الرئيسية / أبحاث / [مفتاح لنجوى] رواية مترعة بالألم والرغبات!

[مفتاح لنجوى] رواية مترعة بالألم والرغبات!

مؤتمر المقاومة13

أعترف،
أنني لم أكن كبير الثقة بكتابات المرأة ذلك لأنني قرأت لكاتبات أجنبيات، وعربيات، ولم ترق لي كتاباتهن (أستثني الإنكليزية جين أوستن) لأن المرأة في كتاباتها أسيرة هموم شخصية جداً، وضيقة جداً، ولأن ما من همّ في معظم كتابات المرأة، في أغلب الأحيان، سوى العلاقة مع الرجل، سوى رضا الرجل، فإن قابلها الرجل بالرضا، زهت الدنيا لها وصارت مطرحاً براحاً نضراً ملوَّناً مبرقاً ماطراً مشمساً مقمراً، وإن قابلها بعدم الرضا والخصومة صارت الدنيا، كل الدنيا، جدران العتمة، والقهر والظلم والدموع والهواجس والحرمان والتأفف والشكوى والملاومة المحيطة بها كسجن رجيم!
إن انشداد كتابة المرأة إلى عالم الرجل (قبولاً ونفوراً) كتابة لا تخلو من طينية العواطف التي لا تصنع أدباً تربخ فيه الفلسفة التي هي ملح الحياة، الملح الذي لا بدَّ منه لكي يكتب للنصوص خلودها وديمومتها، إن نداءات المرأة المكتوبة، والمطلوقة على صهوات الريح.. تجاه الرجل لكي يتخلص من تجهمه وصدوده، وخياناته، وإدارة الظهر لها، بعد أن صار سحر الأنوثة مكاشفة نهارية فاضحة.. لهي نداءات مضرة بالأدب والمرأة معاً، ذلك لأن الأدب يصير عجينة من ترابية لا ضوء فيها، ولا ربيعية، ولا تدافقاً لندى عزيز، مثلما تصير المرأة مخلوقاً هابطاً من عرش الأنوثة، والسرانية، والحلم المعافى المحروس بالشوق والأسئلة الثقال.
إن وقوف كتابة المرأة على مدونة العاطفة والتناهيد، والآهات المرسلة، والانتظارات الممرضة، والأسئلة المحمولة على كفِّ الغايات الدانية [كالمواعدة، واللقاء، والكلام الجميل، والوعود الزائفة، والنظر في مرآة الآخر/ الرجل].. إن وقوفاً كهذا يجعل من الكتابة شأناً خاصاً وليس شأناً عاماً، وشأناً وضيعاً وليس شأناً سامياً، ذلك لأن هذه الكتابة غير معنية بخلاص جمعي أو روح جمعي أو توريث تجربة بقدر ما هي معنية بالمثال الخاص، والخاص جداً!
لكن قراءتي لتجربة غادة السمان، الكاتبة الكبيرة بحق، أعادت إليَّ الثقة في كتابة المرأة، وهذه الثقة لم أخرج بها وأنا أقرأ جورجينا وولف، وجورج صاند، وفرانسوا ساغان، والأمريكية موريسون، والجنوب إفريقية غورديمر، ذلك لأن غادة السمان تكتب بروح الفرد، ولكن بأصابع أنثوية، وتتصدى لموضوعات عامة، ولكن بقلبٍ أنثوي شجاع، وترى بعيون المعرفة وليس بعيون البشر.. كتابتها كتابة يتجاور الواقعي فيها مع العجائبي والخيالي، مثلما تتجاور الخبريات الصغيرة عوالم الأساطير.. فتغدو الأمكنة الصغيرة مجتمعات للتقاليد والعادات والتصورات الواسمة للشخوص كي يصير السلوك هوية. كتابة يحررها الكلام المضيء من عتمة الحكي المعرّش شوكاً في كل الأنحاء وعلى سائر الصعد، وقبل غادة السمان كانت كوليت خوري البهَّارة التي افتكت خصوصية الكتابة من الرجل.. لتكتب ما لم يكتبه الرجل، ولتشق طرقاً، لا طريقاً، للحرية الواحدة المتكاملة، حريّة المرأة وحرية الرجل معاً.
الآن، كتابة أنثوية أخرى، تعزز ثقتي بإبداع المرأة وكتاباتها هي كتابة الروائية اللبنانية فاتن المر، وهي كتابة مفاجئة بحق، ذلك لأنها كتابة تماشيها الحواس، والانتباهات، والفطنة، والباديات من الأحداث، والمضمرات من الأسئلة، والموجع من صفوة القول، كتابة مهمومة بالبقاء لأن أسطرها مبللة بالألم الذي هو ضوء الكتابة، ولا ضوء للكتابة سواه، قرأت لها روايةً عن الفادية [راشيل كوري] التي أكلتها نيوب الجرافة الإسرائيلية، وهي في طراوة الندى وصفائه، التي جاءت إلى وطن سيدنا المسيح عليه السلام لتبارك أهله بالوقوف معهم، والعيش بينهم، وقد توحدت المخاوف والهواجس والأمنيات.. راشيل كوري رواية أخرى يكتبها فاتن المر بحروف من النورانية التي تبدعها الأرض المباركة، والمواقف المباركة، فيجالس المرء صفحاتها، وكأنه يقرأ كل ما هو جميل يضاف إلى سيرة (راشيل كوري) شهيدة الحرية والمحبة والوحدة الإنسانية.
وفاتن المر، (تعريفاً) هي أستاذة جامعية تُدرّس اللغة الفرنسية وآدابها في الجامعة اللبنانية، وناشطة ثقافية، وسياسية، واجتماعية، مشعّة كجمرة نار متقدة لم تفقد حماستها تجاه القضايا الكبرى الحارقة، والغايات النبيلة الصعبة، وبعيدة المنال، إنها كائن يؤمن بالوحدة وهي في تنوعها وتعددها واختلاف طعومها وكثرة أبوابها ونوافذها.. مؤمنة بوحدة الأرض، والتاريخ، والثقافة، والمصير؛ هذه الجهات الأربعة التي تشكل الإنسان المجبول من الأساطير، والأحداث، والأفعال، والعقائد، والقيم، والأحلام! ومؤمنة بأن الحقوق لا تموت، وإن فتكت بها الأزمنة والظروف، وإن خذلتها الأجيال بالإقصاء والتحييد والتهميش والازدراء.. فالحجارة التي يزلها النباؤون (في الظرف الباردة) هوىً.. تصير (في الظروف الحارة) رأس الزاوية بالقناعة الكاملة، وليست أوقات الخذلان سوى أوقات خذلان وحسب، والحياة تجوزها مثلما تجوز هبة هواء أعواد قصب مفردة. وفاتن المر، كاتبة ذات حساسية خاصة مشدودة إلى جدلية علوق بالمعاني الخوالد [الأرض، التاريخ، الإنسان] حتى لتكاد كتابتها الروائية كلها لا تغادر هذه الثلاثية لوعيها المتجلي في كل سطر من سطور كتابتها أن الحياة فقدٌ إذا ما كانت الأرض موطوءة بالأحذية القذرة، والتاريخ منهوباً بالأكاذيب والكتابات المطفأة، والإنسان مجرداً من الحس والانتماء، وأنه لا بد لهذه الثلاثية من أن تكون مملوءة بالمساهرة، والصون، وأسئلة (لماذا، وأين، وكيف) والإيمان بأن أقانيم الحياة ليست [اليوم] فقط، ولا هي [الأمس] فقط، كما أنها ليست [الغد] فقط.. الحياة هي الآن، بالموقع، والرتبة، والحضور.. التي تشكلها لحظات الزمن الثلاثي.
اليوم، أقرأ لـ فاتن المر رواية جديدة عنوانها (مفتاح النجوى) صادرة عن دار الآداب/ بيروت (2013) وهي رواية شديدة الغنى، شديدة الحميمية، ومكتوبة بطريقة احترافية جديدة تقوم على تبادل الرسائل ما بين شخصيات الرواية، وفيها يتجلى الموضوع ويتبلور مثلما تتجلى المخاوف، والهواجس، والوقائع، والأحداث، والأخبار، والأمنيات الدانية، والأحلام البعيدة.. فوق رقعة مكانية طارئة في اجتماعيتها، ومرتبكة في أزمنتها المتعددة، وحيوات عطشى للأمن والأمان، ونفوس تساهر الأخبار مثلما يساهر حراس الحدود جهجهات السَّحر.
الرواية، وفي كليتها تقريباً، تنهض بها شخصيتان أساسيتان هما (نجوى) و(دارين)، عبر تراسل مكتوب، وآخر هاتفي على خطوط (الانترنيت) الساخنة، وباجتماع الرسائل ذهاباً وإياباً.. تتبدى أحداث الرواية، وتتجلى أخبارها، فيحوّم زمنها الحرون الممض فوق رقعة مكانية اسمها (مخيم صبرا وشاتيلا)، وتتدافع أرواحٌ شققتها الأحلام التي لا تصير واقعاً.. كي تظل مشهديات البلاد الفلسطينية الحكاية التي لا تنتهي في بيوت المخيم التي تكاد تكون بيتاً واحداً لولا تعدد النوافذ والأبواب والمداخل والأسماء والهموم والنداءات الطالعة والمضمرة في آن.
رواية تجول في مكان ضيق هو [مخيم صبرا وشاتيلا]، ملعب كرة قدم أرحب منه، لكنه يغدو وحين ينداح الكلام، وتتقاطر الذكريات، هو الدنيا كلها بجهاتها وأهلها وأحلامها.. ذلك لأن فلسطين تاريخاً، وأرضاً، وبشراً، وذكريات، وعقائد، وثقافات، وطبيعة، وجمالاً، وأحزاناً.. تغدو سرة الأرض، سرة الكون.
تنهض بالرواية شخصيتان محوريتان جاذبتان، هما (نجوى) الفلسطينية تدرس في الجامعة اللبنانية (الأدب الإنكليزي) تعيش في مخيم (صبرا وشاتيلا)، وهي أنثى اكتوت، مع أهلها، بكل أشكال الظلم والقسوة والعذابات الولود يومياً، تربطها صداقة مع (دارين) الشخصية المحورية الثانية، وهي طالبة تدرس الهندسة المدنية في جامعة لبنانية، والأدب الإنكليزي في جامعة لبنانية أخرى، وبسبب دراستها للأدب الإنكليزي وحاجتها لمعرفة المحاضرات وملخصاتها تتعرف إلى (نجوى) فيصير التعارف مع الأيام صداقة حميمية، تتشابك خلالها علاقات أُسرية، وتتزايد رقعة الأصدقاء المشتركين، والاهتمامات، والخبريات، وتتبادل الاثنتان الهموم، والأحلام.. ناهيك عن عيشهما لكل المشاغل الجامعية والحياتية معاً، و(دارين) شابة فلسطينية أيضاً، لكنها بسبب عقيدتها المسيحية تم تجنيسها لبنانياً، فحملت الجنسية اللبنانية، لكنها تعرف من خلال أجدادها، وأهلها ــ إلى حد ما ــ أنها فلسطينية، لذلك يصير واحدٌ من مشاغلها هو البحث عن جذورها الفلسطينية، ولذلك أيضاً تعزز علاقاتها ونشاطاتها بالفلسطينيين، وعلى رأسهم صديقتها (نجوى)، فتحاول أن تتعرف خرائط عدة، منها الخريطة الاجتماعية للفلسطينيين في لبنان، مثل أعدادهم، ومدنهم الفلسطينية وقراهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأحوالهم الاجتماعية، وأعمالهم، ودراساتهم، وصلاتهم باللبنانيين، ومنها أيضاً الخريطة السياسية الفلسطينية، كالتنظيمات الحزبية، والحضور الفلسطيني في الجامعات (اتحادات الطلبة)، والروابط السياسية القومية، ومنها الخريطة الثقافية، كطباعة الكتب، والأعمال الصحفية في المجلات والصحف، والقصص، والروايات، والأشعار، ومنها الخريطة المقاومة، كـ تواجد المقاومين الفلسطينيين في بيروت، والمدن اللبنانية، والجنوب اللبناني، وداخل المخيمات الفلسطينية، وكذلك خريطة المجازر التي عاشها الفلسطينيون ووعوها، واكتووا بنيرانها وويلاتها، من مجزرة (الطنطورة)، و(الحسينية)، و(دير ياسين)، و(كفر قاسم)، و(السواحرة) وصولاً إلى مجزرة (تل الزعتر) و(صبرا وشاتيلا) والوقوف على أسبابها، وتعدادية ضحاياها، وآثارها.
أما (نجوى) فهي الشخصية التي تتحدث عن مخيم (صبرا وشاتيلا) بكل تفاصيله، وأحداثه، ونشاطاته اليومية، وأحوال ناسه، كما تتحدث عن نشأته، ومحاولات تطوير الحياة فيه، وتعددية الأجيال، والثقافات، والأنشطة، والتقلبات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي شالت بالمخيم، منذ اللجوء وحتى عصر التكنولوجيا، وأخبار السفر، والنزوع إلى ثقافة (المغايرة) وأحلامها بــ (تغيير) المكان/ المخيم، وترك الضواحي والدخول إلى عوالم (المدن)، وتغيير الخيم بألواح الزنك، ثم بالبيوت الاسمنتية، وزراعة الأشجار تعويضاً عن البيارات الفلسطينية، ورصف الطرق، ودخول عالم الكهرباء، والنزوع إلى العمل بكل الطرق والوسائل، وفتح المدارس، والأندية الاجتماعية، والثقافية، والرياضية، والمستوصفات الصحية..
(نجوى)، ومن خلال رسائلها، وأحاديثها، وحواراتها مع (دارين) التي لا عمل لها في الرواية سوى أن تسأل، تتحدث عن بيوت مخيم (صبرا وشاتيلا) وعن نساء المخيم اللواتي يجالسن عتبات البيوت، ومداخل الأزقة، وعن ضجيج الأولاد، والنداءات المتعالية دوماً، والصراخ المتوارث عبر الأجيال، والمعاركات الدائمة حول حنفيات الماء، وحول عربات الخضار والفواكه، وأمام أبواب المدارس، وقبالة الدكاكين الصغيرة، وقبالة الحيطان التي باتت فضاءً لرسوم الكبار والصغار وتخطيطاتهم، وشعاراتهم النضالية، نجوى تقدم صورة وافية ضافية عن مخيم (صبرا وشاتيلا) كإنموذج لأي مخيم فلسطيني داخل الوطن الفلسطيني أو في المنافي، وحين تمضي إلى دواخل الشخصيات، تقف على الهواجس، والهموم، والأفكار، والأحلام، والمخاوف، والأسئلة التي تجول في نفوس أبناء المخيم صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، فتجدّول المشكلات، والرغبات.. للذكور الذين يطمحون إلى الوظائف، وإلى الالتحاق بالمنظمات الفدائية، والجامعات، وإلى السفر للبلاد الأجنبية، وللإناث اللواتي يطمحن إلى التعليم، والحيازة على مهارات خاصة في الكمبيوتر، والمشافي، والأعمال اليدوية (على اختلافها)، والزواج من اللبنانيين (لكي تكتسب الفتاة الفلسطينية الجنسية اللبنانية).
وإذا ما تلبث المرء عند العوالم الداخلية التي تبدي حراك الشخصيات، فإن (نجوى) تقدم الكثير، فهي ترصد حالات العنف والضرب داخل الأسرة، وفي الشارع، والمدرسة، فالكبير يضرب الصغير، والقوي يضرب الضعيف.. والكل يريد (التنفيس) عن هموم ومشكلات داخلية، فالضرب يشكل نوعاً من مقاومة القهر الذي يعيشونه، وقد تعددت ألوانه (قهر اجتماعي، وآخر سياسي، وثالث اقتصادي..)، كما ترصد عوالم الحكايات التي تقوم بدور الرواة التاريخيين عن أمكنة فلسطين وأزمانها وأحداثها، وعن مدونة الاستشهاد والفقد والغياب والمقابر والقصص التي تلفها، وعن كل ما هو عابر في المخيم، حتى المخيم يصبح عابراً كمكان، وزمان، وبشر، وحكايات، وأحداث لأنه ليس سوى ممر من حياة إلى أخرى، ومن عالم إلى آخر، ومن مدونة قيم إلى مدونة قيم أخرى، فلا شيء منظم في حياة العبور (العبور)، ففي حياة (الممر) كل شيء مشاد على الفوضى، الفوضى هي سيدة الأشياء في المخيم الذي يضم خلقاً من البشر تتناهبهم الأسئلة، والأحلام، والظروف الصعبة.. وعددهم لا يقل عن ستة آلاف نسمة يعيشون فوق مساحة مكانية لا تزيد عن واحد كم2، وقد انجذب إليهم لبنانيون وسوريون أحزانهم تشبه أحزانهم، وأرواحهم شققتها الهموم مثلما شققت أرواحهم، مخيم تتوالد فيه أخبار الخائبين والمهزومين والعاطلين عن العمل مثلما تتوالد الخمائر صبح مساء، وبيوت تزداد التحاماً وضيقاً، وكأن لا عمل لليل المخيم سوى رصّ البيوت حتى لتبدو زنازين موحشة! وكل شيء في المخيم مشترك، المكان، الأزقة، الدروب، الساحة، الدكاكين، الأندية، الحيطان، أسلاك الكهرباء، الضجيج، الأسئلة، الأجوبة، النداءات، الروائح، الانتظار، الأطعمة، الأحلام، الهموم، الهواجس، الأمراض، الذهاب، الإياب، المواعيد.. حتى بيوت الخلاء مشتركة!
وعلى الرغم من هذا الحضور الكثيف، والكثيف جداً للهموم والمتاعب، فإن لدى (نجوى) وقت للحب، فهي تناور (رشيد) وهو طالب في السنة الخامسة في كلية الطب، ترغب به حيناً، وتعوضه حيناً آخر، ولديها أيضاً الوقت لتفتح نوافذ المراسلة مع الأصدقاء الذين غادروا المخيم وصاروا غرباء في البلاد الأوربية بلا أوراق بلا أمن، تسأل وتجيب، مثلما هم يسألون ويجيبون، ولديها أيضاً الوقت لكي تتعلم الرسم في نادي (غدنا) عند الأستاذ (أبو الفداء) مع أخويها الصغيرين (شادي وشادية)، ولديها الوقت كذلك لكي تبحث عن لبناني يتزوجها لكي تأخذ الجنسية اللبنانية، فيصير لها الحق في العمل بموجب شهادتها الجامعية.
وحين تستدير (نجوى) لتحدثنا عن أسرتها نجد بأن والدها أستاذ الرياضيات سابقاً صار بائع خضار وفواكه، وأن أخوتها توازعتهم التنظيمات الفلسطينية قسمة فاصطفوا في تنافر عجيب حتى فلسطين كانوا يختلفون عليها مكاناً، وتاريخاً، وبشراً، وحلماً، ومآلاً!
أما (دارين) فهي تبحث عن معادل موضوعي يهمها في الحياة، إنها تبحث عن جذورها الفلسطينية، وتريد أن تعرف النسب الأول، والمكان الأول، والوطن الأول، والرواية الأولى، لذلك تعيش إلى جوار جديها لكي تعرف الجذور بعيداً عن رقابة أمها التي لا تريد لها الالتفات إلى الماضي، ولذلك أيضاً تذهب لتعيش مع عمتها (رندة) المريضة التي تكتب الرسائل لرجل غريب هو الدكتور غسان الخطيب الذي أحبته وعشقته، وتريد منها مقابل كل ما تقوله لها عن فلسطين (بوصفها الموطن الأول، والجذر الأول) أن تبحث لها عن عشيقها لكي تسلمه الرسائل الموجهة إليه، ولهذا تتعاون هي و(نجوى) للبحث عنه.. وأخيراً تجد الاثنتان بأن الدكتور غسان الخطيب هو أبو فداء رئيس نادي (غدنا) الذي يتسلم الرسائل، ويصير على علاقة جديدة مع عمة (دارين) (رندة) التي تتوهج وتشرق مثل شمس لأنها استعادت حبيبها (الدكتور غسان الخطيب). وإن كانت على فراش الموت! ودارين، لا تخفي شيئاً عن صديقتها (نجوى) فتبوح لها بأنها أحبت (هنري)، ثم (الكسندر) وفشلت في حبهما، لا بل تصارح (نجوى) بأن حرب تموز (2006) قلبت حياتها رأساً على عقب، لذلك فإنها ألصقت صور السيد حسن نصر الله، وكمال خير بيك، وغسان كنفاني، وسناء محيدلي على واجهة خزانتها الخاصة كرموز للمقاومة التي تبنتها ثقافةً وبقناعة مطلقة، وبهذه القناعة تجول على المخيمات الفلسطينية لكي تكتب الروايات الفلسطينية، عن الخروج، والعذاب، والقهر، والموت، والمخيمات، والعمل الفدائي، وأحلام العودة، إنها تذهب إلى مخيمات برج البراجنة، ومار الياس، والجليل في البقاع.. وتقابل الناس وتتعرف أحوالهم وتكتب قصصهم، وتسجل وقائعهم، وترصد أحلامهم.
حين بدأت تتعرف إلى المخيمات كأمكنة وبشر وعذابات وأحلام.. أحست بأنها انتقلت من كوكب إلى آخر.. إذ ليس من المعقول أن يعيش هؤلاء الناس، سكان المخيمات، في ظروف لا إنسانية كهذه لا تقبل بها الحيوانات معاشاً!
وتنشط في زيارة المعارض الفنية، والأشغال اليدوية، والندوات المعنية بالمقاومة، وتحتار (دارين) فتقبع داخل دهشتها.. لأنها تتساءل كيف لهؤلاء النساء في المخيمات أن يصنعن القهوة ويشربنها أمام عتبات البيوت العادية القاحلة.. الخالية من مشاتل النعناع أو العشب، وأمامهن المياه المالحة تتسرب عبر شقوق سميت بالقنوات حاملة كل عفونة الروائح وأوساخ الصابون، وفوقهن رائحة القهوة والأحاديث عن الأحلام تعرّش في فضاء ضاق حتى احتجب!
رواية فاتن المر (مفتاح لنجوى) رواية مفاجئة حقاً، لأنها تتحدث عن واقع الفلسطينيين في مخيماتهم في لبنان، فتصور الواقع كما هو، بكل مأساويته، وظلاميته، وأحزانه، وخيباته، كما أنها تتحدث عن المقاومة بوصفها الخلاص، والرواية مفاجئة أيضاً لأنها نهجت أسلوب الرسائل الذي أعطى الرواية حيوية فائقة، وحميمية فائقة، وسرانية فائقة أيضاً، كما أعطها ميزة تعددية الأصوات التي تقابلت داخل الرواية كما لو أنها مرايا.. الواحدة منها راحت تبدي المرايا الأخرى، والصوت الواحد راح يثري الأخبار والأحداث بترادفٍ موحٍ للأصوات الأخرى إن في الموافقة، وإن في التضاد معاً.
رواية (مفتاح لنجوى) رسالة طويلة محتشدة بالمسكوت عنه طوال زمن قارب في عمره عمر النكبة الفلسطينية، ومحتشدة بالعذابات والمخاوف التي راكمتها الظروف العواصي، والخيبات الكبار، وهي أيضاً محتشدة بالأحلام الكبيرة التي لم تشققها الهزائم بعد؛ رواية كتبتها عين شديدة الحساسية شديدة النفوذ، عين رائية في عتمة أريد لها تكون وتظل (الظروف الغامضة) حيناً، والظروف الظالمة) حيناً آخر.
لهذا فإن الرواية (مفتاح لنجوى)، وصاحبتها (فاتن المر) كلاهما جدير بالتصفيق الحقيقي، والثناء الحقيقي لأن الرواية واحدة من أهم الروايات اللبنانية التي تعالج مأساة المخيمات الفلسطينية في لبنان، ولأن الكاتبة أنجزت مدونة روائية لا تقوى عليه إلا القلوب الجسورة، والمواهب الفذة!.

الروائي الدكتور  حسن حميد

Hasanhamid55@yahoo. com

شاهد أيضاً

ندوة “عاشوراء نبضة الألم ونهضة الأمل” في معهد المعارف الحكمية

شارك الملتقى الثقافي الجامعي في ندوة أقامها عصر يوم الإثنين في 11 أيلول 2023 معهد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *