجي التي لم أحاورها منذ أشهر، فلم أيأس حين علمت أنّها قد غادرت المنزل. لقد حرّرتها، بعدما ادّعت مرارا أنّها عبدة لي، وتريد أن تكون إمرأة، ولا تريد الالتزام مع رجل لا يعطيها كماً من الحنان تشتهيه. لقد حملَتْ متاعَها، وخرجَت من المنزل، فارتحْتُ منها. يجب أن تخرج، وألا تفكّر بالعودة، لئلا تعيد إطلاق شتائمها على مسمعي ، تلك التي تعلن من خلالها أنني المتخلّف، والمجنون. لن أؤخر ارتباطها برجل، يجب أن ترحل، كما رحل سواها. وسأكلّم غدا أبا علي صديقي لتسكن أسرتي في إحدى شققه، وقد يعجب أهلها المنزل المجاور لهم .

د. لميس حيدر:
_ دكتوراه في اللغة العربية وآدابها؛ عنوان الأطروحة: تشكّل العالم الرّوائي عند حسن داوود حتى العام 2000
_ دبلوم دراسات عليا؛ عنوان الرسالة: تحقيق (تعليقة لطيفة) للشرف الأيوبي الأنصاري
_ أستاذة في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية
_ كتبت عدداً من القصص القصيرة والأبحاث الأدبية.
_ صدر لها رواية “ناي لعصفور الجنة”، ومجموعة قصائد شعرية.

شاهد أيضاً

شظايا

سعيد ابو نعسة: ترِكّ تراك .. ترِكّ تراك .. ترِكّ تراك……. هذا الصوت ليس دقّات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *