الرئيسية / أبحاث / قراءة (بنيويّة ــ سيمائيّة) لقصيدة ” الحصان ما زال وحيداً”

قراءة (بنيويّة ــ سيمائيّة) لقصيدة ” الحصان ما زال وحيداً”

القسم الثاني من البحث للكتور غسان التويني

  • سيميائية العنوان : “الحصان ما زال وحيدا”

يحيلك هذا العنوان الى مجموعة محمود درويش الموسومة بعنوان”لماذا تركت الحصان وحيدا”،المؤرخة العام1995. هذا السؤال الذي وجهه إلى أبيه يمثل رسما ً واضحا ً لملامح المرحلة التي كتبت فيها المجموعة ، إذ تخلًى فيها الأب عن مسؤولياته اتجاه ذلك الحصان الذي يمثل الشاعر محمود درويش من جهة، والشعب الفلسطيني من جهة أخرى.

طيلة ثلاث عشرة سنة لم يتبدل المشهد العربي الذي فرض هذا السؤال ، لأنّ الشاعر محمد علي شمس الدين يؤكّد لمحمود درويش أنّ “الحصان ما زال وحيداً” والأب لا يزال عاجزا ً عن القيام بمسؤولية حماية الحصان وإدارة عنانه كما تقتضي المصلحة العليا للشعب الفلسطيني المشتت بين الداخل والخارج. رسم محمد علي شمس الدين في قصيدته المهداة إلى محمود درويش في رحيله الأخير نحو الجليل بعنوان “الحصان ما زال وحيداً”مشهدا جنائزيا يختصر المشهد العربي والتخبط الذي يعيشه .إذ يحمل العنوان علامات سيميائية دالة، من ناحية إختياره جملة إسمية مركبة تتكرّر فيها كلمة “الحصان” مرتين، مرة ظاهرة(الحصان)، ومرة مستترة (مازال )،هذا الاختيار لم يكن وليد الصّدفة، بل هو وليد الـتأني الذي يكشف الواقع الذي تعيشه الساحة الفلسطينيّةعلى أيدي المحتل،وماتعانيه الساحة العربية من تفكك،وهذ بدوره يؤكد مايتعرض له (الحصان/  الشعب الفلسطيني)، في الزمن الماضي (1995) ، وما يتعرض له من إنكشاف وعراء حتى لحظة كتابة النصّ الشعريّ العام 2008.

عندما  تشكل كلمة (الحصان) نواة الجملة / العنوان وقطبها الأساسي، هذا لا يعني إلا ّ خروجا ً على النظام  اللّغوي إلى نظام سيميائي يقدم علامات تتعدى التفسير اللّغوي لكلمة ( الحصان)، إلى الذاكرة العربية التي تقدم الحصان رمزا ً للقوّة والعزّة. فهل تُرك (الحصان) كما تُرك الشعب الفلسطيني ، فخسرت الأمة بذلك قوتها وعزتها؟

تطل مفردة (وحيداً) في العنوان لتحسم حال (الحصان/ الشعب الفلسطيني) الذي تُرك في السّاحة وحيداً يواجه تحدّيات المرحلة في غياب سلطة تدعي أنّها الأب الذي يرعى مصالح أبنائه. نعم لا يزال (الأب/ السّلطة) يمعن في كشف ساحة الشعب الفلسطيني، لأنّه لا يزال يتخبط في الظلام، ولا يزالون يتقاسمون “دمه المعلّق” ويتركونه في العراء “كالولد اليتيم”.

 

  • حركة تشكل النص والنمط السّائد:

تتوّزع هذا النص ستة أقسام.

ــ القسم الأول من النص ( 1-11) يمكنه أن يحمل عنوان ” الرحيل نحو الجذور”. يختار (قمر الجليل / الشاعر محمود درويش) الرحيل نحو الأمّ الحقيقيّة، تلك الأرض التي عشقَها وأحبَّها  وكانت محور تفكيره باستمرار.  يعود الشاعر برفقة طيوره وغزلانه إلى حضن الطبيعة الدافئ مبتعدا ً عن زيف المدنيّة وتعقيداتها:

“قمرُ الجليل يلم ُّ طيوره البيضاء من أعشاشها ويعيدها للوعر ثانية فتبتهج الوعولُ” .

ــ ويدور القسم الثاني (12-21) الموسوم بعنوان ” تعالي الشاعر على السلطة “، حول وصول نعش الشاعر إلى مدينة أريحا واستعدادات السّلطة الرسمية للقيام بمراسيم  الدفن، إلا أن (الشاعر الراحل) لا يعطي للأمر أهمية ، يغادر نعشه متخطّيا ً حدودا  المكان والزمان اللّذين رسما له، يغادر نعشه يتسرب إلى شرايين الأرض الفلسطينية التي أحبّها.

“لعلني أبصرتهم حفروا له قبراً هناك وأفرغوا كلماتهم فوق التراب

أسىً وناموا

لكنّهم وجدوه غادر نعشه ومشى” .

ــ يؤكد القسم الثالث (22-36) الموسوم بعنوان ” هزيمة الموت” إصرار (الراحل/ الشاعر) على أن موت الشاعر ليس موتاً، بل هو حياة تعصف مجدداً في حياة الوطن والأمة، مع كل ما يتعرض له من قهرٍ وتعذيبٍ وقتلٍ .

“ولطالما قتلوه

ثم ّ تقاسموا دمه المعلّق

في ذبائحهم وقاموا

قمر ٌ سلام ”

ــ أمّا القسم الرابع (37 -49) فعنوانه “توحّد الشاعرين في الهمّ” لأن محمد علي شمس الدين يفاجأ برحيل صديقه الشاعر (أخذته مني بغتةً)، إلا أنهما يصلان معاً إلى” جغرافيا البركان”بعد أن نشاهدهما قد أصبحا جسداً واحداً وهماً مشتركاً.

“عيني على عينيه

هل جرت الجداول منهما

والخمر سال من الكروم” .

ــ نصل إلى القسم الخامس (50 – 68) الذي يحمل عنوان “الإنبعاث”  ذلك أن البعد التموزي شديد الوضوح فيه بوساطة تموز الذي يعبّر عن نفسه مباشرة .

“تموز عاد يقضُّ مضاجع الموتى

فتحتشد الجبال على الجبال”

يعود الشاعر إلى الأرض، لتُسترجع نضارتها من جديد، ثمّ يعود (الجواد) إلى السّهل وينتصر الدم على سيف القاتل .

ــ يستعيد القسم السادس (69 – 80 ) الذي وُسم بعنوان “تبقى فلسطين الهدف” يختم الشاعر محمد علي شمس الدين، أن محمود درويش لم يخطئ الهدف ولم يضيّع اتجاه البوصلة الحقيقية، إلا وهي القضية الفلسطينية التي أعطاها أجمل سني عمره.

“من أين يا عم ُّ الطريق إلى القصيدة؟

من هنا

وأشرت  نحو الله

قال فهمتني خطأ

فأنا أريد طريق  حيفا”

إذا أردنا ان نخلص إلى بنية دلالية كبرى تحكم النص من خلال العناوين التي اتخذتها الأقسام الستة، وجدنا أنفسنا أمام فكرة دورة الحياة والموت التي يعيشها الإنسان، لكن هذه الفكرة تتعدى مع الشاعر محمد علي شمس الدين مرجعيتها في العالم الواقعي، إلى العالم الشّعريّ الذي يرسمه لصديقه الشاعر محمود درويش، إذ يعود الراحل محمود درويش بعد موته تموزاً خصباً في الطبيعة الفلسطينية.

تمسك السّردية بتلابيب الأقسام وتتحكّم بها، إلا أنّها لم تكن سردية روائية هدفها نقل الأحداث متتالية إلى المتلقي، بقدر ما كانت تكشف رحلة (الموت) في جنازة تعبر الجليل إلى عمق الأرض الفلسطينية المحتلة، كما قدّمت السّردية انفعال الشاعر محمد علي شمس الدين حيال تلك الجنازة الملونة بألوان الفجيعة من جهة، والمعبّرة عن علامات الإنتصار من جهة ثانية .

تداخل السّردية حركةٌ مرجعيّة تقدّم تفاصيل المشهد  وجزئياته راسمةً صورة الطبيعة التي رافقت الجنازة واحتضنت الراحل نحوها، كما قدّم الوصف الظلم اللاحق بالراحل (الشاعر) على أيدي القتلة الذين اغتصبوا الأرض وقتلوا الإنسان.

 

  • دور الإيقاع البنائيّ:

تقوم إيقاعيّة أيّ نصّ شعريّ على ثلاث مستويات: الإيقاع المقطعيّ، والإيقاع النبريّ، والإيقاع التنغيميّ .

 

  1. الإيقاع المقطعيّ : بنى الشاعر محمد علي شمس الدين إيقاع نصّه على أساس النسق (متفاعلن =///5//5) تفعيلة بحر الكامل، وهو نسقٌ مكوّن من ثلاثة مقاطع قصيرة ومقطعين طويلين. ـ أي بنسبة (3) إلى (2) لصالح المقاطع القصيرة السّريعة . ويعني هذا أن الإيقاع قائم  على النفس القصير المتقطع، لا على النفس الطويل. فهل لازم الإيقاع السّريع (المقاطع القصيرة)، أقسام نصّه الشعريّ ؟ أم لجأ الشاعر إلى الإيقاع البطيء (المقاطع الطويلة) في لحظات معينة من عمر نصّه الشعريّ؟ وكيف يسوق الشاعر ايقاعه من ناحيتيّ،التبطيءوالتسريع، في سبيل تقديم المشهد الشّعريّ؟

 

إذا رصدنا النسب المئوية للمقاطع الطويلة والمقاطع القصيرة في النصّ، نجد تفوقاً بسيطاً لمصلحة المقاطع الطويلة (51,3%) مقابل (48,7%) للمقاطع القصيرة. هذا يعني أن الشاعر مع أنه اختار (متفاعلن) نسقاً أساسياً في بنائه الإيقاعي، إلا أنّ  هذا لم يمنعه من  توظيف أنساق أخرى كان حضورها  واضحاً في أقسام النصّ مثل (مستفعلن /5/5//5) جواز الكامل، المكّون من ثلاثة مقاطع طويلة ومقطع قصير بنسبة (3) إلى (1) لصالح المقاطع الطويلة. أقصد أن أقول أن المقطعية الإيقاعية كانت متكافئة  إلى حدٍّ بعيد على مستوى النصّ، وهذا ما يشير إلى  أن (جنازة الراحل محمود درويش) ورحلة الموت الأخيرة التي يقدّمها الشاعر لصديقه، تتطلب تمهلا ً وبطئا ً، لأننا نحرص دائماً على تأخير لحظة الفراق، بينما رافقت المقاطع القصيرة المشهد الثاني من (جنازة الراحل)، مشهد  ما أصاب محمود درويش من أذىً وقهرٍ وظلم ٍ على أيدي سلطة الإحتلال من جهة والسلطة السياسية الفلسطينية من جهة أخرى .

وإذا ذهبنا إلى أقسام النص لمراقبة حركة المقاطع الطويلة والقصيرة نجد أن الحركة الأولى من النص (الرحيل نحو الجذور)، استحوذت على نسبة (51,8%) من المقاطع الطويلة، بينما اقتصرت نسبة المقاطع القصيرة على (48,2%). ترتبط هذه الحركة الايقاعيّة  البطيئة بأجواء الرحيل  والحزن والفراق الذي يعيشها الشاعر. إذا كانت الحركة الأولى تتطلب تبطيئاً لزمن الرحيل، فإنّ الحركة الثانية،  (تعالي الشاعر على السلطة) تتطلب تسريعا ً للوقفة التي وقفتها السلطة في رثاء الراحل، لذلك جاءت  نسبة المقاطع القصيرة (50,8%). ويتابع  الشاعر في الحركة الثالثة، (هزيمة الموت) اعتماده على المقاطع القصيرة إذ بلغت نسبتها (52,8%)، لأن لحظة تفوق الراحل على الموت ،في لحظته الراهنة ، علامة دالة على تماسكه وثقته القوية بحتمية تفوق سلطة الشعر على سلطة السياسة .

تراجعت المقاطع القصيرة قليلا ً في الحركة الرابعة، (توّحد الشاعرين)، لتبلغ نسبتها (50,4%) في إشارة إلى حركة متوازنة فرضتها الهموم المشتركة بين محمود درويش ومحمد علي شمس الدين .

في الحركة الخامسة، (الإنبعاث الولادة)، تعود المقاطع الطويلة لتفرض البطء مجدداً (54,8%)، هذا يعني أن الولادة من جديد تطلب مخاضاً عسيراً وصعباً وأنفاساً طويلة، ويستمر هذا البطء في الحركة السادسة (الطريق إلى الأرض المغتصبة)، إذ تبلغ نسبة المقاطع الطويلة (54,1 %)، وهذا علامة دالة على أن الطريق طويلٌ وشاقٌ ويتطلب مجهوداً كبيراً وتضحيات جساما .

 

  1. الإيقاع النبريّ: يبلغ عدد النبر في النصّ مئة وتسع وخمسون (159). عدد النبر الأحادي (65)، وعدد النبر الثنائي (92)، والنبر الثلاثي (2). وتحويل هذه الأرقام إلى نسب مئوية تكون كالآتي : نسبة النبر الأحادي (40,8%)، والنبر الثنائي (57,8%)، والنبر الثلاثي (1,5 %).

يضعنا هذا التوزيع أمام دور تبطيئي واضح يقوم به النبران الثنائي والثلاثي مع الإيقاع المقطعيّ. وربما هذا الحضور التثقيلي للنبر عائد ٌ إلى رغبة الشاعر في إنتاج  مناخٍ يتلاءم مع رحلة الموت التي يقطعها نعش الراحل (قمر الجليل) إلى أريحا وحيفا نحو الأرض الفلسطينية المغتصبة،”يعودمجلوا على خشب/ومحمولاعلى كتف الغيوم/ووددت لو رافقته على جغرافيا البركان”. هذه المناخات تستدعي نفساً طويلاً من الشاعر يبطيء المشهدية الجنائزية التي تتجلى فيها كل علامات الحياة في حضرة الموت من جهة، وكلّ أنفاس المقاومة للظلم والقهر والاغتصاب بالقوة من جهة ثانية .

تتثاقل خطوات (الراحل/الشاعر) في حقول فلسطين ويتبعه اللاجئون:

“وجدوه يمشي في الحقول

وخلفه تمشي الخيام”

يستدعي هذا السير في أرض فلسطين والإلتحاق بترابها الطيبة تثقيل النبر وتبطيئه.

ويبلغ تثقيل النبر ذروته في القسم الأخير من النص، إذ يبلغ نسبة 64%، ما يعني أن الطريق إلى فلسطين تستلزم تضحيات كثيرة ومصاعب جساما.

“لو يعرف الزيتون غارسه

لسال الزيت دمعاً”

هكذا يلاحظ أن الدور التبطيئيّ الذي يقوم به النيران الثنائي والثلاثي ينسجم مع الدور التبطيئيّ الذي كانت تقوم به المقاطع الطويلة .

إنّ مقاومة الشاعر الإيقاع السّريع يناسب موضوع النصّ (الموت/ الحياة)، إذ اختار الشاعر  النسق الذي يمتاز بالبطء، لأنّه يمكّنه من مقاومة مشهديّة (الرحيل/ الموت) التي تتطلب أنفاساً طويلة قادرة على الإمساك بالواقع مجدّداً، في ظلّ رحيل شاعرٍ رمزٍ سيترك رحيله فراغاً ثقيلاً في ساحتنا العربية .

يمثل النسق الإيقاعي البطيء الواقع الفلسطيني الذي يستشري فيه مناخ الحزن والإحباط في ظل عدوّ  لا يوفر شيئا ً من أجل تفتيت الشعب الفلسطيني. حاول الشاعر مقاومة هذا الواقع وتحويل مساره ، بوساطة تعزيز الإيقاع البطيء على حساب الإيقاع السّريع،من مسار الانهزام أمام الموت إلى مسار الانتصار للحياة .

إن غلبة المقاطع الطويلة علامة دالة على تماسك الشاعر وإطمئنانه بأنّ هذا الرحيل علامة دالة على انبعاث الأمة من جديد، والإهتداء إلى طريق الأرض التي أحبّها الراحل محمود درويش وتعذب من أجلها.

 

  1. الإيقاع التّنغيميّ: يبلغ عدد الجمل الخبرية في هذا النص ثلاثا ً وسبعين جملةً، يقابلهما تسع جمل إنشائية توزعت على معظم أقسام النص. وغلبة الجمل الخبرية بهذا القدر يقدّم مشهديّة جنازة الراحل، وما يعصف بالشاعر من أفكارٍ حيال هذه الجنازة، وإذا لاحظنا حضور الجمل الخبرية القصيرة التي تبلغ واحداً وعشرين جملة، (قمر سلامُ/ دمه على وجناته/ قمرٌ حطامُ/ لا يلومُ/ لا يلامُ..)، نجد هذه الجمل تعبّر عن أوجاع الشاعر واختناق صوته من جهة، وقراءة حاضر محمود درويش وماضيه على مرآة الرحيل، (قمر تكسّر في المرايا)، من جهة ثانية.

تطل الجمل الإنشائية على النصّ بوساطة (لعلّ) الترجي الذي تكرّر ثلاث مرات في القسمين الأول والثاني إذ يقول: “لعلّها ضاعت وغادرها الدليل/ لعلّني ابعدت ُشيئاً ما/ ولعلّني أبصرتهم حضروا له قبرا ً هناك” .

لا يضعنا الترجي المشفوع بالصوت الهادئ أمام الفراغ الذي سيتركه الراحل في السّاحة الفكريّة والثقافيّة  والسياسيّة، بقدر ما يكشف عن قراءة هادئة وواعية لرحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش بعيدا ً عن النوح  والبكاء والفجائعية التي عرفها الرثاء العربي .

ويفرض الإستفهام نفسه على النصّ بثلاث جمل

” ماذا يدور هناك؟

هل جرت الجداول منهما

والخمر ُ سال من الكروم؟

من أين يا عمُّ الطريق غلى القصيدة ؟”.

لا يعبّر الاستفهام عن إستهجان وإنكار بقدر ما يكشف عن التباس الأمور على الشاعر. واللبس الذي  صاحب الاستفهام هو لبس موظف ٌ يقدّم علامات دالة على تداخل مشاهد الموت بالحياة في وقت واحد ٍ، لأنّ الموت بالنسبة للشاعر حيال ما يرى ليست حركة سكونية، بل هو حركة باتجاه الحياة ،لأنّ تجليـّاته بادية  ٌ في الطبيعة وفي الإنطلاقة الجديدة نحو الهدف .

وتتوزع الجمل الإنشائية الآخرى في النصّ بين التمني “وددت لو رافقته يوماً”، “لو يعرف الزيتون غارسه”.

والأمر بوساطة لام الأمر “فليبقَ في السهل الجواد كما ترى”.

مما يجدر ذكره حضور الإستفهام بـ”هل” في النص مرة واحدة في السطر (43) “هل جرت الجداول منهما ، والخمر سال من الكروم؟”، هذا يشير إلى النغم الصّاعد، ويتكرّر التضمين تسع مرات (9)، هذا يعني أننا، تسع مرات سنكون خاضعين لفعل التجاذب بين التنغيم الهابط الذي توحي به النهايات والتنظيم المستوى الذي يفرضه التضمين.

ويفرض التدوير نفسه بقوة في القصيدة، إذ بلغ خمساً وثلاثين مرة، وهذه الحضور للتدوير يترك علامة دالة إلى أن القصيدة دائرية، وهذا الأمر يشكل المعلم الأساسي من معالم حركة الحداثة وصولا ً إلى القصيدة الرؤيا([1]) ،وهذا ليس غريبا على شاعر مثل محمد علي شمس الدين له قدم ٌ راسخة في حركة الحداثة التي شهدتها القصيدة العربية المعاصرة . ويقوم التدوير بالتقاط  الأنفاس مع نهاية كل سطر بعد أن يميل النفس إلى الهبوط في آخر كل سطر يعود إلى استوائه فجأة، لكي تستقيم الإيقاعيّة النسقيّة توتر في الصوت والنفس معاً .

أمّا بشأن الروي، فقد نوّع الشعر الروي وأكثر منه حتى بلغت السطور المنتهية به سبعة وعشرين سطرا ً. تكرّر روي “اللام” عشر مرات “الميم” ثلاث عشرة مرة وروي “الفاء” مرتين، وروي “العين” مرتين . لا يدل هذا التنوع على الغنى الايقاعي القائم على تناغم في التبطيء إذ ينتهي الروي دائماً بصوت طويل يترافق مع حال الشاعر الذي يرافق صديقه في رحيله الأخير، وما يلفت في الأسطر التي تنتهي بروي يعتمد نمطيّة النسق الواحد وهو تفعيلة (متفاعلاتن) من  البحر الكامل التي تتساوى فيها المقاطع القصيرة مع المقاطع الطويلة . فهناك ثلاثة وعشرون نسقاً على وزن (متفاعلاتن)، هذا الحضور يمثل لحظة الصراع بين ثنائية (الغياب/ الحضور)، لحظة الغياب  التي تدنو سريعاً ولحظة الحضور التي يرغب الشاعر بأن تطول . يرافق الإيقاع الدلالة التي سعى الشاعر إلى إيصالها، فكان إيقاعا منسجما مع الرؤية الشعرية التي قدمها الشاعر، فالتطوّر الإيقاعي يرتبط بنيّوياً بالرؤية الشعرية التي تفرضها القصائد”([2]) .

 

  • حياديّة النظام اللـّغويّ :

تتمّ هذه الحياديّة في النصّ الشعريّ، على مستوى كلّ من المعجم والصرف والنحو .

 

حياديّة النظام المعجميّ :

في مقدمة العناصر المكوّنة للنصّ الشعريّ هذا على مستوى المعجم، نرصد التكرار، ولعلّ ما يلفت في هذا النصّ تكرار جملة “قمر الجليل” ثلاث مرات، استبدال المضاف (قمر) بكلمة أخرى (فتى الجليل)، وهذا التكرار لا يسلّط الضوء على الدلالة المعجمية للكلمة المكررة أو غير المعجميّة بقدر ما يسلّط على ما يحمله التكرار نفسه من دلالة تحيلك إلى علامات سيميائيّة تتجاوز النظام اللغوي السائد، لذلك لم تعد اللغة عادية  مع عبارة “قمر الجليل” لأنّ التكرار يحفر في ذاكرة الشاعر، ويحملّه علامات أبعد من الوظيفة  التي نعرفها (للقمر)، وهي إشاعة الطمأنينة والهدوء، إنّها علامات تتصف بالشاعر الراحل، إذ تشكل عبارة”قمر الجليل” نواة أو لازمة تمسك بتلابيب الجمل التي تأتي بعدها، وتحركها كما تشاء، تتصدر العبارة المقاطع الشّعريّة، تتحوّل الى مرشد وهادٍ للشعب الفلسطيني في لحظة ضياعه”..يمشي وتتبعه الحقولوطيوره البيضاء”،وغياب القيادة الرشيدة التي تقوده الى برّ الامان”..يلمّطيوره البيضاء من أعشاشها ويعيدها للوعر ثانية”.

 

ونجد الشاعر قد كرّر كلمة (قمر) مرات عديدة، وأسند إليها كلمات ذات هويات مختلفة إذ قال:

“قمرٌ يحفُّ به الظلامُ ــ قمرٌ تكسّر في المرايا.

قمرٌ سلامُ/ قمرٌ حطامُ”

لم يكرّر الشاعر هذه الكلمة بقصد التلذذ والتبرك والتزيين، لأنّ تكرار الكلمة (قمر) تحوّلت إلى ظاهرة في النصّ، والظاهرة تستدعي البحث عن دلالتها لقد كانت كلمة (قمر) موضع جذب واستقطاب داخل النصّ، وهذا ما يشير إلى قصدية يرغب الشاعر إيصالها، تتمثل بمرارة الشّر الذي كان يتربص بالراحل “قمرٌ يحفُّ به الظلام” وحين يتمكّن منه الشرُّ يتحوّل الراحل إلى حطام “قمرٌ حطام/قمرٌ حطام”. في لحظة التبعثر والتفتت وفي لحظة تكسّر المرايا يستعيد الراحل حضوره بوساطة تكرار جملة “تموز عاد”، علامة دالة على  تباشير الإنبعاث والولادة من جديد، هذا (الانبعاث) لا يمتدُّ في عروق الطبيعة الفلسطينية، إلا ليتحوّل إلى إنتصار دماء الشاعر على قاتله”فلم يقتل من المقتول/ال قاتلوه”.لم يعد (قمر الجليل) هو قمر المحبين الرومنسيين، بل أصبح قمر الشهادة”..يعودمجلوا على خشبٍ ومحمولا على كتف الغيوم”،أصبح قمر الجلجلة المؤدية الى خلاص البشرية من عذاباتها .

ويشارك الترادف في فرض نظام لغوي ينهض بدلالات جديدة تنسحب على رؤية الشاعر حيال جنازة الراحل محمود درويش. نجد في النصّ بعض الترادفات تتداخل  فيها صورة الشاعر الراحل مع صورة الطبيعة الحاضرة بحضوره، (يمشي/ تتبعه، أبصرت/ رأيت، جرى/ سال)، يقدّم الترادف الشاعر/ الراحل مشتاقاً لأرض فلسطين، والأرض تشتاق إليه، فيدخل الأرض التي ابتعد عنها ليستريح في تربتها الطيبة .

ويطل التضاد في القسم الأول من النص (يولد/يموت) ، (يضحك/ يبكي)، ليضعنا أمام لبسٍ وتشويش لا يستطيع حياله محمد علي شمس الدين تحديد ما يجري مع فتى الجليل هناك، وهذا اللبس والتشويش في التضاد موظفٌ، لأنه يختصر المسافة بين الحياة والموت بين الحزن والفرح، فنرى في كل من فعل (يولد/ يموت/ يضحك/ يبكي) تعبيراً عن الحياة في مشهديّة الرحيل الذي يعيش الشاعر لحظاته،يتخلى التّضاد عن طبيعته التي كانت داخل النظام اللّغوي، ليخرج الى علامة سيمائية،تشير الى مشهديّة الموت والانبعاث المرتبطة بقيامة الشعب الفلسطين،مفعله المقاوم للعدو الصهيونيّ .

