د. لميس حيدر*
مجلة المنافذ الثقافية، بيروت، دار العودة، العددان الثالث والرابع، 2013.
بناء المكان الروائي، آلية السرد
مدخل:
تشمل كلمة الفضاء المكان، ولا سيما المكان الروائي؛ غير أنّ كلمة مكان لا تشمل الفضاء، لأنّها هي جزء من طبيعته. أقصد إنّ الفضاء يتسع ليشمل المكان، وما فيه من أحداث تحصل في زمن محدد، و تقوم بها شخصيات تشغل الحيز السردي(1). وقد يتراجع حضور المكان في الرواية لمصلحة السرد، الذي لن تكون حركة أشخاصه، أو أفكارهم جارية بمعزل عن الزمان، أو المكان. تقول د.أمينة رشيد: “هناك زمكانية أساسية لكلّ رواية، أي فضاء زماني، مكاني…(2)”.
ولا شك أنّ الأحداث الموجودة في النص الروائي في زمان ومكان محددين، تحمل دلالة معينة(3)، كما أنّها تعبر عن رؤية الكاتب أو منظوره الخاص(4).
نفهم مما ورد انّ حضور المكان ليس مجانيا في النص السردي، لأنّه يجسد معاني مختلفة، يمكن أن نستنتج قيمتها، أو دورها من خلال مضمون الرواية بشكل عام.
وحتى نبين كيفية حضور المكان في رواية “معذبتي”، وندرك إن كان حضوره باهتا أو هادفا، أو حتى نعي إن كان لوجوده أهمية توضّح التأثير المتبادل بين الشخصيات وأمكنتها، سنعمد إلى دراسته.
فالأمكنة بما فيها تعبر عن تفكير الشخصية، ووضعها الاجتماعي والنفسي(5). يقول بوتور: “إنّ للأشياء تاريخا مرتبطا بتاريخ الأشخاص(6)”. فالأشياء القليلة الموصوفة “تتخذ أهمية كبرى، وتمتلىء بشعور هذا أو ذاك كأنّما تشحن بالكهرباء(7)”.
1_ H.Mitterand, Discours du Roman, Paris,Ed,P.U.F,1980,P195.
2_ د. أمينة رشيد، تشظي الزمن في الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص13.
3_1_Gerard Genette ,FiguresIII ,Paris, Seuil,1976,p46-47.
4_J.Kristeva, Le Texte du roman, Approche Sémiotique du structure discursive tranformationnelle, Mouton. 1970, P100.
5_ ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، منشورات عويدات، بيروت، ط1، 1971، ص17.
6_ م.ن ، ص54.
7_ م.ن ، ص53.
ولندرك طبيعة بناء المكان الروائي في الرواية التي نحن بصدد دراستها، سنلجأ إلى معالجة ما يأتي:
- المكان المتخيل والمكان الواقعي:
لا يتواءم المتخيّل مع الواقعي، إنّما يفارقه ويخالفه، وسنميّز المكان المتخيّل عن المكان الواقعي، وذلك تحت العنوانين الآتيين:
1_ المكان المتخيّل:
يعني المتخيّل أنّ الخيال يؤسسه، لأنّه يقصي الواقع ويلغيه، لأنّه يعتمد ما يمليه الفكر المستمد معلوماته من أوهام يبنيها هوبمعزل عن أي منطلقات خارجية فعلية. “مجال الكتابة هو ذلكالتوهّم الذي، على رغم هوائيته، يتشبث بنا ليجعل من المكان بعد تغيّره واحدة من الصور المشعّة التي تصنع هويتنا. هويتنا الداخلية أقصد… الكتابة هي أن نستعيد الأمكنة متوهمة. لا أقصد هندستها وتشكلاتها فحسب، بل أيضا البشر الذين يسكنونها، أولئك الذين لم يحدث لنا أن شاهدناهم أبداً(1)”. إذا، قد ترد أمكنة في النص يبنيها الخيال المستفيد من الواقع، لكن من دون تصويرها بوقائعها الحقيقية، أو نقلها كما هي. يقول يقطين في هذا المجال : “قد نجد في هذه الفضاءات بعض مقومات الفضاءات المرجعية، أو قام الراوي بتشكيلها بناء على مرجعية محددة، لكن طريقة توظيف الأسماء والصفات على طول النص لا يمكن إلا أن يبين لنا كون الراوي يقصد استعمالا مخالفا للفضاءات المرجعية(2)”. كما أنّ الفضاءات التخيلية هي “التي يصعب الذهاب إلى تأكيد مرجعية محدّدة لها سواء من حيث اسمها الذي تتميّز به، أو صفتها التي تنعت بها(3)”.
2_ المكان الواقعي:
أمّا المكان الواقعي، فهو الموجود فعلا على خريطة الجغرافيا، أو الذي يحمل مواصفات مرجعية خارجية من دون اقتحام الخيال في تقديم ميزاته وأسمائه في أثناء السرد.
1_ حسن داوود، أماكن حميمة من صنع الأوهام، المستقبل، نوافذ، ع4125 ، الأحد 25 أيلول 2011.
يقول:”كأن التذكّر لا يرضى بما حفظه فلا ينفك عن سعيه لتبديله. لن تظل الأمكنة على حالها بعد أن تصير صورا في الرأس. الذاكرة فيما هي “تنمو”، بحسب ما رأى درويش في إحدى قصائده، تروح تعمل على تشكيل ما انحفظ فيها. وفي حسباني أنّ الكتابة قائمة على الانتباه لذلك الفارق القائم بين ما كان موجودا حقيقة وما صار إليه بعد تغييره”.
2_ سعيد يقطين، قال الراوي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1997، ص247.
3_م.ن ، ص246.
هذا وقد يكون المكان الوارد في السرد موهما بواقعيته، لكن إن تمت العودة إلى الواقع للتأكد من صحة وجوده، تبدى أنّ ما ورد في النص ليس إلا مكانا متخيّلا، غير أنّ السارد استطاع أن يوهم قارئه بسلامة وجوده وحقيقته(1).
ب – المكان المسرحي:
هو مكان تعيش الشخصيات فيه، غير أنّ حضورها يطغى على صفاته. يعني أنّ المكان يبدو باهتا قياسا إلى فاعلية الأحداث القائمة على أراضيه، حيث يحيا البشر، ويتعاملون مع بعضهم سواء بشكل إيجابي أو سلبي(2).
ج -التقاطب، والتراتبية، والحدود واجتيازها، والقواقع:
1- التقاطب:
يبرز التعارض من خلال طرفين متناقضين لا يعرفان التماثل أو التشابه، ومن خلال هذا التقاطب يمكن: “معرفة طبيعة الصراعات بين القوى التي تتحكم بالمكان، فهذه التقاطبات تكشف عن طبيعة الفرز الطبقي الاجتماعي(3)”. كما يمكن من خلال التقاطب أن نستشف سوء علاقة الفرد بالمكان أو إيجابيتها، أو من خلال عناصر أخرى أسست لهذا الفارق كالتعارض القائم بين الضيق والاتساع، والخارج والداخل، والمضيء والمعتم، والمفتوح والمغلق، والانتماء والانسلاخ…(4). هذا وقد يكون المكان محبوبا، ويبيت مكروها، أو بالعكس، وذلك تنشئه أحوال المرء النفسية الخاضعة لتبدل العلاقة بالمكان ف “قد تتحول نظرة الإنسان للمكان الواحد
1_ سيزا قاسم ، بناء الرواية، بيروت، دار التنوير ، ط1، 1985، ص113.
2_ سعيد يقطين، قال الراوي، ص242.
وباختين، قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي، ترجمة د. جميل نصيف التكريتي، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، سلسلة المائة كتاب، ص41.
وشجاع مسلم العاني، البناء الفني في الرواية العربية في العراق،بغداد، وزارة الثقافة والإعلام، ط1، 2000، ص35.
3_ خالد حسين حسين، شعرية المكان في الرواية الجديدة، الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، 1421ه، ص143.
4_ حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990،ص33. وخالد حسين حسين، م.س، ص89 و112 و142. وغاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 4، 1994، ص144 و170 و191 207.
من الند إلى الضد في ظل ظروف معينة(1)”.
2- التراتبية:
تجلي التراتبية تفاوت الأمكنة من حيث تقسيمها أو توزيعها إلى فئات مختلفة. فهي عبارة عن “عدة طبقات أو فئات مكانية وفق مبدأ تراتبي معقد ومشكوك في مراميه(2)”.
3- الحدود واجتيازها:
تعني الحد الفاصل القائم بين مكانين مختلفين، لذلك يجد المرء نفسه موجودا في موضع، يستحيل عليه اجتيازه. ومحاولة الانتقال قد تعرّض المرء لأمر ما قد يتوقعه، أو قد لا يفكّر فيه البتة(3).
4- القوقعة:
يختار الإنسان العزلة خوفا من الناس، الذين يرى أنّهم قد يشكّلون خطرا على هدوئه، أو قد يحوّلون عيشه من الرتابة إلى الضجيج، أي قد يصعّبون عليه طريقة حياته أو يعقّدونها. تخلق الخشية من الآخر في ذات المتقوقع رغبة في الانفراد. ويمكن تقسيم القوقعة إلى قسمين، هما: مجردة، ومحسوسة.
4″.1-القوقعة المجرّدة ، والتي ترى أنّ الانطواء على الذات هو السبيل المخلّص والرادع لأي طارىء قد يسيء. فقد يفكّر المرء أنّ شخصا ما، و “عائلته وقبيلته وجنسه وموطنه والإنسانية(4)” هي سبيل الأمان.
1- الظروف النفسية والاجتماعية والاقتصادية تغير نظرة الإنسان…
ابراهيم الفيومي، المكان ودلالاته، حمص، مجلة جامعة البعث، 1997، مج 19، عدد1، ص119.
2_ حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص41.
3- سعيد يقطين، قال الراوي، ص243.
ويقول خالد حسين حسين، وقد ” وضعه السيميائي الروسي يوري لوتمان والحد هو “الخط الأحمر” الذي يفصل بين مكان وآخر، وهو يشكّل الإنذار الذي يحذر به مخترق المكان أو في نيته فعل الاختراق”.
خالد حسين حسين، شعرية المكان في الرواية الجديدة، ص145.
4_ سيزا قاسم ، بناء الرواية ، ص167.
4″.2- القوقعة المحسوسة: يختار فيها الفرد العزلة في مكان محدد دون سواه، فهو قد يختار غرفة، أو بيتا، أو بلدا… ليقي نفسه السوء، وهكذا يقيم سدا منيعا يحول بينه وبين الآخر.
د – علاقة المكان بالزمان بالرؤية بالشخصية:
إنّ معرفة ثقافة الأديب في نصّه، والتي من شأنها أن تفصح عن رؤيته تستلزم دراسة الأمكنة التي ارتادها، أو عاش فيها، إضافة إلى الزمان الذي عاصره. إذاً، لا يمكن أن ينشأ فهم أو رؤية لدى شخص بمعزل عن الأمكنة، والأزمنة التي طوته. سنحاول بداية وعي علاقة المكان بالزمان.
1– علاقة المكان بالزمان:
لا يمكن أن يتواجد مكان من دون زمان، و(Chronotope) يعني وجود الزمان والمكان(1). يقول باختين: “ما يحدث في الزمكان الفني الأدبي هو انصهار علاقات المكان والزمان في كل واحد مدرك ومشخص. الزمان هنا يتكثف، يتراص، يصبح شيئا فنيا مرئيا، والمكان يدرك ويقاس بالزمان. وهذا التقاطع بين الأنساق وهذا الامتزاج بين العلاقات هما اللذان يميزان الزمكان الفني(2)”.
أمّا علاقة المكان بالزمان، فيمكن أن تتضّح من خلال نقطتين، هما:
1″- المكان حضن للزمان: عندما تنتهي الأحداث الحاصلة في زمن مضى، تبيت في حضن مكانها.
2″- الزمان حضن للمكان: يعني هذا أن الأمكنة ما زالت غير موجودة على أرض الواقع. أمّا تحققها، فهو رهن الزمن القادم، وهكذا يصبح الزمن المستقبل حضن للمكان.
1_ “وهذا المصطلح يسنخدم في العلوم الرياضية وقد أُدرج فيها وبرر استخدامه على أساس نظرية النسبية (أينشتين)”. وقد استعار باختين هذا المصطلح في علم الأدب، ونقله إليه، ليعبر عن الترابط الوثيق القائم بين المكان والزمان.
ميخائيل باختين، أشكال الزمان والمكان في الرواية، ترجمة يوسف حلاّق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1990، ص5و6.
2_ م.ن ، ص. ن.
2- علاقة المكان بالرؤية:
بالنسبة لعلاقة المكان بالرؤية، سنستمدها من نظرة الشخصية إلى المكان، التي قد تكون ناتجة عن مشاعرها وثقافتها “فالإنسان وهو ينظر إلى الأمكنة لا يمنع نفسه من إضفاء فكره ومزاجه وعواطفه عليها، وكلّ شيء في الرواية يؤكّد ذلك(1)”. ويقول باشلار في هذا الصدد “المكان بالنسبة لي كان يحمل خصوصية قومية، كما يعبر عن رؤى(2)”.ويرى بحراوي أنّ الرؤية: “هي التي ستقودنا نحو معرفة المكان وتملّكه من حيث هو صورة تنعكس في ذهن الراوي ويدركها وعيه قبل أن يعرضها علينا في خطابه(3)”.
ويمكن تقسيم رؤية الشخصية للمكان إلى ثلاثة أقسام، ألا وهي:
- ذاتية: ترى الشخصية فيها أشياء العالم انطلاقا من المشاعر.
- موضوعية: تنظر إلى الأمكنة بموضوعية وتجرد تامين، لذلك يأتي تقديم الأشياء بطريقة هندسية(4).
- تركيبية: وهي تجمع الرؤيتين الموضوعية والذاتية. يقول بحراوي: “في الرواية لا نواجه فضاء خاما بمعنى الكلمة وإنّما أجزاء وعناصر منظور إليها بطريقة خاصة، فالرؤية هي التي ستمدنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التي تحملها الشخصية عن المكان وتحيطنا علما بالكيفية التي تدرك بها أبعاده وصفاته. ولهذا فإنّ عدم إيلاء الأهمية لرؤية الإنسان لبيته، أو فضائه المعاش والاكتفاء بالوصف الموضوعي سيتسبب بتجاهله الحضور الإنساني الضروري، في التشويش على بناء المكان وهيئته التي سيتشكّل فيها(5)”.
1_ حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص53.
2_ غاستون باشلار، جماليات المكان، مقدّمة المترجم، ص6.
3_ حسن بحراوي، م.س، ص101.
4_ كانت تعني الموضوعية ” المنطق، الطبيعة، الذوق”.
رولان بارت، النقد البنيوي للحكاية، ترجمة أنطوان أبو زيد، بيروت، منشورات عويدات، ط1، 1988، ص30.
5_ حسن بحراوي، م.س، ص42.
3- علاقة المكان بالشخصية:
يمنح المكان الشخصية قيمة، تماما كما تعطي الشخصية المكان، فالتأثير متبادل وقائم بينهما. إنّ الأحداث التي يؤديها الأفراد والتي تنشأ في مكان محدد، هي نتيجة تفكير الفرد، وتكوينه الخُلُقي والخَلقي. ثمّ إنّ الإنسان “هو الذي يمنح المكان قيمته وربما وجوده(1)”. هذا وقد نعرف ثقافة المرء، وحالاته النفسية، أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وكيفية تعاطيه مع محيطه من خلال مسكنه الواحد أو المتعدّد. ف”الفضاء ليس فقط ذلك المحيط الطبيعي الذي تألفه الشخصية، ولكنه أيضا المحيط الحيوي الذي تتحقق فيه كل مطالبها ورغباتها، وهي تتفاعل مع شخصيات أخرى. هذا الترابط الوثيق بين الشخصيات وفضاءاتها يجعل كل شخصية لها بنيتها الفضائية الخاصة(2)”. ثمّ إنّ “المكان… يتغلغل عميقا في الكائن الإنساني… ودون معرفة بأسرار المكان وفلسفته التي تتشكّل بفعل الكينونة والثقافة يصعب التواصل، بل يقع المرء في كثير من الفجوات والانقطاعات الدلالية والإدراكية نتيجة الجهل بفلسفة المكان وتنظيمه لدى الآخرين(3)”.
- المكان المتخيّل والمكان الواقعي:يناقض المكان المتخيّل المكان الواقعي، وسندرك كيفية بروز كل منهما في النص من خلال ما يأتي:
- المكان المتخيّل :
يبدو أنّ المكان الأساسي في الرواية هو السجن المتخيّل، فالراوي لم يذكر مكان وجوده، أو الاسم الذي يطلق عليه. واللافت أنّه لم يصرّح عن أسماء المسؤولين عنه، إنّما أتى على ذكرهم بشكل موارب، أو يمكننا القول إنّ التصريح عنهم قد برز مضطربا مبتعداً عن الحقائق الثابتة. ويدعم قول بوتور ما أوردناه. يقول: ” ونحن مجبرون في كلّ لحظة على إدخال تمييز في القصة بين الواقع والخيال، على أنّ الحدود بينهما متقلقلة، عادمة الاستقرار تتراجع باستمرار … والطريقة الوحيدة لقول الحقيقة، والسعي وراءها، هي أن نقابل بلا كلل، وقياسيا، ما نرويه عادة بما نراه ونسمعه(4)”. ولو عدنا إلى النص ، لوجدنا أنّ السجن يبدو وكأنّه وُصِف من خلال
1-صلاح صالح، قضايا المكان الروائي، القاهرة، دار شرقيات للطباعة والنشر، ط1، 1997،ص135.
2_ سعيد يقطين، قال الراوي، ص242 و243.
3_ خالد حسين حسين، شعرية المكان في الرواية الجديدة، ص60.
4_ ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، بيروت، منشورات عويدات، ط3، 1986، ص17.
مخيلة تركّب الأحداث. هي أحداث، وإن تشابكت في كثير من الأوقات مع ما يدور في أمكنة مرجعية، غير أنّها لا تمثلها بشكل كلّي أو فعلي. وهذا ما يثبته قول سعيد يقطين بأنّ الفضاءات التخييلية “نجدها أقرب، من جهة محددة، إلى الفضاءات المرجعية، وتتصف ببعض صفاتها، لكنّها غير قابلة لأن تحدد مرجعيا. وحين يلجأ الراوي إلى اختلاقها، فإنّ ذلك، عادة ما يكون، استجابة لضرورة حكائية معينة، فيختلق الفضاء لتجري فيه أحداث موازية، لأحداث أو أفعال أساسية تجري في فضاء مرجعي محدد(1)”. ويبدو أنّ ارتهان المكان لرؤية الراوي الخاصة يثبت أنّ النص ليس خاضعا لما هو واقعي .
وما يمكننا قوله أنّ الراوي استطاع إيهامنا بواقعية أحداثه، وإن كان الخيال قد تمرّس في تقديمها. فالأمكنة المتخيّلة جعلتنا نعاني من ظلم السجن، بما فيه من عتمة ووسخ… .وقد أتاح لنا هذا المكان المتخيّل فهم الأنظمة الاستبدادية المسيطرة على عالمنا العربي، والتي تحاول فرط مفكريه، وتبديد قدراتهم، وإجحاف حقوقهم، وإلباسهم ثوب المذلة والمسكنة، عوضا عن ثوب النور والرفعة. وكثيرة هي السجون التي سعت إلى تقليص كلّ قدرة معرفية تنويرية مشرقية.
- المكان الواقعي:
نقرأ أسماء أمكنة واقعية في نص “معذبتي” ، ويبدو أنّ مواصفاتها تتطابق مع مرجعيتها. يتحدّث عن سهل أنكاد الهادىء، وطبيعته الصامتة. يقول: “هنا في سهل أنكاد قريبا من وجدة،… البلدة فلاحية رعوية، نقية الهواء، طاهرة الماء”. ويتابع “أصوات الطيور والدواجن والدواب وريح شمالية من مرتفعات بني سناسن، فتتضافر في هذا الفصل الربيعي على إلهائي…(2)”. يقدّم الأشياء بواقعيتها، ليوهم قارئه بحقيقة سرده، وهذا يؤدي إلى نمو الأحداث. يقول عن الريف أيضاً: “ذاك الطير المسكين، الآيل إلى السقوط جوعا وعطشا… شعور بالبؤس والعجز ملحاح، برز عندي منذ أربع سنوات بعيد سقوط أبي ميتا على المحراث في حقل مشغله… شعور تفاقم واحتد حين تزوج أمي هذا الفلاح وأسكنها في بيته الحقير ببقعته المشؤومة… وأنا صاحب العين البصيرة واليد القصيرة، أشهد أن الكلمات عندي تعجز عن وصف إحساسي بالغمة والضيم، في أرض كلّما حلّ فصل البذر والفلح
1-سعيد يقطين، قال الراوي، ص246.
2_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص279.
أمست إذن في موعد مع الجفاف والجدب أو المطر الرذاذ وشح الغيث(1)”. ويقول في موضع آخر عن شح الأمطار: “السنة السادسة قبل انصرام القرن العشرين، والفصل فصل البذر والفلح في انتظار الغيث، لكن مؤشرات الطقس وتوقعات الأحوال الجوية(2)”، تتحدّث عن صعوبة الوضع. كأنّ غياب رغبة انضمام حمودة إلى المكان شاهد على واقعيته. هي أمكنة تُحدِثُ في ذات حمودة وعورة فراغ، واستحالة استرخاء ناتج عن تهديد طبيعي، وبشري. هي أمكنة مفزعة تبدّد شوق حمودة لها، أو لهفته لتفاصيل عيشها.
نلحظ أنّ تفاصيل الأحداث والأمكنة لا يتم نقلها أحيانا بشكل دقيق(3)، كما حصل عندما تحدّث عن إسرائيل، ولبنان، وفلسطين، وأفغانستان، والعراق(4)… غير أنّه يسعى من خلالها إلى إنضاج العمل الروائي، ليمتاز النص بالموضوعية. كأنّ الأمكنة الواقعية هنا تخلع ثوبها وتلبسه للشخصية، فتتلون بألوانه العذبة أو المؤلمة.
أسطر أو صفحات أمكنة الريف والمدينة قليلة، لكنّها تجلي النقيض القائم بين مكانين، هما: السجن المتخيّل، وخارجه الذي يتجلى واقعيا غالبا. وتساهم الأمكنة الواقعية في إخصاب خيال المتلقي، الذي سيقتنع بصحة أحداث الرواية.
- المكان المسرحي:
يركز الوصف المسرحي في الرواية على نقل أحداث السجن التي تدور في أمكنته المختلفة، وذلك حسب دور الشخصيات المنوط بهم. أما بالنسبة للأمكنة المسرحية خارج السجن، فيقل حضورها قياسا إلى أمكنة المعتقل. وعندما يقدم المكان قد يمر عليه مرورا سريعا، لذلك يأتي حضوره شاحبا، ومقتضبا، وموجزا. يقول عن المدينة:
1_ بنسالم حميش، معذبتي، ص57.
2_ م.ن ، ص54 و55.
3_ يقال لحمودة: “أمك يرحمها الله ماتت في فيضانات أحدثتها أمطار طوفانية مفاجئة، وتسببت في انجرافات التربة وانهيار منازل عديدة. مرقدها بواد زم يوجد في قبر جماعي لمن ابتلعتهم الأرض وحالت تلال أوحالها وردومها دون الكشف عنهم”.
م.ن ، ص57.
مثل هذا المكان الواقعي نجده في رواية “العلامة” في أثناء حديثه عن القاهرة: “هي القاهرة يا أم البنين إن أدرت وجهي صوب شمال النيل الشرقي، هي قاهرة المعز على أرضها السبخة، بمآذنها التواقة إلى جامع الأزهر ومشهد الحسين، بحدائقها وأحيائها وحاراتها، بأبوابها التسعة المفتوحة على قنال الخليج وبحر النيل، بمبانيها العالية البيضاء خلف سور صلاح الدين”.
بنسالم حميش، العلامة، بيروت، دار الآداب، ط2، 2011، ص118.
4_ بنسالم حميش، معذبتي، ص124 و14.
“في الشوارع والأزقة ذات الحركة المتناقصة ليلا والأضواء المعطلة أو الشاحبة، كانت عيون هنا وهناك ترمق زيّي الغريب… أما في المخازن والمطاعم والمقاهي، فقد أخذ هندامي يثير أكثر فأكثر فضول الزبائن ولمزهم وهزءهم… مما حدا بي إلى إلغاء تلك الأمكنة من جدول جولاتي… لم يبق لي إلا جوامع المدينة التي بتّ أرتادها تناوباً قبيل صلاة العشاء، لعلي أصرف العيون عني أو أضعف اهتمامها بي(1)”.
ونستشف أحيانا من ضبابية المكان في أثناء السرد الحنين إلى ما يحصل على أرضها من أحداث. يقول حمودة: “قصدت البيت، حيث ألفيت أمّي على ضوء قنديل غازي تضع رأسها بين يديها(2)”. ويتحدّث حمودة عن مكان ولادته، ويقول عن بادية مدينة واد زم: “أرضها واطئة مفتوحة على المدى والآفاق… في جنبات القطعة الأرضية (دون الهكتار)التي كان يعمل أبي كخماس، ما زلت أراني بوجه تشي قسماته بحزن مقيم…(3)”. نلمس رحابة المكان من خلال انفتاحه على المدى والآفاق، وهذا ما يجعل الأرض متقاربة مع الأمكنة المؤلّهة بالنسبة لحمودة، غير أنّ نظرته الهادئة تلك سرعان ما تنعكس، لمجرد عرضه وجه والده المتعب.
وتقلّ الأمكنة التي يبطىء الراوي في تقديمها، ويبدو أنّ نقل تفاصيلها يأتي توثيقيا، يستخدمه الراوي ليعبر عن سماحة الأفق بعد الظلم الذي عانى منه. كما يرد تقديم الأمكنة منتظما مع السرد، ومرتبطا بالإحساس المتعلّق بها، وهذا ما يجعلها تبدو أمكنة مسرحية. يقول: “هنا في سهل أنكاد قريبا من وجدة، اخترت مثواي منذ رجوعي إلى وطني. البلدة…طاهرة الماء(4)”. إنّ قوله “طاهرة الماء” يدل إلى الصفاء، وما يهيئه هذا المكان من راحة لحمودة بعد عذاب مضن في السجن، لذلك يتابع قائلا: “أصوات الطيور والدواجن والدواب وريح شمالية من مرتفعات بني سناسن، فتتضافر في هذا الفصل الربيعي على إلهائي، ولو بين حين وحين، وعن سنواتي الجمرية وركام جراحي وآلامي(5)”.
أما المكان المسرحي المسيطر في الرواية، فهو السجن، الذي توصف أمكنته الضيقة المغلقة، سواء أكان عبارة عن زنزانة، أو ممر، أو مكتب تحقيق…
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص12.
2_ م.ن، ص59.
3_ م،ن ، ص54.
4_ م.ن ، ص279.
5_ م.ن ، ص.ن.
وهي جميعها أمكنة مظلمة، لذلك يصعب التواصل بين شخصياتها، ويكاد يستحيل التقارب فيما بينهم. يبرهن وصف الأمكنة المغلقة هذه، والعلاقات البشرية القائمة ضمنها، بما فيها من صراع أو ائتلاف طبيعة الاضطراب، والقلق، والخشية من الآخر في السجن أينما وُجد سواء في الزنزانة الواحدة، أم خارجها. يقول حمودة: “هأنذا إذن “مزنزن” منذ شهور عدة وأخرى، كما ذكرت، أتكيف ما استطعت… يوميا بعيد اليقظة، أمضي وقتا يطول أو يقصر، مغرغرا النظر في شقوق جدراني، … أتلهى أحيانا بقراءتها كرسوم ذات إيحاءات وأبعاد متناسلة(1)”.
وقد تجمع الزنزانة الواحدة شخصيتين قد تتعارضان، أو تتقاربان ، فندرك بذلك طبيعة التجاذبات النفسية التي يعاني منها السجين، لذلك يتعاطف أحدهما مع الآخر، ويهتم به، وهذا نلحظه في الرواية في أكثر من موقع(2).
نجد أنّ ما يراد قوله من شرح وتفصيل عن حقيقة التعايش، أو الصراع في الزنزانة أو الخارج في سهل أنكاد و واد زم وغيرها، والذي يسبق وصف الأمكنة أو يتلوها، أنّه يرد ليبرهن عذابات حمودة، وغيره من الشخصيات، كذلك راحتهم. كما يؤدي الوصف المكاني غير المفصول عن السرد إلى تطوّر الأحداث، فنعي بذلك واقع المساجين في غالبية السجون . يبدو أنّ الأمكنة المسرحية تنقل الخيبات اللاحقة بكلّ مواطن عربي يفكّر ويحلّل، علّه يعي ما يحيط به من علل وويلات.
ج- التقاطب، والتراتبية، والحدود واجتيازها، والقواقع: ويمكن أن تتضح طبيعة المكان في الرواية من خلال معاينة ما يأتي:
1-التقاطب:
أحسب أنّ التقاطب الرئيسي في النص قائم بين السجن والخارج، هذا إضافة إلى تقاطبات أخرى داخل السجن نفسه. ويمكن أن يتبدى التقاطب القائم بين السجن وخارجه من خلال قوله. يقول: “أراني أحفر بيدي خندق هروبي من سجني المدمّر. حيث أختفي زمناً عن الأنظار وأرحم جسمي ونفسي في ظل رعاية أمّي المحبة الرؤوم(3)”. يختار حمودة عطف أمّه عوضا عن ظلم السجن.
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص25.
2_ م،ن ، ص46.
3_ م.ن ، ص 112.
يتناقض حضن الأم الأبيض، مع زنزانة السجن السوداء، لذلك يلّح حمودة في أن يكون موطنه هناك، حيث أمّه ، وهذا شأن طبيعي لكلّ إنسان مأسور معدوم الحرية. لكن ، عندما يغادر حمودة مستنقع السجن الآسن، وتطأ قدماه أرض الحرية، سيشعر أنّه في معتقل همجي ، ينشئه لؤم الناس، وأسئلتهم الصعبة، ونظراتهم المتفحصة، وهذا سيؤسس لتقاطب جديد، قائم بين مسكن حمودة المعزول فيه، وخارجه مدينة وجدة، حيث يمكن أن يلمحه الناس. و يختار تلافي التواصل مع الناس. يقول: “رجعت إلى مكتبتي_ مسكني، التي عاثت الفئران والحشرات فيها فسادا طوال سنوات سجني، كيف لي أن أخرج إلى شوارع مدينة وجدة وساحاتها وأسواقها وجوامعها من دون أن ألقى الناس وأحادثهم، وأتنسم حريتي المستعادة في وصلهم وعشرتهم… اجتناب الخروج من مكمني في النهار الجهار…، ومنها مع هبوط الليل(1)”. يعيش حمودة القلق والانهيار خارج السجن، الذي لم يحمله إلى حريته التي يريدها. لم تفض أرض الحرية إلى نتائج إيجابية تُذكَر، أو ذات قيمة.
هل يبرهن التقاطب القائم خارج المعتقل طبيعة الأنظمة العربية الفاشلة التي لا تستطيع حماية مواطنيها، الذين عانوا الأمرين في المعتقلات المعادية لهم؟ هل هذا يعني أنّ الدول العربية تساهم بشكل مقصود، أو غير مقصود في تحقير الإنسان المظلوم، بدلا من تمجيده، وتكون بذلك تفسح مجالا لدعم الإرهاب؟ يبدو أنّ هذا النص أراد قول حقيقة، قد لا يعيها كثيرون لم يدركوا خيبة الظلم، ولم يعوا أيّ آلام واضطرابات تتركها الأنظمة الدكتاتورية في ذات كلّ مواطن تمّ التحكم بمصيره لأمد زمني قد طال، أو قصر. ها هو حمودة يخشى محيطه، تماما كما كان يخشى العدو في سجنه، لذلك يقرر مقاطعة الآخرين.
ونجد مثل هذا التقاطب في أثناء إقامة حمودة مع زوج أمه الجديد بعد وفاة أبيه. هذا الزوج الظالم يُقتَل، ويُتهَم حمودة بقتله، وهذا ما يدفعه للتوجه نحو بيت ابن خالته في وجدة، حيث يمكن أن يحقق الأمن والدعة. يقول: “أقبل الزوج الجديد على فصلي عن الدرس، أنا ابن السابعة عشرة، ودأب على إرهاقي بالعمل الشاق والنهر المهين، كما لو أنّي دابة مقودة في خدمة الحقل والبيت، لقاء لقمة العيش وافتراش …التبن… متهم أنا بقتل زوج أمّي(2)”.وعندما يبيت عند ابن خالته في وجدة يقول: “آمنني وخفف عني إذ أسكنني في مكتبته… أربع سنوات قضيتها في وجدة، حصلت أثناءها… على إجازة في الأدب، وأخرى في الدراسات
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص11 و12.
2_ م.ن ، ص57 و58.
ويقول: “أضفت فقرات في تبرئة ذمتي من موت زوج أمي وفي رحيلي الاضطراري ن واد زم إلى وجدة”.
الإسلامية(1)”.
ويمكن أن ينشأ التقاطب بين موضعين من مواضع السجن، ويرد هذا كثيرا في الرواية. يظهر التقاطب مثلا بين المرأب، والكدية المعشوشبة، حيث مقبرة المساجين. يقول حمودة عن المرأب: “وجدت نفسي فيه عنوة عبارة عن محشر ذي سقف صحيفي عال، تسنده أعمدة خشبية مركوزة في أرض رملية. مرأب يعج بالبشر من شباب وكهول وعجزة، أغلبهم واقفون وقوف الساق على الساق، والباقي جلوس وهم …أصحاب العاهات(2)”. يتحدّث أحدهم عن سبب وجودهم في هذا المرأب: “يدعون ظلما وبهتانا أنّنا غلاة مكفرون، ويذهبون في تعذيبنا مذاهب شتى، منها تدريبنا على يوم الحشر(3)”. وعندما يظن المراقبون أنّ حمودة قد مات، يحملونه إلى المقبرة، وهناك يرتاح حمودة لأن الكدية المعشوشبة ستبيت متنفسا له. يقول: “اكتفى الحراس بتصفيف الجثث… زحفت كتمساح جريح بعيدا عن الخندق المعدّ للدفن الجماعيّ الأعمى، حتى إذا لحقت بكدية معشوشبة تنفست الصعداء واسترحت(4)”. لم تحلّق سعادته في الكدية المعشوشبة حيث المقبرة، لكنه وجد ما يخفف عنه وطأة المرأب، حيث يقف المعتقلون وقوف الساق على الساق، فالانضمام الضئيل إلى الحرية يحقق له متنفسا. يقدّم التقاطب هنا صورة واضحة عن واقع السجون، فنعي أي اختناق يعيشه السجين، ليجد أنّ عشب المقبرة مركز الاستقرار والأمن. يبرهن هذا التقاطب ذلك الخلاص المتوهم في السجن، والمنقوص دائما.
ومثل هذا التقاطب في السجن نجده بين مشفى المعتقل، والمقبرة. يقول حمودة وهو في المشفى: “نظرت إلى رجلي الملفوفة بالبياض… وبعدها حوّلت نظري إلى النافذة الفوقية، بدت لي قضبانها نورانية من شدة انعكاس أشعة النهار وزرقة السماء عليها(5)”. وعندما يؤمر أن يغادر المشفى، ويتوجه مع زملائه السجناء لحفر القبور، يقول: “سلّمونا فؤوسا ومغرفات… نحفر قبورا بعمق ثلاثة أذرع لا أكثر. لم يكن بدّ من تلبية الأمر. واضعا عكازي حيثما استطعت، أخذت أنبش الأرض وأحفر بحسب ما يسمح به حالي وعطبي. انتبه إلي حارس فهددني بالرمي
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي ، ص 61.
2_ م. ن ، ص156.
3_ م.ن ، ص157.
4_ م.ن ، 161.
5_ م.ن ، ص205.
في قبر وردم التراب عليّ إن لم أعمل بتفان وجدٍّ(1)”.لا يحصّل المريض المأسور راحة جسده التامة، تماما كما يمكن أن يحصل لشخص قد يعيش حياة اعتيادية، خالية من المهاترات، والتعذيب، والأزمات. يغادر حمودة المشفى، ليحفر قبور زملائه السجناء الذين يتوفون نتيجة ظلم السجن. يَمثُل حمودة وزملاؤه لأي قرار من دون أدنى كلمة معترضة.
هل نفهم مما ورد أنّ العربي لا يختار واقعه، وأنّه مرغم دائما على الانتقال من واقع سيء إلى وضع أسوأ؟ يبدو أنّ التقاطب الوارد أعلاه هذا ما أراد الإشارة إليه. لعل التقاطب يلمّح إلى فكرة مفادها أنّ على العربي أن يربض دائما خلف جدار الرهبة والصمت، ليعيش معذب التفكير، ومحطم القوى، ومنهك التحليل، لا حول له ولا قوة ، فما هو إلّا دمية في يد الطاغي. إذا، الهدف الأساسي لدى المستبد المتسلّط أن يكون هو صاحب الرأي الأوّل والأخير، وأن يجرّد الفرد من حقّه، وأن يلحق به كافة الخسائر الجسدية والمعنوية، فيبقى دائما لايدرك كيف يرمّم حطام روحه.
2-التراتبية:
يتوزع السجن إلى فئات تتفاوت تراتبيتها، وقد يختلف المنتمون إليها. والأمكنة المتعددة المتوافرة في السجن، هي: مكتب قاضي التحقيق(2)، وقاعة السجناء(3)، وزنزانة حمودة 112، إضافة إلى زنازين أخرى(4)، ومرحاض عبارة عن حفرة ضيقة، مغطاة بياجورة، وصنبور ماء شحيح(5)، وملعب رملي للعب كرة القدم، وهو خلف بنايات المركز(6)، هذا إضافة إلى خطوط التماس، حيث يقف الحرس مع كلابهم(7)، والمرأب، حيث يحشر المسجونون، وتكون الساق على الساق(8)،
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي،ص207.
2-م.ن ، ص86.
3- م.ن ، ص114 و116 و117.
4- م.ن ، ص153.
5- م.ن ، ص.ن.
6- م.ن ، ص88.
7- م.ن ، ص89.
8-م.ن ، ص156.
وممرات السجن(1). ولا يمكن أن ننسى الكاشو، وهو مكان لحكم السجين “بالعزل الانفرادي المظلم، يقال الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود تعبيرا عن طول مدته وضمور شروط الحياة فيه، من أكل وشرب وهواء(2)”. كذلك مقبرة المساجين(3)، والمشفى، والمستوصف(4)، والقبو رقم 13، قبو الصدمة والترويع(5)، وساحة مسيجة بأسوار عالية ذات أبراج حراسة(6)، وزنزانة في جناح حي آخر، أصغر من الأولى، “من بناية معرضة للهواء الجاف وأشعة الشمس(7)”،ينقل إليها حمودة ليشفى من حساسيته. ومكتب “لقاط الأكاذيب” يحوي شاشة “تمور بالخطوط والذبذبات”، ومصحف القرآن كي يقول المحقق معه الحق ولا شيء سواه(8)، وحمام الاغتسال(9)، والمطعم(10)، ومكتب السكرتيرة(11)، وغرفة سرية في قبو(12).إنّ ذكر تقسيمات السجن، يوضّح طبيعة السجناء النفسية ومدى الاهتزاز الذي يعانيه القابع وراء القضبان.
وتظلم تراتبية الأمكنة السجين حتى عندما تكون بين مكانين متوازيين إلى حد ما، لأنّها تؤثّر على نفسيته، وتزيده اضطرابا. ها هو حمودة يتمنى أن يعود إلى زنزانته
1- بنسالم حمّيش، معذبتي، ص86.
2_ يقول حمودة: “لذا آثرت الاستجابة والاذعان حتى لا أعوّص أمري وأزيد في طين مأساتي بلة”.
م.ن، ص 46.
3- م.ن، ص 207.
4-م.ن، ص 205و28.
5-م.ن، ص24.
6-م.ن، ص28.
7-م.ن، ص29.
8_ يقال لها في السجن: “أنت منذ الآن رقم هويتك رقم زنزانتك 112”.
م.ن، ص18 و112.
9_م.ن ،ص76.
10_يقول: “بعد قيامي بعمل تنظيف وكنس في المطعم مع رهط من السجناء…”.م.ن، ص119و143.
11_يقول:” في مكتب السكرتيرة، دست مامزيل نعيمة وريقة في جيبي…”. م.ن، ص129.
12_ في الغرفة السرية سيكون مع امرأتين،هما: الغولة “الوحش الضاري”، ونعيمة “الغزال المسالم”.
م.ن، ص148.
رقم 112(1)، عندما يُنقَل إلى أماكن أخرى. هذا الانتقال يحتاج إلى قوة ترفع الضغط عنه، وهو المقرر سلفا بأنّ ما ينتظره لن يكون أقل ضررا، وسيكون أشد إيلاما من الحاضر.
وقد يكون تفضيل حمودة البقاء في المقبرة بين الأموات، حيث الكدية المعشوشبة، عندما يظنون أنّه توفي(2)، وهو الذي كان يحفر القبور مع زملائه السجناء، بعدما أُخرِج عنوة من المشفى (3)، و من دون تحصيله الراحة الكاملة، دليلا ساطعا على تراتبية تلك الأمكنة الظالمة بمختلف مراحلها، وكلّها أماكن تبرز فظاعة الأوجاع الراكدة في الذات. وتبين تراتبية الأمكنة أسباب الانكماش لدى الفرد، وذلك حسب تفاوت نسب التعذيب الجسدي والروحي ضمنها. تدل رغبة حمودة في البقاء ضمن المقبرة حيث الكدية المعشوشبة، وعدم تفضيله مساعدة السجناء في حفر القبور على صعوبة الاختيار، كأنّه يختار ميتة أقلّ قبحا من أصل ميتتين. يقول سليمان تقي الدين :”الاستبداد ليس شخصا واحدا بل منظومة، وليس حاكما أعلى بل نهجا وممارسة وثقافة… يستخدم الغرب الاستبداد بوسائل قوته الخاصة… بالتكنولوجيا… والمفاهيم التي تفرضها هيئات حراسة دولية(4)”.
وتراتبية الأمكنة تضيء السرد، فيبيت أكثر واقعية، بعدما تظهر ظلمة السجن، وآلام أوقاته. هكذا تبيت الأحداث، كأنّها مشهد يتراءى أمام ناظريك، لأنّها تكشف عن المرارة المتحكّمة في ذات السجناء، الذين يلازمهم القلق أينما حلّوا، أو تنقلوا.
تجعل التراتبية المتلقي شاعرا بمعاناة السجين(5)، كما توضّح في أكثر من موقع سلوكيات المتسلِّط، والمتسلَّط عليه، وندرك حينها أسباب الآلام التي يمكن أن تصيب كليهما، وإن بشكل تتفاوت نسبته، وطريقته(6).
يحاكم المسجون في كلّ الأمكنة التي تتفاوت تراتبيتها، فهي كلّها أمكنة مخصصة للتعذيب، وتتطلب منه المثول لضغوطات الآخر، والموافقة على كلّ شروطه، وإلاّ ستكون النتائج وخيمة. يتكرر الاستجواب في كل مكان، فتحقق تلك الامكنة شروطها في حرق أعصاب المسجون، وبطرق متفاوتة، وأساليب متباينة، قد تشتد صعوبة
1_بنسالم حمّيش،معذبتي، ص18.
2_ م.ن ، ص207.
3_ م.ن ، ص205.
4_ سليمان تقي الدين، ليست المعادلة: الفوضى أم الاستبداد، السفير، 31-5-2011، ع 11899.
5_ بنسالم حمّيش ، م.س، ص29.
6_ م.ن، ص238.
أذيتها، أو تتضاءل حسب الموقع المتواجد فيه. هي أمكنة منقوصة الأهلية، وتحتاج لتأهيل.
تفعّل التراتبية تلك حضور الغرب، وحملاته العنيفة المهددة والمنفذة؛ فما هدف تراتبية الأمكنة تلك، إلاّ مراعاة مصالح العدو. وهنا نسأل كيف ترضى جهات عربية التعامل مع جهات معادية ضد أخوة لهم في الوطنية، أو القومية!؟
3-الحدود واجتيازها:
تكثر الحدود بين الأماكن في رواية “معذبتي”، سواء داخل السجن، أو خارجه. يتحدّث عن وجبة الفطور في زنزانته، ويقول: “لبن يذكّرك لونه ورائحته ببول البعير… أمّا النفس فلا حيلة إلى طمأنتها ودفع أحزانها، إلا أن ينزل إليّ حبل من السماء مددا ونورا، فيخلصني مما أنا فيه، ولو بجذبي إلى الدار الأخرى(1)”. تنهار القوى الذاتية أمام الآلام، فتتجسد له الحرية من خلال الموت، ويتمناه. يريد التخلي عن حياته، لأنّه يرى أنّ الفناء هو الحل، وهو المخلّص من كلّ الطرق المسدودة الماثلة أمامه. يتمنى أن يترك الحياة طوعا، وهي التي خلت من المغريات، غير أنّ الحدود القائمة بين الحياة والموت لا يمكنه تخطيها، فالإيمان يمنعه من ارتكاب المعصية، وقتل النفس التي حرّم الله قتلها(2).
ويبدو أنّ الإيمان مجددا سيقف حائلا بينه، وبين المعاصي. تغري حمّودة امرأة في السجن، ويفكر في الانقضاض عليها. يقول: “فطفقت… أهدىء بهيميتي وحواسي المستنفرة(3)”. تبدو قراءة واقع الرواية ناقصة، إن لم نعرف كيف تلغى حقوق الفرد في السجن، وكيف يمنع من تحصيل حاجيات جسده الطبيعية. فرغبة الجنس الجامحة هذه، ناتجة عن حرمان مزمن. إنّ الحدود التي أُقيمت بينه وبين أيّ امرأة، والتي وفرتها ظروف السجن، هي التي حمّلَت الجسد ما لا طاقة له على احتماله. ها هوحمودة معدم الحيلة، فارغ من أيّ قدرة تمكّنه من الحصول على امرأة، تحصّنه من ضغوط الجسد. نفهم من خلال ما ورد الحدود القائمة بين العقل ومعتقداته، وبين الجسد وحاجياته، وتحسم المسائل لمصلحة الوعي والمنطق، لذلك يهدىء حمودة بهيميته، وحواسه المستنفرة.
كل الحدود القائمة في السجن تضيء أحداث الرواية، وتعطينا صورة مفصّلة عن
1_ بنسالم حمّيش، معذّبتي، مصر، دار الشروق، ط1، يناير 2010، ص65.
2_ م.ن، ص153و154و155و156و158.
3_ م.ن، ص67.
الأحزان المقيمة في ذات كلّ سجين(1).
كثيرة هي الحدود الفاصلة بين حمودة وعالمه، ويمكننا أن ندركها أيضا من خلال قضبان المعتقل المانعة من الوصول إلى الأم الحبيبة. يقول حمودة: “في وضعي السريري المتمدد، ماذا يملك العليل مثلي فعله سوى إطالة التفكير في شروط الحال واحتمالات المآل… أراني أحفر بيدي وبما أوتيت من أدوات خندق هروبي من سجني المدمِّر هذا إلى قاعدة اختطافي، حيث أختفي زمنا عن الأنظار وأرحم جسمي ونفسي في ظل رعاية أمّي المحبة الرؤوم(2)”. تزداد أزمات السجين، ويبيت الخيال المستند إلى ماض يجمعه مع أمّه الحل السحري الوحيد للهروب من الصراع النفسي ، المؤسس على التقاطب القائم بين الخارج والداخل، بين الليل والصباح، بين القهر والأمان. يعيش حمّودة إذا انقساما ذهنيا، لأنّه ينتمي إلى زمنين، هما: الزمن الفعلي، وهو زمن السجن، والزمن المتخيّل، وهو زمن ماض، حيث يمكن أن يبيت في حضن أمه. تمنع حدود السجن تحول حمودة من المكان المظلم إلى المكان الضاج بالحياة .
ويقيم التوجس الحدود ضمن السجن نفسه، وضمن الزنزانة نفسها. يقول:”خشيتي من أن يعود الضابط إليّ ولا يجدني جعلتني ألازم مكاني قرب الباب، ولا أحيد عنه، ولو أنّ حاجتي إلى الحركة والتبول بدأت تبرز وتلح(3)”. حدود حمودة هي بقعة صغيرة ضيقة، فأيّ حركة قد تفضي به إلى الهلاك، أو ستؤثر سلبا على وضعيته في الزنزانة، لأنّها ستمس حدود الطرف الآخر المعادي، الذي ينتظر أن ينقاد لمشيئته، لا أن يعاكسها. إذا، ما على السجين سوى مراعاة وضعه، والكفاح من أجل توطيد العلاقة حتى لا توجه إليه الضربة القاضية.
كأنّ ما ورد يومىء إلى حركة الفرد المحدودة، والمقيدة الخطى في محيط يراقبه، ويعريه من أدنى إحساس بالحرية. وهذا ما يشنج أعصابه، ويوتر قواه، وبالتالي يدمّر عقله. وهو الذي مهما علا صراخ قلقه الضمني، لن يعود نفعه عليه إلاّ بصدى أنينه.
لعلّ ما ورد يشير إلى كيفية تعطّل قدرات المثقف في المجتمع، نتيجة القيود المغرقة
1_ يقول حمّودة: “لا شيء للقراءة، لا مذياع، لا تلفاز، لا أخبار عن العالم؛ يحكم على المقيم بمراودة نوم صعب المجيء”.
بنسالم حمّيش، معذبتي، ص27.
2_ م.ن، ص112.
3_ م.ن، ص159.
للذات التي هدفها الضمني التحرر من السجان ومساعديه، هو سجان قد يكون مسيّرا، لأنّه فرد عاجز عن تحرير نفسه(1).
أيعني ما ورد أنّ المجتمع العربي كلّه خاضع لسلطة ما تعلوها سلطة؟ يبدو أنّ هذا ما أراد برهنته النص الروائي، الذي أبرز من خلال الحدود و استحالة اجتيازها واقع العالم العربي المتردي، الذي عليه أبداً أن يعرب أنّه مقلّص القدرات، منهوك القوى، ليتملك الآخر الإحساس بالفوز. يريدون من العربي أن يعيش أزمة الغباء المفتعل من قبله، رغما عنه، وأن يعاشر دونيته وحدها. والويل له إن فكّر في الخروج من هزيمته، لأنّه سيُجَر بعدها إلى مصائب، قد لا تفضي به إلا إلى لملمة أشلاء جسده. هكذا يقلّص التعنيف دور المفكّر، ويعريه من إدراكه المنتج، فيعيش مطبق الفم، ملتفا على همومه.
إذا، هدوء العربي المفتعل، هو إغراق لزمنه، الزمن المعطي، علّه يبقي آخر رمق لديه. يقلّل الركون في الخلف من فرصة تعرضه للعنف، غير أنّ التهديد، والوعيد سيلازمان خطواته المفكّرة. هي أنظمة تجهر أنّها الحاضنة لكلّ فكر متمدّن، وأنّها السباقة إلى منح ما يحتاجه أيّ مبدع خلاق. هي أنظمة تسنّ أفكارا، على الآخر الامتلاء بها، والمثول لمضامينها، غير أنّها لا تحوي سوى بنود تحرّرهم(2).
4-القوقعة:
قد يؤدي الارتباك، والقلق من التواصل مع الناس إلى قوقعة الفرد، حيث يمكن أن يحمي نفسه من شر الخارج. ها هو حمودة بعدما خرج من السجن، يقرر ألا يخرج من المنزل، خشية من أسئلة الآخر المرهقة ، المهلكة لنفسية إنسان طال أمد عذابه في غياهب السجون. يقول: “تجنبا لأيّ سوء تواصل مع الناس والمصلين لزمت مثواي أياما، أقتات من زادي وأسوّد صفحات تلو أخرى عن سنوات اعتقالي(3)”. ويقول أيضا: “لعلّ لزوم الصمت، مع التعويل على كرور الوقت، هوالحل إذا ما اقترن بلزوم البيت، لكن اللزومين يستحيلان، لا ريب، إلى سجنين في حال امتداد
1_ “دلفت إلي نعيمة فانحنت ووضعت عصير برتقال على طبلتي مرفقا بكلمات خافتة سريعة: إذا كلمتني خربت حياتي… لكن هل علي أن أسكت عن هؤلاء الجنود والمخبرين الأجانب… فهذا يطبطب على ردفيك متلذذا؛ وذاك يعصر نهديك ويبخرهما بسيغارة…”.
بنسالم حمّيش، معذبتي، ص 238 و239.
2_ يقول المحقق لحمودة :”…أنظر في كلّ الأمور وأقضي وأدفع بالتي هي أحسن… قانون النطع والسياف في دول الإسلام الدنيوي…يقشعر لها بدني وتشمئز منها نفسي…اتهامك بقتل زوج أمّك…عصيت أمر الله تعالى فيه”فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم” (البقرة:194)”.
م.ن ، ص39.
3_ م.ن، ص12.
أمدهما وانسداد أفقهما(1)”.
ويدرك أنّ عقوبة السجن، ستمدّ خطوطها إلى خارجه، لذلك يرى أنّ مداراة وجوده بين الناس تتطلب منه جهدا كي لا يتعرفوا إليه، فالاحتراز والتستر ضروريان. يقول في هذا الصدد: “اجتناب الخروج من مكمني في النهار جهارا، حيث درجات الشفافية والانكشاف تبلغ أوجها ومداها، ومنها مع هبوط الليل، حتى لو تلبدت سماؤه ودمس، وأن لا يتم ذلك الخروج إلا ورأسي محفوظ تحت خوذة معدنية مقواة، إلا وعليّ صدرية واقية من الرصاص. صنعت هاته بنفسي مسخرا قطع صلب وحديد بطنت بها سترتي الجلدية، واشتريت تلك من خردة بظاهر المدينة قصدتها متنكرا تحت جنح ظلام صاعد(3)”.آثار التعذيب تكتب تاريخ عيش حمودة الجديد، لذلك كثيرا ما يفكّر في كيفية عزلته عن الناس، أو في كيفية إقامة حدود بينه وبين الآخر، كي لا تنزل به عقوبات يتوقعها، أو تكون غير متوقّعة. يفكّر أنّ الخطوات المدروسة ستحميه من أنياب مفترس بأسئلته ، أو نظراته. هي تدخلات ستؤكّد له أنّ الحرية لا تنال حظوظها معه خارج السجن. هكذا تضن الحرية عليه في الماضي وفي الحاضر. الانكماش والصمت عنوانان بارزان يقلّصان نمو علاقاته، وكيف له أن ينفرج، وقد عانى، وتحمّل ما يصعب على أيّ إنسان مسلم أن يحتمله، ويعي عواقب خذلانه في حال مثوله لبهيمية، قد يضطر إلى خوضها. يقول: “…طفقت أصرخ ملء فمي، منبها إلى وجود امرأة في زنزانتي على غير سنة الله ورسوله… ثمّ عاودني صياحي مجددا، لم أجن منه هذي الكرة غير إيقاظ الرفيقة الدخيلة، التي انبرت تتهمني بالعمالة والتجسس عليها في زنزانتها ونومها… أنفقت بعض البلاغة في الهجوم المضاد عليها واتهامها بالمخبرة المخترِقة، مهمتها إغرائي مقابل الحصول على معلومات، عجزت الغولة بالتعذيب استخلاصها منّي.
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص10.
ويبرر أسباب عزلته، ويقول: “جريح سنوات اعتقال همجي مرير…، كلّ سجن، ولو خفّت معاناته، يستثير أعصابه ويدير السكين في جروحه”.
م.ن، ص11.
ويرد مثل هذا التقوقع في رواية “العلامة” لبنسالم حمّيش. يقول: “قصدت جامع الخطبة حيث صليت العصر وحدي، واسترحت قليلا، متخفيا عن الأنظار حتى لا أثير البصّ والغمز، وأصادف واحدا من سماسرة السوء المتسببين في انصرافي عن خطّة القضاء قبل ثلاث سنوات ويزيد. وحين كثرت الخطوات من حوالي قمت للخروج”.
بنسالم حمّيش، العلاّمة، ص115.
3_ بنسالم حمّيش، م.س، ص11.
… فقفزت نحو لحافي واعتصمت به متكوّما، لازقا بحائطي الخلفي، جاعلا في ذهني وجوارحي بين الدخيلة وبيني حجاب الله وما قدرت عليه من حواجز ومحاذير(1)”. لا يفهم حمّودة سبب حضور امرأة في زنزانته رقم 112، كما لا تجد هي نفسها مبررا لوجوده معها، في مكانها، وكلاهما يتخيّل أنّ الآخر سيكون سببا لاندلاع شرارة خلاف لا تحمد عقباه. يبيت الحراك ضمن الزنزانة نفسها صعبا، ويخشى حمّودة أن توقعه الغولة في المحظور ، وأن تسقطه في أحبولة الحرام والخيانة. ولعلّه يخشى أن يُستدرج في الكلام، إثر انغماسه في الإغواء، فتبيت الخيانة خيانتين، أولاهما معصية الله الكبرى، وثانيهما خيانة الوطن. التعطش إلى الحرية بات ضمن الزنزانة نفسها، بعدما كثرت تساؤلات حمّودة، وتكهناته السلبية حيال وجود أنثى معه في المكان نفسه. ما يدفع حمّودة إلى القوقعة، هو أن يقع في المحظور، فينضم إلى لائحة العملاء، الذين لا تليق بهم صفة المواطن الشريف، المحصَّنة عروبته بمفاهيم يستحيل أن يسلخها أحد منه. هكذا يتم تجريب السجين، هكذا يمكن أن تسوّد صفحات المأسور البيضاء، بعدما تحلّ ألوانها النظيفة.
تبرهن القوقعة كيف أنّ العدو المتسلّط يصمّم على إفساد العيش داخل الزنزانة نفسها، أو في الخارج بعدما يستخدم أبشع أساليب التعذيب.
د- علاقة المكان بالزمان بالرؤية بالشخصية:
يشكّل المكان وزمانه الرؤيا، فحمّودة المؤمن المسلم، يرميه السجن في هلاك جسده المحني على فرص الموت الرخيص، بعدما يرغب في حضور امرأة تفعّل رجولته، لا تفنيها، وهو الذي لا يستطيع أن يكبح شهوة جسده، الذي له حق عليه.
كما يحمّل المكان وزمانه الشخصية قناعة، مفادها ضرورة رضوخها لأوامره، وهي التي يدرك أنّ السجن يمنعها من بناء ذاتها، لأنّها ستظل تعيش حياة الهاربين من لهفتها الساعية إلى التحرر للانطلاق نحو ما تبتغي وتشتهي(2). وليست شهوة الجنس المكبوحة، إلّا رهبة من بين مخاوف مرغوبة لا حصر لها. أن يرغب المرء لا يعني تكفيره؛ فاللإنسان حاجيات لم يخترها هو بمحض إرادته، إنّما الله قد أودعها فيه، وأوصى بحمايتها كي لا تعوّق نمو علاقاته الإنسانية. يقول حمّودة عن سجينين:
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص 163.
2_ م.ن، ص67 و69.
“لم يفسد عليّ نومي سجين بصرخاته واستغاثاته…، كما حدث بالمثال لا الحصر أمس الأمس حين تفانى معتقل في الصياح والعويل لكونه معلّقا بشباك سقفه،… ثمّ يدّعي أنّ مربعه بثت فيه كاميرات لمراقبته والتجسس عليه، وأنّه تحديا للعيون وراءها ونكاية يسب ويبصق بل يستمني بين حين وحين(1)”.
ويظلّ المكان والزمان يبنيان رؤية الشخصية، وينميانها بشكل سلبي أو إيجابي حتى خارج السجن. فحمودة عندما يغادر المعتقل، ويفكّر في الكتابة، يقرّر أن يتخفى في مكتبته، ويفكّر أن يحمي نفسه من عيون الناس، وذلك عبر تخفيه تحت خوذته الحديدية(2). هكذا نفهم كيف أنّ المكان يشكّل علاقات الإنسان الاجتماعية، فيساعده ليتقدّم ذهنيا وجسديا، أو يتأخر، لذلك يظلّ المكان يطبع الشخصية بطابع مأساوي، ولا نجد حمّودة متخلّصا من هذا الهم إلاّ في نهاية الأحداث، عندما يقابل زينب زوجته(3).
تدور أحداث الرواية في حيز مكاني يكاد يكون مقيدا لإرادة الفرد، وهذا ما يجعل رؤية الشخصية تكاد تكون محدودة، فترى أنّ العزلة طريق الخلاص.
كما أنّ خيارات الأمكنة كانت معدمة بشكل عام حتى خارج السجن. يقول حمودة، وهو في زنزانته المظلمة مستحضرا صحراوية المكان السابق، وقفره، فنسمع الأنين في الموضعين: “لو لم أكن منذ صباي روضت نفسي على تحدي الفراغ ودواره، إذن لكنت الآن بذلك التمرين الشاق المهين بين الهالكين. …هل في مستطاعي أن أنجو بصمتي وسلامة عقلي في تمارين أخرى تترصدني، كأكل الطعام الملوث، … والصبر على المكوث في القفص ساعات وساعات، وغير ذلك؟ يروم مجرمو المجمّع ومديروه تحويل الإنسان الأسير إلى حيوان غير ناطق… سليب القوة الجسمية والمعنوية، لا استطاعة له إلا في الطاعة والإذعان…(4)”.
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص28.
2_ م.ن، ص10و11.
3_ م.ن، ص285.
4_ م.ن، ص23.
يقول عبد الرحمن منيف: “العلاج أن يكون لك بيت، أن تنظم حياتك، وتأكل بموعد، وهنا في السجن العذاب والبرد”.
عبد الرحمن منيف، شرق المتوسط، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط13، 2001، ص45.
المكان الحاضن للزمان، هو الفاعل، أمّا المفعول به، فهو الإنسان. كما يبني المكان هنا شخصية المرء، ويتمكّن من أفعالها، فتأتي كما يبغي. يبدو المكان والزمان هما البطل، لأنّهما المؤثر الأوّل والأخير في حياة حاضريهما، وفي رؤيتهم حيال أشياء عالمهم. المكان هنا هازم الاستقرار، وهادم الأمان، لأنّه يحمل بشره دائما إلى ما هو أخطر وأدهى، فلا تنحاز لغته إلى لغة العقل، بل إلى لغة تأجيج الصراع.
ونجد أحيانا أنّ المكان السجن، سيؤكّد أفكار الشخصيات الصلبة، لذلك تتجلى مفاهيمهم راسخة جذورها الدينية، شامخة أهدافها، لا ترضى بديلا للإله الواحد، لذلك تتمنى الموت، لأنّها تراه سبيل خلاصها. لنلحظ كيف لا تقبل الشخصية أن تشلّ مبادئها، لذلك تبدو علامات الحياة تتضرّع لعلامات الموت، فيبيت الارتعاش بين يدي الله أمنية. يقول حمودة: “إنّما القوم هنا، وقد بلغوا حدود الصبر الأقصى وما لا يطاق، استرخصوا الموت وآثروه على حياة المذلة والهوان، فكانوا بما تبقى لهم من جهد وأنفاس يتداولون جماعيا في هذا الشهر المبارك على تلاوة آيات قرآنية ومختارات من الأمداح النبوية والأذكار، كنت فيها أدلي بدلوي وأبلي ما قدرت البلاء الحسن(1)”.يبدو المكان الحاضن للزمان غير قادر على تشكيل معتقدات جديدة لدى السجناء، فالمعتقل المحدود بمسافته، والقاسي بلحظاته، لم يستطع أن يوقع ساكنه في أنياب الخيانة، أو يدفعه للانزلاق إلى مواضع، يطلب بعدها التطهّر من خطايا الشيطان. هكذا تصبح الخطوة المتوجهة نحو الموت انتصارا، لا هزيمة. يقول صبري حافظ: “ومن هنا كان ثمة ولع واضح بالمتاهة وبسيطرة المكان على الإنسان وبفقدان القدرة على الفهم، مما يزيد من غربة الإنسان عن الفضاء الذي يعيش فيه، بل يعيشه ويعانيه، ومن هنا كان من الطبيعي أن يتم تناول المكان… في عالم لا يعبأ بالإنسان ولا يستجيب لسيطرته(2)”.
وقد يمنع المكان الشخصية من النهوض، ويقلّص فاعليتها، فلا يبقى لها إلا أن تطلب المزيد من الأيام للبقاء على قيد الحياة. يزيح المكان عن الشخصية كل ما يبشّر بالخير، فترضى بواقعها، وتقنع بمصيرها، وتنمحي بذلك تلك الضدية القائمة بين الشخصية ومكانها شيئا فشيئا، وتبدي شخصية السجين حمّودة لمكانها الانصياع، إلى حد أنّها تتآلف مع المكان وترضى به، وترتاح إليه، كما حصل مع حمّودة الذي يحبّ زنزانته رقم 112، ويفضّلها على سواها من أمكنة السجن.
1_ بنسالم حميش، معذبتي، ص23.
2_ صبري حافظ، الرواية والواقع (متغيرات الواقع العربي واستجابات الرواية الجمالية)، مجلة الناقد، ع 26، آب، لندن، 1990،ص38.
وتنتقل رغبته في الوحدة من السجن إلى خارجه، فيختار الإقامة في مكتبته بعيدا عن محيطه(1)، وهنا تبدو تصرفات حمودة متكئة على خلفية زمان ومكان سالفين قادرين متعسفين، يحطّمان أي رغبة انتماء للمحيط، التي يمكن أن ينشئها واقعه الجديد.
هكذا يظلّ حمودة يعيد إنتاج صورة ماضيه في حاضره. فوحشية السجن الساكنة في لاوعي حمّودة، تعدم أي فرح يمكن أن تتبدى خطوطه، لذلك نجده يهرب من الناس الذين يعتقد أنّهم سيمنعون عنه كلّ استقرار، فلا يخرج في النهار الجهار، ولا في الليل “حتى لو تلبدت سماؤه ودمس(2)”. يقول عن وصف المكان د. سمر روحي الفيصل: “إنّ هذا الوصف مجرد تمهيد لاختراق الشخصيات بوجهات نظرها الخاصة(3)”.
نعي هنا من خلال المكان الحاضن للزمان، والذي يتكاثر وروده في النص كيف يمكن أن يمنع العدو انطلاق الفكر، فيترك الفرد في أوضاع نفسية معتمة، خاصة بصاحبها.
يبدو أنّ المشاهد المغلقة في السجن هي التي أنشأت لديه ذلك الإحساس المظلم، وهي التي شكلّت تلك الغشاوة القاتلة على عينيه، الأمر الذي أدّى إلى تيبّس علاقاته مع محيطه، وتحطيمها حتى بعد خروجه من السجن، لذلك يتخفى خلف الأقنعة، علّه يحظى بفرصة وجوده.
يبرز التفاعل مع الزمان والمكان مغزى الخطاب الروائي، فتصاعد الأحداث الدرامية توضح أغوار النفس المتألمة، ومدى العنف الذي تعرضت له حتى صارت سجينة أفكارها. تخفق شخصية حمودة في إقامة علاقة مع محيطها، وتغرق الذات في منظومة ارتدادية، لا يؤسسها سوى عقل قيدته أفخاخ سابقة ، وصنعته.
ه- وظائف المكان بين الزمان وثقافة الأديب:
تتجلى وظيفة المكان هنا استبدادية متحكّمة بالزمن، وثقافة الأديب، لأنّها تتسلّط على كليهما، وتخضعهما لسيطرتها، فيغدو الأديب لا حول له، ولا قوة.
1_ بنسالم حميش، معذبتي، ص11-12.
2_ م.ن، ص11.
3_ سمر روحي الفيصل، الرواية العربية،البناء والرؤيا، دمشق، إتحاد الكتّاب العرب، 2003، ص72.
يستعيد الراوي زمن السجن في الخارج، وقد يقطع التذكر زمن الحاضر ليعبّر عن تجربته الخاصة في المكانين، والزمانين. تبدأ الرواية أحداثها متناولة موضوع رسالة وصلته في السجن، وبعدها مجدداً يباشر الحديث عن أحداث الحاضر، ليبين أثر الرسالة عليه في ذلك السجن، ويمتد الكلام ليتناول فساد حياة السجين، وآلامها التي ستنسف حاضره، فيغدو أسيرا لها في زمنه الجديد(1)، حيث يستحيل عليه التعاطي مع الناس. ويحملنا مجددا إلى الزمن الماضي وأمكنته، ويكاد يلتزم أحداثه، فينقل ما يجري معه آنيا بشكل سريع. و يتركنا في الماضي، الذي يتخفى الحاضر لمصلحته، لمصلحة البرهنة أنّ الثابت هو انهزام طموح المثقف، إن لم يعرف التحوّل لمصلحة العدو، الذي يريده ورقة سائغة بين يديه. يريد هذا العدو، الذي على ما يبدو تحرّكه جهات أميركية، أو إسرائيلية طامعة بمقدرات البلاد العربية أن يكون مطيعا لها، و مؤيدا لآرائها، وعميلا لمصلحتها. إذاً، أحداث السجن هي أساس السرد، ولا يعرف الحاضر أي فاعلية إيجابية إلا في نهاية الرواية، عندما تتحوّل حياة حمّودة من الشقاء إلى الراحة والأمان، حيث يعيش تطورات إيجابية مفاجئة بعدما يبيت مع زوجته زينب، فيتنشق نسيم الحرية. يقول: “هأنذا في الحقل بين كتاب أقرأه وأرض أحرثها مع زوجتي وحماتي(2)، أتنشق ملء رئتي هواء حريتي المستعادة، وأنتعش به رفقة زينب(3)”. يبدو أنّ تجربة حمودة الخاصة ، المستعيدة لزمن حبسه، تعبّر عن آلام أمة عربية لا تنفك تعاني أغلال قيد قديم جديد ينغّص استقرارها، ويترك الذعر في ذات كلّ من يشتهي الحرية ويتوق إلى استغلال مقدرات شعبه وبلاده لمصلحة أمته، علّه يرفع غطاء الجهل والإساءة. يقول حمّودة: “المعطى الثابت الذي لا ريب فيه عندي ولا مراء أنّ هذا الحبس السرّي المجهول الموقع، تديره جهات أجنبية خفية بأيد متعددة الجنسيات(4)”. هل هذا يؤكّد فكرة تمّ الإشارة إليها، ومفادها أنّ الأمة العربية لن تعرف التقدّم، ثمّ إنّه، وإن تجلّى بصيص نوره، سيولد معوّجا، و ستكون إشعاعاته شاقة مستعصية؟ يبدو أنّ هذا ما أرادت الرواية تأكيده، لأنّ شخصية حمّودة في غالبيةّ أمكنتها مضطربة، قلقة.
يبدو أنّ فضاء الرواية غير مفصول عن الفضاء الراهن، لأنّه قريب منه زمنيا،
1_بنسالم حميش، معذبتي، ص10-11.
2_ “الشخصية تمنح المكان وبالعكس، لذلك لا يمكن أن يتضح الزمن النفسي للشخصية من أمكنتها التي تسكنها أو تخلّفها”.
خالد حسين حسين، شعرية المكان في الرواية الجديدة، ص107.
3_ بنسالم حميش، م.س، ص287.
4_ م.ن، ص133.
وملازما له، ومتمما لأحداثه، إذ ما يجري الآن لا تنفصم عراه عما سلفه. يلتقط حمودة في سجنه آخر تصريح لرئيس الحكومة الإسرائيلية يهود أولمرت، وذلك من ترانزستور، يؤخذ منه بعد ذلك. يقول أولمرت: “إذا لم تتوقف حماس عن تخويف أطفالنا وعجائزنا بقذائفها التقليدية الصنع، فسندمّر غزة ونتركها أثراً بعد عين(1)”.
وإذا عرفنا أنّ عمليات اسرائيل مستمرة على الفلسطينيين، وأنّ قتالها مع المقاومة في قطاع غزة لم ينقطع، وانّ المناوشات الإسرائيلية مع الحدود اللبنانية ما زالت موجودة، ومهددة لوحدة اللبنانيين، ولحريتهم، ومستضعفة لقدراتهم، فهمنا الغاية من تكرار الحديث عن المقاومة الفلسطينية واللبنانية في الرواية. فحمّودة يستوقفه مقال شطِب تاريخه، وهو في السجن. يقول: “تأكّد لي ما أعلمه وتعلمه كل الشعوب المستضعفة وأحرار العالم: جبروت إسرائيل المستقوي بدعم أمريكا الشامل اللامشروط، تعززه معظم دول أوروبا وحتى أنظمة عربية وازنة. المقاومة الفلسطينية واللبنانية تناضل نيابة عن كل العرب والمسلمين ليس ضد إسرائيل وحدها، وإنّما ضد جميع تلك القوى المتجبرة الجائرة…(2)”. من خلال هذا المكان
1_ بنسالم حميش، معذبتي، ص266.
كما ورد “…وقد هللت الصحف التركية لقرب التوصل لاتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل، لاسيما بعدما قام رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك ايهودا أولمرت بزيارة تركيا قبل أسبوع من عملية “الرصاص المصبوب”… كانت الصدمة من قيام حكومة اولمرت بشن هجوم على قطاع غزة، بما أظهر تركيا في موقع المتواطىء مع السياسات الإسرائيلية…”.
سعيد عكاشة محمد عبد القادر، العلاقات التركية_ الإسرائيلية من التحالف إلى الصدام؟، الأهرام، 1يوليو، 2010.
2_ م.ن، ص142.
“…احتلت أزمة الشرق الأوسط مكاناً بارزاً في قائمة المنازعات التي عرضت على هيئة الأمم المتحدة منذ عام 1947 حتى الآن، وقد حاولت المنظمة الدولية أن تلعب دورا في حل تلك الأزمة التي تعدّ بؤرة للتوتر مما يشكّل تهديدا للأمن والسلم الدوليين وقد بدأ هذا الدور بقرار الجمعية العامة الشهير رقم181 الصادر نوفمبر 1947 والذي نصّ على تقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية… ثمّ انتقل دور الأمم المتحدة في أزمة الشرق الأوسط إلى الساحة اللبنانية مع تصاعد التهديد الإسرائيلي للبنان…”.
د.هالة مصطفى، لبنان وفلسطين والحرب السادسة، الغزو الإسرائيلي للبنان في الأمم المتحدة، الأهرام، أكتوبر، 1982.
وصدر عن الجمعية الفلسطينية لحقوق الإنسان: “هل نسي العالم المجازر التي ترتكب يوميا في فلسطين…؟؟!وهل تجاهل المجتمع الدولي الشبكة الجاسوسية التي كانت تضع العبوات والمتفجرات وتقتل الأبرياء في لبنان وهدفها خلق الفتنةالداخلية بين الشعب اللبناني…”.
الجمعية الفلسطينية لحقوق الإنسان، قسم الإعلام، 13 تموز 2006.
الحاضن للزمان نعي كيف كانت إسرائيل وأمريكا وكل من يدعم سياستهما، أقصد الدول الغربية تسعى لتقويض فرصة تحقيق أي تقدّم للمقاومة على أرض لبنان، وفلسطين. ولعلّ من غايات الرواية الدعوة إلى رفع الغبن عن حق كل فلسطيني ولبناني، والتحريض من أجل تأسيس عيش أفضل يحول دون الوقوع في شرك العدو الغاصب. يبدو أنّ ما ورد يكشف احتيال المصالح الأميركية_ الإسرائيلية، المستعدة دائما لتقويض إمكانيات التيار المعادي لها، لذلك تسعى لتحقيق هيمنة أحادية، تبشّر من خلالها بسياسة قمعية، لها أياديها المتخفية، والسرية، والقوية التأثير في العالم العربي. يحول العدو دون تميّز العربي، أو دون منحه أي دور يعبّر من خلاله عن آماله التي يمكن أن تميل به إلى بر الأمان. إذاً، الهدف الأساس لدى العدو إحداث خلخلة توازن لدى العربي، لا سيّما المسلم، علّه بذلك يفقد المناعة، فيصل إلى مرحلة يستحيل معها تحليل المسائل، بغية إعادة بنائها على أساس منطقي. هدف الإسرائيلي ليس تدمير الدماغ الذكي فقط، إنّما الاستهزاء من كلّ ناشط عربي يفكّر في بناء إنسانيته، أو فهمها.
ولعلّ غاية الأديب ليس توضيح الواقع العربي المرير في ظلّ ظلم أميركا فقط، إنّما قد تكون دعوته ملحة للقضاء على سياسة الغرب المعادية. وقد يحملنا زمن الرواية من تجربة حمودة الخاصة إلى تجارب عربية عامة، فالعدو هدفه أبداً هزم أي رؤية عربية غير متلازمة مع قيوده، أو مطيعة لأوامره، أو متوافقة مع تطلعاته وداعمة له.و يبدو أنّ ما ورد هو سبب عزلة حمودة حتى بعد خروجه من السجن. هل هذا يعني أنّ ارتداء قبعة الإخفاء هي الحل لدى العربي لمواجهة أي طغيان؟ يمكن أن يكون هذا هو المقصودّ، فقلق حمودة جعله يرتدي أوجها مغايرة لحقيقته(1).
ويمكن أن تتبدى وظائف المكان بين الزمان وثقافة الأديب من خلال حديث يجريه الشيخ حماد الوقور مع حمّودة، الذي ينقل له نعيين. يقول: “أمك يرحمها الله ماتت في فيضانات أحدثتها أمطار طوفانية مفاجئة… أمّا النعي الثاني فيخص ابن خالتك الحسين المصمودي الذي جاهد في أفغانستان والعراق، ثمّ عاد منذ سنتين إلى جبال الأوراس حيث انخرط في جماعات قتالية حتى اغتيل في منطقة قريبة من بومرداس(2)”. يبدو أنّ النص يتناول أحداثا يعود زمنها إلى ما بعد 11 أيلول 2001 ، إذ أنّ احتلال أفغانستان كان في 7 أكتوبر 2001 من قبل الجيش الأميركي بغية القضاء على أسامة بن لادن، وجميع المنظمات الإرهابية. وقد كان الغزو الأميركي للعراق، أو حرب الخليج الثالثة في 20 مارس 2003، وقد ساندت
1_بنسالم حميش، معذبتي، ص11-12.
2_ م.ن، ص14.
بعض الدول الولايات المتحدة في هذا الغزو. و كان هدف المشروع الأميركي السيطرة على العالم، وإعادة بنائه مجدداً(1). يتناول النص أحداثا يعود زمنها إلى زمن سابق قريب ما زالت خطوطه واضحة، لأنّ وقائعه غير مستجدة. فالمعارك المعلنة، والمخفية بين العرب من جهة أولى، وأميركا وحلفائها من جهة ثانية لا تهدأ، ولا تلين. ولعل هذا يبدي مدى اجتراع المثقف العربي لهموم بلاده، التي يراها ممزقة الأوصال، وهو يقف أمامها مكتوف اليدين، ومشلول القدمين. يقول خالد حسين: “يفصح المكان عن عقلية الهيئة الاجتماعية وطرائق تفكيرها. ومن خلالها يمكن أيضا الغوص في طبقات المجتمع، ورصد وعيها الطبقي(2)”.
خاتمة المكان:
في أثناء دراستي بناء المكان في رواية “معذبتي” عالجت الأمكنة بما فيها من تقاطبات، أو تراتبية، إضافة إلى الحدود واجتيازها، والقواقع، كذلك الأمكنة المتخيّلة والحقيقية، وهذا قد ساعد على فهم المعاناة التي يمكن أن يصير إليها الإنسان في العالم العربي، سواء داخل السجن، أو خارجه. فهو داخله سيعيش هواجس الموت ، وقلق المجهول، كذلك إثر خروجه منه(3). هكذا ينشىء التقاطب وهم الحرية لدى الفرد في المكانين المتضادين. ونقرأ التقاطب بين داخل السجن وخارجه في رواية “القوقعة” لمصطفى خليفة. يقول: “سأخرج من السجن وأشرب كميات هائلة من الماء والعرق والنبيذ والويسكي، شتى المشروبات الباردة والساخنة… لكن لن أستطيع التخلّص من الإحساس بأنّ مخاط ذلك الشرطي ملتصق
1_ محمود المراغي، سفر الموت: من أفغانستان إلى العراق، القاهرة، دار الشروق، ط1، 2003.
2_ خالد حسين حسين، شعرية المكان، ص108.
3_ يتحدّث الكاتب السوري نذير جعفر في روايته “أساور الورد”، عن سجناء الرأي، وفيها يتناول مآل الأحلام المرتجفة الحبيسة، الحبلى بجنون الاشتياق إلى الحرية، والتوق إلى نغمات الحياة الطبيعية… . يتتبع الكاتب مصير مجموعة من سجناء الرأي بعد خروجهم إلى تحديات الحياة، ليلتقط النبض الثقافي العام في المجتمع السوري، أثناء غزو العراق للكويت. وأرسى خيوطها السردية ساعة انعتاق فاضل السرحان “آخر الحالمين”، مع قراره المتهور بأن يلقي السلام على أول امرأة يصادفها في الشارع بدلا من ذلك يجد نفسه مضطرا لأن يعاين ذكرياته في مدينة دمشق، ابتداء بمكان السجن حيث استهلكت سنوات الشباب… يجد سجن الإرادة أقسى من سجن البدن”.
جينا سلطان، كتاب “أساور الورد” لنذير جعفر ما تبقى من الأحلام المرتجفة، جريدة التهار، الاثنين 13 حزيران 2011، ع 24417.
بمعدتي.. ببلعومي.. وهو يأبى الخروج(1)”.
ويتقوقع حمودة خارج السجن في مكتبته، ومسكنه حيث يمكن أن تتحقق له الحماية من أسئلة الآخرين، ونظراتهم المستغربة وجوده بينهم. نجده يتقوقع خارج السجن، ولا يحرّك وعيه إلا في كيفية حمّاية نفسه، بدلا من الاندفاع نحو فك أراء أُسَر مقبوض على تطلّعاتها. وكيف للعربي_المسلم أن يحقق حضوره، والحدود القائمة بينه وبين توجهاته ليست من فعل إرادته، إنّما فرضها العدو الغاصب، لذلك لا يعود طموح المظلوم سوى إزاحة الحدود واجتيازها، بغية البقاء على قيد الحياة، ورفع الغبن اللاحق به، لا تنوير المجتمعات أو الثورة على المتعنت، علّ الثائر يمكنه أن يشق طريقه نحو الحرية(2).
وأبرزت تراتبية الأمكنة ضمن السجن إمكانية زيادة العذاب على السجين أو تقليصه. وأظهر المكان المسرحي الحياة المؤلمة التي يعيشها السجين وراء القضبان. والمكان المسرحي قد يبرز ظلم السجان ومظلوميته أيضا، كما حصل مع نعيمة التي تسلّم حمودة رسالة تبلغه فيها ضرورة الحرص والتكتم على هويته كي لا يتم القضاء عليه، وهي إذ تفعل ذلك تكون قلقة على روحها من المتحكّم بأمور السجن، والمتعاملة هي معه، والخاضعة لأمرته، والمنصاعة لآرائه. هكذا يكشف لنا المكان المسرحي(3) كيف أنّ المتسلّط العميل، والمسجونين ينالان الحظوة نفسها لدى العدو في حال عدم مراعاة مصلحته.
1_ مصطفى خليفة، القوقعةيوميات متلصص، بيروت، دار الآداب، ط1، 2008، ص102.
ونقرأ مثل هذه الآلام في رواية أحمد المرزوقي “تزممارت: الزنزانة رقم10″، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2012.
ويرد التقاطب في رواية “العلامة” لبنسالم: رخاء السودان في مقابل تدهور أحوال المغرب”. هذا يظهر أحوال المناطق العربية منذ أمد بعيد، كأنّه لا يمكن أن يتحقق نهوض بلد ، إلا إذا دُمِر بلد.
بنسالم حمّيش، العلّامة، ص65.
2_ وترد مثل هذه القوقعة في إحدى روايات بنسالم حميش السابقة “العلامة” على لسان عبد الرحمن ابن خلدون، ويكون اختيار العزلة إراديا، إذ يراد من ورائه تحصيل العلم. يقول: “اعتزلت في مكتبي، أخذت أحدّد الأسبقيات في قراءتي وأرتّب الأمور في ذهني، عسى أن أتابع تحرير الفصل في المماليك من كتاب العبر، وكذلك سيرتي الموسومة التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا”.
م.ن، ص158.
3_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص9و 130 و131 و148.
أما بالنسبة لعلاقة المكان بالزمان بالرؤيا بالشخصية، فقد بين لنا السجن، وخارجه (واد زم، ووجدة…) (1) أنّ رؤية المرء تخضع لثقافة مكانه وزمانه. كما يحفر المكان والزمان واقعه سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية، هذا فضلا عن مواصفاته الخَلقية والخُلُقية(2).
ويبقى أن نتناول أبرز ما ورد في وظائف المكان بين الزمان وثقافة الأديب لنعي أنّ الحاضر يتخفى لمصلحة الماضي، المثبّت لفكرة انهزام المثقف العربي في جميع الأزمنة، والأمكنة. إذ عليه أن يكون مؤيدا لفكر معاد، وإلا سيهزُّ حضوره، وسيشقّ إلى نصفين، هما: النصف الأوّل يؤرقه الماضي، والحاضر والمستقبل، فيحرضه على التحرر من قيوده، وعدم الإذعان للإرهاب. أمّا النصف الثاني، فيرجوه، ويتملّقه ليهادن ويصمت؛ فيعيش أرقا مضاعفا، يدفعه للمنازعة حتى آخر رمق يبقيه، ويبقي أسرته على قيد الحياة. ونفهم من وظائف المكان بين الزمان وثقافة الأديب أنّ رحلة المفكّر العربي غالبا، هي رحلة موت، لأنّ الفرد فيها غير قادر على رفع صوته من أجل العطاء المجدي لأمته نفعا. ومثل هذا الكلام نقرأه لدى بنسالم في روايته “العلامة”، وذلك عندما يتحدّث عن السجن الذي يحوي المفكّرين. يقول: “لسان الدين الذي قضى نحبه مغتالا في زنزانة سجنه على يد أمير عملاء أمير غرناطة محمد الخامس… لسان الدين ابن الخطيب، العالم الأجل والأديب الأبرز والشاعر الأرق: حياته موضوع مقايضة سافرة فظيعة! …أفلا أخاف على نفسي، بعد هذا كلّه، من فخاخ الحبس المريع وأيادي الفتك الذريع(3)”.
ويفضي بنا الفضاء الروائي والفضاء الراهن إلى مسألة مفادها أنّ أمكنة الرواية ما زالت قائمة، وهذا ما يوحي بواقعيتها، ثمّ إنّ بعض أحداث زمنها ما زالت ممتدة إلى يومنا هذا؛ فعمليات إسرائيل على غزة والأراضي الفلسطينية ما زالت مستمرة، كما أنّ تهديدها للأراضي اللبنانية ما زال قائما. ولا شك أنّ هذا يؤكّد على ضرورة
1_ بنسالم حميش، معذبتي، ص58 و60 و61.
2_ م.ن ، ص232. يتحدّث حمودة عن والده المليء وجهه بالتجاعيد “أرى أبي الذي تعكس تجاعيد محياه المتكثرة هباء الجهد والكد، وهموم الفصول العجاف…”.
م.ن، ص54.
3_ بنسالم حميش، العلامة، ص94.
توحّد العرب، ورص الصفوف لبناء عالم مشرق(1).
وأبرز ما تجلى في رواية “معذبتي” هو أسلوبها الجديد المغاير لما ورد في روايات بنسالم السابقة والتي اتسمت بتناولها شخصيات حقيقية، لذلك اتصفت بأنها روايات تاريخية كرواية “مجنون الحكم”، و”العلامة”، و”هذا الأندلسي”(2).
1_بنسالم حميش، هذا الأندلسي، دار الآداب، بيروت، ط2، 2011، ص26.
يبدو أنّ مثل هذا الكلام قد ورد في رواية بنسالم “هذا الأندلسي”. يقول: “… حزن على أندلس تضيع من أهاليها المسلمين جزءاً جزءاً”. ويقول: “كان ما تبقى للأندلسيين من بلادهم يضمر ويتناقص بين عهد وعهد. والغالب على وجهائهم وساستهم هو التدرّج نحو تيهاء التصدّع والدرك الأسفل…. “.
2_م.ن، ص13.
يقول بنسالم في روايته “العلامة”: “العهد في المغرب كان ولا يزال مشحونا بسنن التآمر والقتل… نفسي…بميلها إلى استهواء السلطة… في المناصب الرفيعة، التي رأيت من هم دوني معرفة وكفاءة يبلغونها بالتسلّط والزلفى وإحسان فنون الدسائس والسعايات”.
بنسالم حميش، العلامة، ص46.
ونقرأ في رواية “هذا الأندلسي” عن الأمكنة، وما فيها من ظلم. يقول: “الحرب الأهلية بين المسلمين، حفظكم الله منها، لا تحتاج إلى من يسعر لظاها. أحلاف النصارى لهم اليد الطولى في قتل هذا الملك وتنصيب آخر،ثمّ انّ سنة التناحر بين ملوكنا قائمة سارية، ترونهم يسترخصون الموت في سبيل التعلّق بعروشهم واللزوق بها”.
بنسالم حميش، م.س، ص76.
_ يرد عن ابن خلدون في رواية “هذا الأندلسي”: كان صوت العلم كثيرا ما يصيح فيه، طالبا فرض التفرّغ والخلوة وتمديدها”.
بنسالم حميش، هذا الأندلسي، ص9.
ويرد عنه في موضع آخر: “الإحساس بالقراءة وكأنّها قارب ميمون يحقّق له الإبحار نحو أعز ما يطلب: التفرّغ للعلم والانقطاع إليه”.
م.ن، ص16.
“ويشتغل أحمد توفيق على العصر الوسيط المغربي من حيث التخييل وفي إطار صوفي، بينما بنسالم حميش اختار نفس السياق التناصي التاريخي، ولكنّه اشتغل على شخصية تاريخية متخيّلة ألا وهي ابن خلدون، وهي شخصية مغاربية في روايته (العلامة)، أما في روايته (مجنون الحكم) فقد اشتغل على شخصية تاريخية وسيطية ألا وهي شخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي… ويتفق تناصيا كل من أحمد توفيق وبنسالم حمّيش… في الانطلاق من السياق المرجعي التاريخي الذي يشكّل الخلفية التناصية لهما ألا وهو تاريخ الدولة المرينية بكلّ أحداثها الإيجابية والسلبية”.
د.جميل حمداوي، جارات أبي موسى، المغرب، مجلة أفق الثقافية، الحد 13 أغسطس 2006.
ونعي من خلال نص “معذبتي” كيف يتمكن العدو من تعجيز العربي عامة، والمسلم خاصة، وذلك من خلال ابتداعه خطط تمكّنه من تحطيم تفكيره، والمتاجرة بأحاسيسه، وهذا ما يجعل الهزيمة مستوطنة في ذاكرة العربي، فيعيش هاجس رفع الخطر عنه، ورد اتهامات لم يرتكبها. يسعى الغربي إلى قتل كل فرصة قد تحقق لمعاديه التقدّم، ويجبره على الرضوخ والإذعان. ويغذي حضوره في المجتمع العربي من خلال أشخاص فاعلين لديهم يدعمون آراءهم(1). وهنا نسأل هل الأميركي يسعى لتقويض المسلم لأنّه يخشى امتداده على حساب قوته؟ يجيب نص “معذبتي” على هذا السؤال، لأنّه يبيّن طريقة استفزاز الأميركي، ومؤيديه للمواطن العربي المسلم، وكيفية تعذيبه، بغية استدراجه. ينتظر العدو من المسلم أي هفوة كي يفاجئه، فيقنعه بأنّ عليه تغيير طريقته في التعاطي، وقد نجد العدو في أحيان كثيرة لا يحتاج إلى حجة ليشهر غضبه، وهو المعلن دائما، وأبداً رغبته في إصلاح الآخر الذي بحسبه غير متحضّر.
أيمثّل حمودة حضوره في الرواية، حضور شخصيات كثيرة في الواقع العربي، يراد منها قصر عطائها لصالح طرف آخر معاد لديه مآربه، وأطماعه؟ وهل يخشى الغربي من المتديّن ، لأنّه يعدّه من الجهات المتطرفة؟ يبدو أنّ الأميركي يخاف أن يسيطر المسلم المؤمن بشكل أو بآخر على مصادر الأمة، لا سيما الفكرية، لذلك يستخدم لغة الاستعلاء والعنف، ليشعر الأخير بالذل والمهانة، فيرضى بكلّ مستقبح، وينفذ كل ما يطلب منه. إذاً خطوة النجاح الأولى بالنسبة للعدو هي الرضوخ، وتتلوها خطوات أخرى مؤيدة لأول خطوة، وتتراكم الخطوات التي تؤدي إلى تفسخ البشري في المجتمع العربي، والعالم أجمع(2). يبدو السجين في رواية “معذبتي” ممثلا لجزء كبير من مفكري العالم الإسلامي، الذين يمارس عليهم أسلوب الاستبعاد، والتعنيف، والاستقصاء، لأنّه يخالف المعتدي في نظرته الأيديولوجية، أو
1_ مثل شخصية نعيمة في رواية “معذبتي” التي نحن بصدد دراستها.
2_ يرد في رواية “العلاّمة”: “سكتّ، لا لأنّ كلام الرجل أخرسني، بل لأنّي قدّرت مخاطر الردّ عليه، كإصدار الأمر بحبسي أو بنفيي، ولِمَ لا بقتلي”.
بنسالم حميش، العلامة، ص174.
يرفض فساده(1). يبني المعادي قوته من ضعف العربي، في حين إعلانه خلع عباءة القهر، والذل عن الحضارة الشرقية، وهم في الحقيقة أي الأعداء يرفضون أي تعددية ذهنية أوعقائدية، وتحرّكهم في ذلك نواياهم الخبيثة المنتقمة. يسعى نص “معذّبتي” وغيره من النصوص الروائية الكثيرة لإيقاظ الوعي العربي من غفوته(2).
ويبقى أن نقول أنّ رواية ” معذبتي” عميقة جداً، وتحتاج إلى كثير جهد لإدراك محتواها، وفهم مراميها. وآمل أن أكون قد كشفت النقاب عن بعض المسائل في دراستي المتواضعة هذه، وأتمنى أن يتابع باحثون آخرون مهمة رفع الغطاء عن قضايا لم أتناولها، فيفيد بذلك النقد.
1_ “فأدركت أنّي لا محالة هالك من جهة ولايتي نظارة خانقاه بيبرس، ذلك لأنّ الرجل ظلّ يحقد عليّ بسبب معاكستي لفساد طلباته في القضاء أيّام اضطلاعي بهذه الخطّة… حين عدت إلى بيتي، أخذت أعانق زوجتي وأقبّل ابنتي بشغف كبير، كانّي نجوت من خطر موت داهم، وأفلتّ من يد عزرائيل”.
م.ن، ص181.
يقول الطاهر بن جلّون: “سوف نحتكّم إلى الله ورحمته، فإنّا لله
وإنّا إليه راجعون”. لم يكن لدي أدنى شك حول هذه المسالة. إذ لم أكن ملكاً لا للملك… ولا للحرس المدججين بالسلاح. لست لغير الله. هو وحده من ستلاقيه روحي فيقاضيها… ازداد إيماني بالله العلي، العظيم… “.
الطاهر بن جلون، تلك العتمة الباهرة، ، بيروت، دار الساقي، ترجمة بسام حجار، ط1، 2002، ص48.
2_يقول الطاهر بن جلّون: “كانت أيدينا مكبّلة وراء ظهورنا، مكدّسين في الشاحنات إلى جانب الموتى والجرحى. كان رأسي عالقا بين جنديين قتيلين… الجنديان القتيلان أرخيا لحظة الوفاة بولهما وبرازهما. ولكن أما زال لمن هو مثلي الحقّ في التقزّز؟”.
الطاهر بن جلّون، تلك العتمة الباهرة، ص13.
د. لميس حيدر:
_ دكتوراه في اللغة العربية وآدابها؛ عنوان الأطروحة: تشكّل العالم الرّوائي عند حسن داوود حتى العام 2000
_ دبلوم دراسات عليا؛ عنوان الرسالة: تحقيق (تعليقة لطيفة) للشرف الأيوبي الأنصاري
_ أستاذة في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية
_ كتبت عدداً من القصص القصيرة والأبحاث الأدبية.
_ صدر لها رواية “ناي لعصفور الجنة”، ومجموعة قصائد شعرية.