 

ولا تقل الحقول الدلالية التي توزعت النص دلالة سيميائية عن كل من التكرار والترادف والتضاد، فحقل الطبيعة (قمر، صيف، الحقول،طيور، أعشاش، الوعر، الوعول، الكروان، الفصول، الشمس، الخيام، الأشجار، النجوم، الليل، الجداول، الكروم، الغيوم، الثلج، الصيف، الجبال، الزيتون) يحضر بقوة  في النص، هذا يشكل إشارة إلى عالم الراحل، لأنّ الطبيعة صورة الأمّ والأصل والحلم بالنسبة إليه. فرض محمد علي شمس الدين عناصر الطبيعة بسمائها، (الغيوم/ النجوم) وترابها ومياهها (فوق التراب/ الجداول)، ليفتح عوالم ممكنة بلغته الشعرية، لا تتقيّد بمعطيات الواقع وإكراهاته، يأتي حقل الموت (أضاعت، يموت، يبكي، نعشه، حفروا، قبراً أسىً، نعشه، بكوا الظلام، قتلوه، دمّه، تنزف، تكسّر، حطام، اليتيم، الدم، يقتل، المقتول، قاتلوه، الظلاميون، دمعاً). متوازناً مع حقل الطبيعة، وهذه إشارة إلى تماسك الشاعر في النظر إلى المشهدين معاً، فإذا كان حقل الموت يقدّم مشهد الجنازة في رحلتها الأخيرة، وما تعرّض له الراحل من جراحات وعذابات في رحلته العمريّة، فإنّ حقل الطبيعة  يؤذن بولادة جديدة يتكّفل بها حقل الإنبعاث، (الثلج، تلألأ في الأعالي، تموز ، تحتشد الجبال، يمتدُّ جمعاً). يؤشر هذا الحقل مع حقل الطبيعة إلى غلبة صيغة الحياة على صيغة الموت في المشهد الذي قرأه محمد علي شمس الدين .

 

  • حياديّة النظامين الصّرفيّ والنّحويّ:

من يراقب حضور إسم المفعول في النص يجد أنه قد خرج على النظام اللغوي الذي يحدّد وظيفته بوقوع فعل ٍ على الموصوف به، إلى إشارات أخرى، لأنّ الراحل حين يُحمل عند محمد علي شمس الدين، لا يحمل على الاكتاف، (ومحمولاً  على كتف النجوم). فلا يشير إسم المفعول (محمولاً) إلى مفعولية تنقل الراحل إلى مثواه الأخير، بقدر ما يكشف عن طبيعة المحمول (الراحل) وما يشكله بالنسبة إلى الشاعر من قيمة معنوية وفكريّة وثقافيّة تستحق أن تحمل هذه القيمة على “كتف النّجوم”،بعيدا عن مراسم التشييع التقليديّة، التي تتسم بالصرامة،فف حين أن روح الشاعر تطوف بعيدا في عالم خاص بها .

يتخذ إسم الفاعل وظيفة الفاعلية حين يتغلب على ظالمه وقاتله،”فلم يقتل من المقتول/ إلاّ قاتلوه”، استبدل الشاعر وظيفة المفعولية بالفاعلية ليقدّم علامة سيميائية تنسجم مع الاردة الصلبة التي تحلى بها الراحل في مقاومة كل أشكال الظلم .

ومما يجدر ذكره ان افعال النصّ تتوزع على الماضي (خمس وثلاثين مرة)، والمضارع (ثلاث وثلاثون مرة)، فاعل للأفعال المضارعة هو الراحل (يمشي، يلمّ، يولد، يموت، يضحك، يبكي، يخبط..) وهذا التركيز الواضح على الزمن الحاضر المتصل بالراحل يدفعنا إلى البحث عن مغزى هذا الحضور، إذ يشكل علامة تشير إلى صوت الراحل الحاضر، إذ يتحوّل هذا الصوت إلى مشروع وجودي لا يخصُّ الشاعر وحده، بقدر ما يخصّ الأمّة . بينما تشكل للأفعال الماضية عصب السّرد الذي يتكفّل بنقل صورة الذين أساءوا إلى الراحل في حياته ومماته (حضروا، افرغوا، ناموا، بكوا، هاموا، قاموا)، لا تشير هذه الأفعال إلى القيام بواجب الرحيل من قبل السلطة التي عاندها الراحل/ الشاعر، بقدر ما تشير إلى فضح سلوك السلطة في تكريم شاعرٍ نذر حياته للقضية الفلسطينية، ورغب في أن يدفن في (البروة) مسقط رأسه، في حين أصرت السلطة السياسية  دفنه في رام الله([3]) .

يحضر الحال في النصّ (أسىً، مجلواً، محمولاً، وهماً، جمعاً) راسماً المراحل التي رافقت الراحل في لحظات رحيله الأخيرة .

وإذا توقفنا عند الضمائر التي تخدم البيئة الدلالية الكبرى للنص، نجد ثلاثة ضمائر تمسك بالنص وتشكل نسيجه، ضمائر عائدة إلى الراحل، وضمائر عائدة للأخر، وضمائر  عائدة إلى الشاعر. وهذا الفرز يقدم الراحل محمود درويش والشاعر محمد علي شمس الدين متماهيان في الموقف والرؤية (وددتُ لو رافقته) من جهة، ويقدم الأخر (السلطة) بوصفها وجهاً للظلم والإستبداد (قلم يقتل من المقتول إلا/ قاتلوه) من جهة أخرى .

 

  • المجاز والخروج على النّظام اللغويّ:

 

لجأ النصّ إلى الإستعارة بشكل أساسي في أثناء عمله للخروج على سلطة اللغة. تشكل الاستعارة رحلة (قمر الجليل) “على حدود صيف غامض ٍ يمشي” . وفاق ما يختاره قلم الشاعر، إنّ  إضافة (حدود) إلى (صيفٍ)، هي إضافةٌ تؤذن بزمن الرحلة، ولا تتوضح هوية الاستعارة ودلالتها إلاّ بالكشف عن اللبس في كلمة (غامضٍ) التي أخرجت الصّيف عن مرجعيّته، فما معنى أن يكون الصّيف غامضا ً؟ لا نستغرب ذلك عندما نعرف أنّ الشاعر قصد  الخسارة التي لحقت بالساحة الثقافيّة العربيّة صيف 2008. بفقد الشاعر محمود درويش (قمر الجليل) .

وتبقى الاستعارة الأداة الفضلى في أثناء محاولة الشاعر رسم صورة الراحل (قمر الجليل يعود… محمولاً على كتف النجوم ِ)، تحيلك الاستعارة عودة (قمر الجليل) إلى التراب التي عشقها، والأرض التي أحبّها، على النجوم (على كتف النّجوم)،يلجأ الشاعر إلى الدهشة إذ يضيف كلمة (كتف) إلى (النجوم)، وهي إضافة غير متوقعة تحمل علامة دالة الى وهج الجنازة من جهة، وعلى كاريزما الشعراء الكبار في أثناء رحيلهم.

ورد في النصّ مجموعة من التشابيه . التشبيه شكل من أشكال الخروج على سلطة النظام اللغويّ. فقمر الجليل في القسم الثالث من النصّ لم يعد كأي قمرٍ آخر يرتبط بمرجعيّة صارمة تحدّده “قمرٌ  حطامٌ” إذ أصبح  تجلّياً من تجليّات الانكسار  واليأس، اللذين لحقا بالراحل.

وإذا كان هذا التشبيه قد حوّل  الراحل حطاماً، فإن التشبيه “كالولد اليتيم” في القسم الرابع من النصّ قد قدّمه يتيما ً يخبط في ظلام الليل، وهذا  لا يشير إلى يتم الأب والأم، بل يقدم التشبيه يتما ً عاشه (الراحل/ الشاعر) مع الإنسان العربي، في ظلّ سلطة تتعاطى مع أبنائها وفاق شهواتها ومصالحها.

لكن محنة اليتم مع السلطة لا تمنع محمد علي شمس الدين  من أن يقدّم الراحل بوساطة التشبيه ” أبصرته والثلج قبعة الجبال” علامة خير ٍ ستولد مجدّدا ً في حياتنا، تبدو ملامحها ظاهرة على قمم الجبال، ومياهها تصل إلى “حدود صيفٍ” يتطلع إليه الشاعر .

  • الرموز والشّيفرات الثقافيّة :

تتوزع رموز النصّ بين تغليب إرادة الراحل على الغياب، ومقاومة الظلم والأذى الذي لحقه به، بين حكاية الغياب/ الموت والحضور/الحياة. كانت تقام إحتفالية الرحيل الأخير بوساطة رموز بثها محمد علي شمس الدين في نصّه ليضخ في شراينه مناخات شعريّة حافلة بالفرادة والحلم .

يحضر رمز الهدهد، بوصفه رمزاً دينياً بوساطة كلمة (الدليل) التي تعدّ هوية من هويات الراحل بوصفه مرشداً وناصحاً وهادياً لجماعته، عنيت الشعب الفلسطيني، “وتتبعه الحقول وطيوره البيضاء ما عادت من السّفر الطويل

لعلّها ضاعت وغادرها الدليل”.

لم يعد يرى الشاعر محمد علي شمس الدين محمود درويش صوتاً شعريّاً أو صدىً للشعب الفلسطينيّ، بل أصبح هدهداً قادراً على امتلاك قيادة الجماعة والوصول بها إلى برّ الأمان، خصوصاً، بعد أن أصبحت هذه الجماعة تفتقر إلى الدليل الذي يمثل القيادة الراشدة. حين أبصر الشّاعر الثّلج يتلألأ في أعلي الجبال، عرف أن “تموز عاد”، عاد بالخصب والنضارة إلى الحقول التي رافقت الراحل في رحلته، هذا يترك علامة دالة على أن الموت سيكون سبيلاً نحو حياة جديدة باتجاه ربيع الخصب والحياة، باتجاه انتفاضة تقضي على السّكون وتنشر غداً قوامه  ذات تكون كما تريد أن تكون.

إلى جانب (الهدهد/الدليل وتموز/ الإنبعاث)  تحضر رموز (الشّمس/ الثلج) بوصفها امتداداً لإشراق حياة جديدة، وموعد حصاد آخر، ويبرز رمز (الخيام/ اللاجئون الفلسطينيون) الذين يسيرون خلف الشّاعر الراحل، وكأنّهم فقدوا صوتهم وخسروا نصرهم في معركتهم مع المحتل الصهيونيّ .

 

وتحضر شجرة الزيتون، بوصفها رمزا دينيّا ووطنيا “لو يعرف الزيتون غارسه لسال الزيت دمعا”، للشعب الفلسطينيّ،فشجرة الزّيتون ابنة تلك الارض المباركة فلسطين، تعاني ما يعانيه ابناءها من ظلم وتدميروأسر و اغتيال من قبل المحتل الصهيونيّ، الذي أعماه الحقد.

انّ النظام السّيمائيّ برموزه قد أدّى دورا بنائيّا مشتركا مع ايقاعيّة المشهد الجنائزيّ، القائم على الرحيل و الاياب، انطلاقا من فكرة الموت و الحياة.

 

  • النصّ والعالم والشّاعر والأيديولوجيّا:

يحيلنا النصّ الذي بين أيدينا إلى رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش في صيف  العام 2008، وهو رحيل تخيله الشاعر كما يريد لا كما تمثل له  في الواقع، لقد تخيل حدس الشاعر، ورهافة حسّه الشعريّ إحتفالية جنائزيّة، لا تمثل رؤيته بقدر ما تمثل رؤية محمود درويش ذاته.

يقدم في هذه الاحتفاليّة، محمود درويش شاعر قضية “من أين يا عمّ الطريق إلى القصيدة؟”، هل قصد الطريق إلى القصيدة أم الطريق إلى فلسطين؟ إنّه الطريق إلى حيفا “فأنا أريد  طريق حيفا”، كما قدّمه الشاعر صوت الجماعة وهاديها “قمرُ الجليل يلمُّ طيوره البيضاء” .

كلا الشاعرين، الراحل /محمود درويش  والقاص/محمد علي شمس الدين يحملان ايديولوجيّة  التحدي والمقاومة لأشكال الظلم والإستبداد “ووددتُ لو رافقتُه يوماً على جغرافيا البركان/  في النبأ العظم” .

لم يحضر الشّاعر محمد علي شمس الدين كثيرا ً في النصّ، لأنّ السرديّة شكلت فضاءه الواسع، وهذا ما أفسح في المجال لحضور بارز لـ(لشاعر/ الراحل)، إذ كان الشاعر حريصا ً على تركيز المشهد الشعريّ على موضوع الرحيل بوصفه رؤية تجمع الشاعرين الغائب والحاضر. قصيدة “الحصان ما زال وحيدا ً” تكشف نفسها ومعناها وتسلطها بما تقدّم من علامات سيميائية تعيد تكوين اللغة وإنتاجها من جديد وفاق رؤية الشاعر والعالم من حوله .

إنّ الوجع العربي تسرب من الاحتفاليّة الجنائزيّة للشاعر/محمود درويش، قد أنتج الإنفعال الذي صيغ رؤية الشاعر، فتبدّى في النصّ قارئا ً مختلفا ً لرحيل محمود درويش مسكوناً برؤية مثقلة بهموم القضية الفلسطينية من جهة، والقضايا العربية التي تمسك بعالمنا العربي  من جهة أخرى.

 

الخاتمة:

لم تمرّ لحظة رحيل الشاعر محمود درويش عند الشاعر محمد علي شمس الدين بشكل عابر، خصوصا، أنّها تشكل علامة شديدة الدّلالة لفلسطين التي عاش الشاعر في أحضانها وقاوم جلاديها بالكلمة المقاومة.

لحظة الرحيل وظفها في تقديم المشهد العربي المقلق،وهذه اللّحظة عبّر عنها العنوان” الحصان ما زال وحيدا”،اذ يعدّ هذا الاختيارقلقا مشتركا بين الشاعرين، نابعا من همّ مشترك يتصل بتلك المسافة الفاصلة بين وجودنا المفكك النازف ووجودنا المرجوفي بناء امة قادرة قوية.

حين ندخل مناخ القصيدة، نجد بناء ايقاعيّا يتحرك وفاق المشهد الجنائزيّ الذي أراده محمد علي شمس الدين، ليقدم من خلاله رؤيته للعالمين، المرجعيّ و الفنيّ للقصيدة معا.

الشاعر في هذه القصيدة، كما قي قصائد اخرى مسكونٌ بالايقاع لا يسافر في القصيدة الا على انغام ايقاعيّة تستجيب لرؤيته، وتقدم العالم من حوله. فالشعر عنده كما قال بول فاليري:”الشّعر سفرٌ بي الصوت والمعنى”.

 

[1]– علي زيتون، النص الشعري المقاوم في لبنان، بيروت، اتحاد الكتاب اللبنانيين،ط1،2001،ص170.

[2]– كمال، أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، بيروت، دار العلم للملايين، ط2،تشرين1، 1988.

[3]– صبري، حافظ، من المحو إلى الوجود في قلب العالم، بيروت، مجلة الأداب، العدد 56، تشرين 1 2008،ص59.

شاهد أيضاً

ندوة “عاشوراء نبضة الألم ونهضة الأمل” في معهد المعارف الحكمية

شارك الملتقى الثقافي الجامعي في ندوة أقامها عصر يوم الإثنين في 11 أيلول 2023 معهد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *