د. لميس حيدر *
مجلة المنافذ الثقافية، بيروت، دار العودة، العددان الخامس والسادس، شتاء2014.
بناء الزمان الروائي، آلية السرد
مدخل:
يعيش المرء زمنا متسلسلاً، تتوالى أحداثه على مدى الثواني والدقائق والساعات والأيام والأشهر والسنين، يبدأ الإنسان زمنه منذ الولادة، وينتهي عند الموت في هذه الحياة. وفي أثناء عمر الإنسان القصير، أو المديد تروح ذاكرته تسترجع أحداثا قديمة، فتُرت المشاعر حيالها، أو اضمحلت. وقد يسترد تفاصيل حديثة ما زال أوارها متقدا في القلب. وتجعله بعض الوقائع التي يعيشها يستشرف أحداثا، فينتظر تحقق توقعاته، أو انعدام حصولها(1). وبما أنّ الرواية تربط مضامينها بحياة الناس، وما فيها من تشعب أحداث، فقد يلجأ الراوي في أثناء سرده إلى نقل الحاضر كذلك الاستشراف والاسترجاع. وقد يفكر الراوي في تقديم أحداث متعددة حصلت في نفس الوقت، وحينها سيضطر إلى إدراج حدث قبل الآخر(2). إذاً، ما ورد يفضي بنا إلى مسألة مفادها: أنّ الزمن يمكن أن يقسّم إلى ثلاث مراحل:
1_ زمن السرد المتخيّل في النص، حيث تقدّم الأحداث المؤلّفة في النص من خلال رؤية الكاتب، أو وجهة نظره.
2_ زمن مرجعي، حيث تحصل الوقائع، وتكون الأحداث موضوعية حقيقية.
3_ زمن نفسي يعكس الزمن الفعلي، أو حقائق العيش الفعلية، غير أنّ تقديمها يتم حسب رغبة المشاعر، فيتم التركيز على أحداث دون سواها.
إذاٍ، يبتعد الذهن عن مرجعيته الفعلية في أثناء الكتابة، بقدر تواصله معها، فيجسد الأحداث في الرواية، ويرتبها وفق الطريقة التي يريدها ، التي قد تتلاءم مع الحقائق الخارجية، أو قد تفارقها(3).
أمّا بالنسبة للزمن، ومضامينه النفسية في رواية “معذبتي”، فهو يعبر عن مشاعر الشخصيات المشاركة في القص عامة، وحمّودة خاصة. وبما أنّ الزمن النفسي مهيمن في الرواية، وهو زمن مرتبط بالعذاب، لأنّ أبطاله غالبيتهم مسلوبو الطموح، خصوصا حمّودة، الذي عانى في أثناء إقامته في السجن، وفي الخارج، فسنخصص له جزءا يسيرا من حيز الكلام. يقلق حمودة المحاصر على مصيره، فيقول عن معاناته في السجن:
1_Gerard Genette ,Figures III ,Paris, Seuil,1972,p105-114. 2_اتبع الروائيون الروائي الواقعي خطا مستقيما، متسلسل الأزمنة في بناء الرواية، يمكن أن يسمى مستوى القص الأوّل Niveau du Récit premier … ويمكن أن نجده في الرواية الواقعية.
Gerard Genette ,Figures III ,p90.
3_يقيم الشكلانيون الروس مقارنة بين المتن (نظام الأحداث الواقعي)، والمبنى (نظام السرد المتخيّل). يقول تودوروف عن نظام الأحداث: “فنظام الزمن الحاكي(زمن الخطاب) لا يمكن أبداً أن يكون موازياً تماماً لنظام الزمن المحكي(زمن التخيل)… فزمنية الخطاب أحادية البعد وزمنية التخيّل متعددة”.
تزفيطان تودوروف، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، المغرب ، دار توبقال للنشر، ط2، 1990، ص48.
إذاً ، ينتج “التشويه” الزمني، لأن تتابع الأحداث لم يعد يوافقه تتابع الخطابات.
م.ن، ص 50.
وسعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط 2، 1992،ص90.
“مشهد تلك الغولة التي سمعت عن قسوتها وبطشها من قبل… تتصبب عرقا، منهمكة في تعذيب رجل معلّق من قدميه، وحشة عدوانية تتشدق بألفاظ بذيئة في وجهه… تطعمها ببصقات مخاطية(1) لحظات كالرصاص فرضت عليّ ترقبا مشحوناً بالذعر والقلق، سيما وأنّ أصداء توجعات معذبين وصرخاتهم…، كانت من غرف مجاورة تخرق أذني وآذان كلّ المنتظرين مثلي(2)”. يبدو زمن الرواية هذا هو زمن نفسي، لأنّه يصوّر لحظات الألم في السجن، وتفاصيل قتل الوقت، المدمّر لإمكانيات معرفية وجسدية. يقول حمّودة في موضع آخر: “تمددت على لحافي أداري جروحي وندوبي… أغرق النظر في ما حلّ بي وفي احتمالات مآلي(3)”. يوضح ما ورد كيف أنّ الخوف يلازم كل خطوة يخطوها المرء، كما يبرهن عمق مأساة المسلم خصوصا، والعربي عموما. فالدمار النفسي، والذي هو هدف أساسي لدى المعتدي، سيؤدي، إلى هلاك كلّ إيمان بأدنى عطاء، لذلك سيعيش داخل الموت، وإن كان من بين الأحياء. ويقول في موضع آخر: “شهادتي لو رويت بعضها شفاهة لقهقه السامعون في وجهي، وظنوا جازمين أنّي مصاب بالهذيان والرهاب ويتخبطني المس والجنون. فحوص طبية تستعجلني، لكنّي أؤجلها كي أُعرض عن معرفة ما قد تأتيني به من أخبار مهولة تحبطني وتعيق تحرير فصولي(4)”. تنعكس النظرة التشاؤمية على كل عمل يقوم به حمّودة، فيخشى الإحباط المدمّر لقواه الذهنية، بعدما انعدمت قوته التي كان عليها قبل دخوله السجن. وهذه الخشية النفسية ستجعله متورطا في خوفه لرهبته من أي شيء جديد.
ويمكّن أن نوزع زمن خارج السجن على أربعة مراحل، ألا وهي: مرحلة أولى، هي فترة إقامته مع أمّه وأبيه يقول: “أراني بوجه تشي قسماته بحزن مقيم… نجلس حول مائدة خبز وسمن وشاي من إعداد أم صبورة رؤوم… ماء البئر جف ونضب… كم كنت أرفس الأرض من تحتي أقذف تربتها وحجيراتها برجلي، كأنّي أصارع الجفاف المستبد أو أقلّب تضاعيف الحال وأستنطق المآل، بحثا عن مخرج لغمتي
1_ ويبدو أنّ ما ورد لا تقل صعوبته عما يذكره مصطفى خليفة في روايته “القوقعة” عن الشرطي الذي يأمر السجين لأن يرفع رأسه ويفتح فمه. يقول: “فتحت فمي… تنخم بقوة، تنخم ثلاث مرات، ودون أن أستطيع رؤيته أحسست أنّ فمه قد امتلأ بالمخاط المستحلب… شعرت برأسه يقترب مني و… بصق كل ما يحتويه فمه إلى… داخل فمي. برد فعل غريزي حاول فمي التخلص من محتوياته… لكنه كان أسرع مني… أغلق فمي بيد… انقطع تنفسي لثانيتين أو ثلاث كانت كافية لأن أبتلع مخاطه وبصاقه كي أتنفس”.
مصطفى خليفة، القوقعة، ص102.
2_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص96.
ويقول حمودة أيضا: “مبرمج لاجتياز محن وامتحانات، عناوينها التعذيب وسوء المعاملة وغسل الدماغ، حتى إذا ما تفوقت فيها بالجلد والصبر على المكاره ، رشحت لإحدى الوظائف القذرة المطلوبة من وكالات استخباراتية مهيمنة وازنة منها وظيفة العميل…”.
م.ن، ص133.
3_ م.ن ، ص94.
4__ م.ن، ص15.
وقنوطي(1)”.
أمّا المرحلة الثانية، فهي تجمعه مع أمّه وزوجها بعد وفاة أبيه الذي يموت وهو يعمل في الأرض، وما يؤلمه أكثر هو قتل زوج أمّه، واتهامه أنّه القاتل. يقول: “شعور بالبؤس والعجز ملحاح، برز عندي منذ أربع سنوات بُعَيد سقوط أبي ميتا، تزوج أمي هذا الفلاح وأسكنها في بيته الحقير… فكان أن أقبل الزوج الجديد على فصلي عن الدرس، … ودأب على إرهاقي بالعمل الشاق… محيط كلّه ضنك وشؤم(2)”.
ويخرج في المرحلة النفسية الزمنية الثالثة من السجن(3)، وتكاد تقسم هذه المرحلة إلى قسمين، هما:
1_ يبحث فيه حمّودة عن أمّه ، وبعض بقايا الماضي القديم السابق لزمن الدخول إلى السجن.
2_ يكتب في هذا الزمن آلام السجن التي يستحضرها. يقول: “أدوّن معاناتي في معتقل همجي رهيب، دامت ست سنوات ويزيد(4)”. يتبدى لنا هنا بأنّ زمن خارج السجن سيكون مرآة لزمن السجن المؤلم، وستعكس لنا تلك المرآة لوعة الأيام، وكيفية الصبر على النوائب.
يسيطر الزمان بمراحله الثلاث على الشخصية، التي تبدو خاضعة لمحاصرته، فهي مثلا في زمن السجن تعيش حالة تأزم شديد كما هي الحياة خارج القضبان، إذ هي تفكر دائما في أي طارىء قد ينقلها من دائرة سيئة إلى أخرى أكثر سوءا أو أقل ضررا، الأمر الذي يجعلها تعاني الضغط المذهل المقلق.
وتبقى المرحلة الرابعة، المتناولة لحظات الانتعاش المنطلقة الأحاسيس، وذلك عندما يرافق حمّودة زوجته زينب المرحة والممتعة. يقول: ” ها أنذا وجها لوجه مع زينب وقد صارت حرمي. في صحبتها سأعيد تعلّم أبجدية الحياة، وأعلمها عما قريب القراءة والكتابة حتى تأخذ ذات يوم كتابي_الشهادة بقوة وتفهم ما فيه… الدموع المنهمرة على خدي قرينتي دموع فرح باكتشاف سحر الزواج الحلال(5)”. تغدو أشياء العالم حلوة، لأنها لم تعد مطاردة لعالم حمودة. تخترق المشاعر المكان، ويبيت الموقع أليفا. يغاير زمن نفسي جديد زمنا آخر سلف، يتصف برداءته. ونشعر هنا أنّ حركة الزمن هي سريعة، لأنّها مرنة، ومسايرة لأمنيات النفس، في حين أنّ لحظات السجن كانت ضارية لقسوتها.
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي ، ص55.
يتحدّث الطاهر عن زمنه الماضي المريح، المغاير لماضي حمّودة. يقول: “في عهد الطيش، كنت أغالي في تقدير نفسي. كنت أحرق المراحل. يومها، لم تكن إلي سوى بداهة جميلة، وكذلك الأمر، السعادة”.
الطاهر بن جلّون، تلك العتمة الباهرة، ص184.
2__ بنسالم حمّيش، م.ن، ص57
3_ يرحل من السجن، ويحقن بالمخدر، فيستيقظ في ظلّ نخلة، وهو يحمل كيسا فيه أكل وزجاجة ماء، وهو في أرضه. يقول: “أقبل جمّال وسألني بعامية المغرب الفصيحة إن كنت أحتاج عوناً. شكرته واستفسرته عن اليوم الذي نحن فيه، قال الأربعاء ربيع الثاني 1425 الموافق 17 ماي 2006. همهمت : إذن حبسي ناهز خمس سنين”.
م.ن ، ص277.
4_م.ن ، ص15.
5_ م.ن ، ص287.
وسندرس كيفية ورود الأزمنة في الرواية من خلال ما توصل إليه الناقد جيرار جينيت، وقد استعنت بما توصل إليه هذا الباحث جينيت في أثناء دراستي بناء الزمان لتحصيل شهادة الدكتوراه، والتي موضوعها: “تشكّل العالم الروائي عند حسن داوود حتى العام 2000”. والعلاقات التي سنرتكز على أسسها في دراستي هذه، هي:
1_علاقات الترتيب (Ordre).
2_علاقات الديمومة (Durée).
3_علاقات التواتر (Fréquence).
1_علاقات الترتيب:
لا يقدّم الراوي الأحداث متسلسلة كما أشرنا، وقد تحدّث جيرار جينيت عن الفارق القائم بين زمن السرد، وزمن القصة(Temps du récit et temps de l’histoire )(1)، وهذا ما حدا ببعض النقاد الروائيين البنائيين الى القول بأنّ انعدام تطابق زمن السرد مع زمن القصة هو المولّد ل”مفارقات سردية”(Anachronies narratives)(2). من خلال ما ورد، نرى بأنّ ما توصل إليه جيرار جينيت السبيل الأمثل لدراسة علاقات الترتيب في رواية “معذبتي”، وذلك من خلال ما يأتي:
1″_الاسترجاع:
هي تقنية من خلالها يسترجع الراوي أحداثا مضت، وانتهى زمنها. وقد يطول السرد عن أحداث مرت أو يقصر، وذلك يعود إلى الراوي، الذي قد يرى أنّها قد تكون مهمة، وستخدم القص من ناحية إثرائه، أو الدلالة التي يحملها.
2″- الاستباق(Proplese):
يعني استشراف أحداث لم تحصل بعد لكن يتوقع حصولها، وهذا قد يؤدي إلى تشويق القارىء. يؤدي الاستشراف إلى ترك الأحداث الحاصلة، لتخمين ما لم يحصل بعد.
3″- التضمين (l’enchassement):
يعني “إيراد حدث، أو أحداث، من خارج أحداث الرواية لأداء وظيفة ما…(3)”. و”استخدام الوثائق على اختلاف أنواعها(4)”، التي من شأنها دعم أحداث السرد، أو تقديم توضيح يغني سياق النص.
4″-_ المناجاة(soliloque):
قد ترفع الشخصية صوتها الضمني، لتحدّث نفسها عن أخبار مفرحة، أو محزنة، أو…، غير أنه في أثناء المناجاة قد ينعدم تقدّم الأحداث في الرواية، التي من شأنها
1_G.Genette, figuresIII,p77.
2_Ibid, p79.
3و4_ د.عبد المجيد زراقط ، في بناء الرواية اللبنانية، بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، ج2، ص706.ولمزيد من المعلومات راجع: سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، ص 258.
أن تعود عندما تنهي الشخصية الكلام مع نفسها.
5″-_التناوب:
تتناوب الأحداث في الرواية، فينتقل السارد من حدث أوّل إلى حدث ثان، فإلى حدث ثالث، وهكذا دواليك. ويعود الراوي إلى الأحداث نفسها ليتناول ربما الحدث الرابع، فالثالث، فالثاني، فالأول .
وقد يكون التناوب ناتجا عن حصول الأحداث المتعددة في زمن واحد، غير أنّ الراوي يسردها بشكل متناوب.
6“-_تيار التداعي:
تتداعى أحياناً أفكار الشخصية، وتسترسل مشاعرها، فتتناول أحداثا، وهذا يسمى بالاستغراق الزمني.
7“-_ الحلم:
تعبر الأحلام عن هواجس الذات، والمكبوت، وهي نتيجة لما مر في حياة المرء. وقد تكون عبارة عن أمنيات خبيئة، قد يرفض المنطق حصولها في عالم الواقع، لذلك يدفنها سراً، فإذا بها تتحقق، أو تظهر في الحلم.
2-_علاقات الديمومة:
تؤدي إلى معرفة الفرق الناشىء بين زمنين، هما: زمن الحقيقة، وزمن السرد. يكاد
يستحيل قياس نسبة الزمن الروائي مع وقت القراءة له. وقد اقترح “جيرار جينيت” دراسة تمكّن القراءة من إدراك تباين الزمنين من خلال تقنيات أربعة، هي:
1″-_الخلاصة (Sommaire):
تعني اختصار أحداث استمر تفاعلها على مدى أيام أو أشهر أو سنين، غير أنّ ورودها في السرد يأتي مختصراً وقائعها، لذلك تكون مساحة السرد> سرعة الحدث(1).
2″-_الوقفة أو الاستراحة(Pause):
يتأمل الراوي محيطه، ويصف تفاصيله، وفي أثناء نقله هذا تتوقف الأحداث في
الرواية، وتبيت السرعة الزمنية، بما فيها من مجريات بمعدل صفر(2).
3″_ القطع(l’éllipse):
يتجاوز الراوي مدة زمنية، وقد يحدِّد هذا الزمن المتجاوز، أوقد يغفله، ويمكن
Gerard Genette ,Figures III ,p130. 1_
2_Ibid , p133.
للقارىء تقدير المدة التي تمّ تخطيها. وفي أثناء هذا الحذف الزمني، يهمل الراوي تفاصيل، يرى أنّ عدم ذكرها لا يضر السرد، بل يغنيه. وتكون مساحة النص في أثناء القطع صفراً، مقابل سرعة الحدث(1).
4″- المشهد(scène):
تتوافق فيه مساحة النص مع سرعة الحدث، لذلك قد يأتي المقطع الحواري مثلا متطابقا من الناحية الزمنية مع مرجعيته. وهنا تنقل لحظات وتفاصيل لقاءات الشخصيات المتحاورة، والمتحركة، والحالمة، فتغدو الوقائع كأنّها مشهد مسرحي أمام القارىء(2).
3-_ علاقات التواتر:
يسمى التواتر(la Fréquence) أو التكرار عند اللسانيين بالجهة. ومن خلاله نعود إلى الكلام الذي كرّر مرارا في النص. وسنستفيد من جيرار جينيت(3) في هذا المجال. وقد يكون التواتر انفرادياً(Singulatif)، أو تكرارياً (Répétitif)، أو تكرارياً متشابهاً (Itératif).
يقدّم التواتر الانفرادي حدثاً واحداً مرة واحدة دون سواها. أما التواتر التكراري، فهو عبارة عن خطابات متعددة متكررة، تتناول الحدث نفسه مراراً على لسان شخصية واحدة، أو عدة شخصيات. ويبقى التواتر النمطي، الذي فيه الخطاب الواحد يحكي مرة واحدة أحداثاً عديدة، لكن متشابهة.
1_الترتيب الزمني:
يغاير ترتيب الأحداث في الرواية خيطيتها الزمنية المرجعية، أقصد تسلسلها المتدرج الواقعي. يقول بوتور أنّه يستحيل أن نقدّم “تتابع الوقائع في تسلسل زمني معين. فنحن لا نعيش الزمن كأنّه استمرار إلاّ في بعض الأوقات… إنّ الكثير من الكتّاب اصبحوا يكتبون قصصهم كتلاً منفصلة متقابلة… ولا سبيل إلى الانكار أنّ في هذه الطريقة شيئاً من التقدّم،… تحدث العودة إلى الماضي بحسب هوى الكاتب(4).
ويمكن أن ندرك المفارقة القائمة بين الزمنين، الزمن السردي، والزمن الفعلي، من خلال ما يأتي:
يبدأ الراوي السرد من لحظة دخوله السجن، واستلامه رسالة من نعيمة تنبهه من خلالها أن السجان العدو، سيتربص له في كل لحظة، لذلك عليه أن يداهنه، كي يبقى
1__ Gerard Genette,Figures III, p139-140. 2_Ibid,p141-145.
,p145 . Ibid 3- ولمزيد من المعلومات راجع: تودوروف، الشعرية، ص49. وسعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، ص78. ومراد عبد الرحمن مبروك، بناء الزمن في الرواية المعاصرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص123.
4_ ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ص100.
على قيد الحياة(1). ثم لا يلبث أن يتحول لذكر أحداث الحاضر، يعود إلى رسالة نعيمة، التي خففت عنه أعباء السجن: “لولاها كنت سأقضي سنوات أخر(2)”، ويحمله الزمن الحاضر بدوره إلى زمن المستقبل، فيستشرف ما يمكن أن يعيشه من ظلم مستجد، نتيجة وجود من يخشاهم خارج السجن. يقول: “وإذا حدث أن استدرجني أذكاهم إلى الأخبار عن وقائعي، فهل أرويها تحت شعار الصدق والصفاء، أم بشتى أفانين الاختلاف والتمويه، والمخاتلة والتزوير؟(3)”.ويعود إلى الزمن الحاضر المتوجس من شرور الناس المتواجدين حوله ، ويبدأ بكتابة سيرة حياته. يقول: “تجنباً لأي سوء تواصل مع الناس والمصلين لزمت مثواي، أياماً، أقتات من زادي وأسوّد صفحات تلو أخرى عن سنوات اعتقالي(4)”. ويزور الشيخ حماد حمودة في مسكنه، ويعده أن يقدّم له يد المساعدة كي يكتب ما حصل معه في سجن “استمر ست سنوات ويزيد(5)”. هو سجن جعله مريضاً، لذلك يستشرف مفصحاً أنّ فحوصاً طبية تستعجله، ويتابع: “لكني أؤجلها كي أعرض عن معرفة ما قد تأتيني به من أخبار مهولة تحبطني وتعيق تحرير فصولي(6)”. ويستشرف مجدداً كيفية انتقاله إلى ضيعة يملكها الشيخ حماد جنوب وجدة في سهل أنكاد، حيث ستخدمه راعية الضيعة وابنتها(7). وعندما يصل إلى مسكنه الجديد، يستشرف قائلاً: “ما سأنسخه غيض من فيض، لا بد تشوبه نقط السهو والنسي واستحالة الإحاطة بكل شيء(8)”.
ويبدأ الاسترجاع ، فيتناول ما مر معه في مرحلة انتقاله إلى السجن، حيث يقال له: “أنت منذ الآن هويتك رقم زنزانتك(9)”. ويظلّ يستذكر زمناً بعيداً، يتحدّث من خلاله عن أيامه الأولى في السجن، فيتحدث عن قرف الطعام، والنوم، والخدمة… . وفي أثناء الاستذكار يستعيد مرحلة عاشها خارج المعتقل، روضت نفسه، وساعدته على تحدي الفراغ ودواره(10). ويستمر في ذكر أحداث حصلت معه في السجن في أثناء الاستذكار، ويقول إنّ استظهار آي من الذكر الحكيم (11)، يخفف عنه وحشة الأيام في الحبس، وهو الرجل المريض المتحسس من الرطوبة، والمعاني من ضيق التنفس والسعال(12). ويستمر نمو الأحداث تصاعديا في أثناء استرجاع حمودة ما حصل أمامه في السجن، حينما كان ينظر المحقق في ملفات المتهمين(13). ثمّ يتحدّث عن التحقيق الذي حصل معه، لاتهامه بقتل زوج أمّه(14).
1_بنسالم حمّيش، معذبتي، ص9.
2_ م.ن ، ص10.
3_ م.ن، ص10.
4_م.ن ، ص12.
5_م.ن، ص15.
6_م.ن، ص.ن.
7_م.ن، ص16.
8_ م.ن، ص16.
9_ م.ن ، ص 18.
10_ م.ن، ص23.
11_ م.ن، ص26.
12_ م.ن، ص29.
13_م.ن، ص32.
14_ م.ن، ص34و35 و42.
وتحمله أحداث السجن لاسترجاع زمان ومكان ولادته، حيث عاش مع والديه، ثمّ مع زوج أمه. بعدها يستذكر أربع سنوات قضاها في وجدة، حصل ” كمرشح حر على البكالوريا ثمّ في متمها على إجازة في الأدب وأخرى في الدراسات الإسلامية(1)”. ويستمر في الاسترجاع، استرجاع زمن إقامته في السجن. يقول: “وجبة الفطور في زنزانتي لبن يذكرك لونه ورائحته ببول البعير(2)”. ويسترجع المراحل الأخيرة من سجنه بعدما نُقِل إلى عنبر المستوصف كونه يبصق الدم، وبعدها تنصحهم نعيمة بإرجاعه إلى موطنه(3). ويسترجع أيضاً زمن تحوله إلى أرض الحرية، وذلك نهار الأربعاء ربيع الثاني 1425 الموافق 17 ماي 2006، بعد حبس “ناهز خمس سنين(4)”. ويوصي حمدان المزاتي الرجل الصالح بحمودة، وذلك في أنكاد قريباً من وجدة، ويتزوج هناك زينب التي تساعده على الشفاء من مرضه، ويتناول حينها الحاضر، حاضر اجتماعه مع زينب ولهوه معها(5). ويتأمل أن تنشر مخطوطته التي تحكي قصة سجنه، غير أنّه يستشرف، ويقول أنّه يخشى من أن يشطب الكثير من فقراتها “نظراً لكلامها اللاذع في الساسة والسياسة أو لمسها الخادش بالحياء والأدب العام(6)”.
ولو دققنا في مضمون السرد، لوجدنا أنّ الترتيب الزمني يكشف عن استرجاعين ، أو زمنين سالفين. واحد يخص مرحلة ما قبل السجن، وثان ينقل ما حدث في المعتقل. ويحوي الزمنين الاستشراف الخاص بهما. هذا، وقد ينقل أحداث زمن ثالث، هو الحاضر، لكن يأتي نقل الواقع الآني، أو استشراف تفاصيله، أو تذكّر بعضها الآخر سريعاً، في حين أنّ استذكار زمن السجن بما فيه من وقائع يشكّل جوهر الرواية.
يبدو أنّ ترتيب الأحداث المتكسّر في الرواية، هدفه نقل عالم السجن إلى من لم يذوقوا عذابه، وهم القراء، ليحيا كلّ فرد منهم بدوره العنف، والقهر، والظلم، الّذي يعاني منه أي أسير. ولعلّ التركيز على استرجاع أحداث السجن هدفه التحرّيض، او تحريك الضمير العربي. إذا قد يكون ما ورد في الرواية مساهما في رفع غطاء الكسل والجهل، بغية بناء واقع أفضل يغني ويضيف إلى المجتمع العربي، الساعية أبدأً إسرائيل، ومؤيديها إلى تحطيمه، وتيئيسه، والتعتيم على إنجازاته.
“1_الاسترجاع:
يكاد يمتد الاسترجاع على مدى مضمون الرواية، وسنقدّم بعض النماذج، التي من شأنها أن تعطي صورة واضحة عن طبيعة السرد. يطلب حمّودة من المحقق أن يسمّعه النكت، ويهدده متذكراً: “هذا سجين تأسفت على موته بين يديّ بنزيف دماغي
1_بنسالم حميش، معذبتي، ص61.
2_م.ن، ص65.
3_م.ن، ص275.
4_ م.ن، ص277.
5_ م.ن، ص 285و286و287.
6_ م.ن، ص289.
حاد، كان يحكي لي على هذا السرير من النكت ما يعجبني مقابل أن أخفف عنه(1)”. ترخي أنظمة التسلط والاستبداد بثقلها على حمودة، الّذي يضطر أن يخفف عن السجان، مقابل رفع الظلم عنه. أي معادلة يمكن أن تتحقق في هذا المجال؟ كيف للمظلوم أن يكون هو المحرض على السعادة، وهو المثقل بهمومه؟! أي أساليب ديكتاتورية مرعبة يستخدمها العدو لتدجين فكر العربي من قبل خصمه السياسي، علّه بذلك يعتاد على المراوغة والمهادنة! فإذا ذعن لهم اليوم، سيتواطأ معهم غداً.
يقول الطاهر بن جلّون في روايته “تلك العتمة الباهرة” في هذا الصدد مسترجعاً: “… في حال من الاحتضار أطول مدة ممكنة. وكان على أجسادنا أن تعاني من التحلل شيئاً فشيئاً، وأن يطول أمد عذابنا لكي يتسنى أن ينتشر ببطء، وألاّ يغفل عضوا، أن يصعد من أخمص القدم حتى أطراف الشعر(2)”. ويقول الطاهر عن إدريس، الذي توفي في السجن، وكان لا يستطيع أن يمضغ الطعام، ويعجز عن السعال، وقد بلغ به النحول حداً جعله أشبه بعصفور فقد ريشه “ينام مقرفصاً، سانداً رأسه إلى الجدار… ثم شيئاً فشيئاً، راح يفقد ملكة النطق… لعلّه تلفظ برقم ما، وحسبت أنّه الرقم أربعون. فالظاهر أنّ الموت يستغرق أربعين يوماً ليحلّ في الجسد بأكمله(3)”. إنّه القمع الممارس على الناس من قبل الأجهزة المتخاصمة مع الفكر العربي. إنّهم حكّام، يؤلّهون أرواحهم، ويضعون نفسهم في موضع المستبد، والمنصف في آن، وما استبدادهم بحسبهم إلاّ وجوه العادل. فالديكتاتورية هي نظام الأسياد، وما على المستعبد سوى المثول لآرائهم، وإلاّ تاه وضاع في واقع لا يفضي به إلا إلى الانهزام، والمصير المدمّر. هل هذا يوحي بوجه أو بآخر إلى الذين يستفيدون من إنجازات العرب ليبنوا بروجهم؟ وهل يا ترى سينال حمودة خيراً، إن حاور المحقق، وحكى له النكت التي تعجبه؟ لا شك أنّ قبول حمودة، أو تنفيذه ما يطلب منه من تنكيت، سيكون بمثابة اعتراف بقدرة الآخر على اختراق قراراته، وتسيّده عليه، وإن كان ذلك القبول اضطرارياً، ولن يكلفه الكثير، وقد يقلل من الخطر والضرر الّذي قد يلحق به.
يعود حمودة إلى سجنه، ليسترجع ما حصل معه من حملات تعذيب. يقول: “تذكرت أنّي قبل نومي العميق خضعت لحصة تعذيب قاسية مكثفة، أجرتها الغولة بمساعدة الغوريلا ذي العضلات(4)”. ونجد مثل هذا الاسترجاع في رواية “تلك العتمة الباهرة”. يقول الطاهر مسترجعاً: ” كانت أيدينا مكبّلة وراء ظهورنا، مكدّسين في الشاحنات إلى جانب الموتى والجرحى. كان رأسي عالقاً بين جنديين
1- بنسالم حميش،معذبتي ، ص216.
2_الطاهر بن جلّون، تلك العتمة الباهرة، بيروت، دار الساقي، ترجمة بسام حجّار، ط1، 2002، ص19.
3_م.ن ، ص20.
4_ بنسالم حمّيش،م.س، ص153.
قتيلين…الجنديان القتيلان أرخيا لحظة الوفاة، بولهما وبرازهما. ولكن أما زال لمن هو مثلي الحقّ في التقزّز؟ تقيأت مرة(1)”. المسجون فئة من الناس تعيش في حيّز غير خلاق، بعيداً عن المجتمع الواسع، وتقتل وقتها في اجترار أقسى ما مرت فيه. وهكذا لا يبيت الحاضر موضع راحة، أو مجال استقدام لخير، بل يكون مرهونا لأثقل لحظات، بما فيها من تدمير وشرور. عندما يفلت السجين من قبضة العدو، يعيش هاجس الاختباء من لؤم هذا الأخير، ويعاني مع مخلفات جسده المعذب. هكذا يبيت الإذعان لا يقتصر على أوقات جمعه مع المتسلّط، إنّما خارجها، لأنّه سيستمر في استقراء ما حصل معه. هكذا يبيت الحراك في الحاضر مأسوراً بدهاليز الماضي، فما الآتي سوى ترجمة للسالف، وحلول به. وكيف للسجين أن ينعتق من ماضيه، وهو الذي ليس أمامه سوى استرجاع أحداثه. يقول الطاهر: “كنّا منسيين تحت الأرض، بعيداً كل البعد، عن الحياة، وعن ذكرياتنا…والشيء الوحيد الذي ينبغي ألا أنساه هو اسمي. أحتاج إليه. سوف أحفظه… في حفرة معتمة أحمل الرقم “7” (2)”.
يوضح هذا المسترجع طبيعة عيش العربي المفكّر، ويبين استحالة فكاك يديه من القيد، وهو المطلوب منه الاعتراف الدائم ، وفي كل وقت أنّه يدين للآخرين، وأنّه بلا هيبة. وهنا نسأل هل بإمكاننا بعد كل ما ورد(3) أن نصنع واقعا جديدا يمكّننا، فننعتق من القيود الهدامة، ونكشف سحابة الانهزام عن العيون العربية، فتتغير الموازين؟! يبدو أنّ حلول الخلاص معتمة، بل معدمة. هذا ما يؤكده استرجاع لمصطفى خليفة. يقول: “تذكرت المهجع، مئات الروايات عن الذين ضعفوا واعترفوا بأعمال لم يقترفوها. اعترفوا بجرائم لم يسمعوا بها إلا من فم المحقق الّذي يتهمهم بارتكابها. ماذا كانت نتيجة اعترافاتهم؟ البعض تمّ إعدامه، الآخرون يتعفنون في السجن، الكثير منهم مات أو في طريقه إلى الموت(4)”.
“2 – الاستباق:
يرد الاستباق في رواية “معذبتي”، وغالباً ما يكون سببه الهم والكدر الملازمين لشخصية حمودة المسحوقة داخل السجن، أو خارجه. يعود حمودة إلى مكتبته ومسكنه بعد مغادرته قضبان المعتقل، فيجد الفئران والحشرات قد عاثت فيها فسادا طوال سنوات غيابه عنها. يقول: “كيف لي أن أخرج إلى شوارع مدينة وجدة وساحاتها وأسواقها وجوامعها من دون أن ألقى الناس وأحادثهم… وذلك ريثما
1_الطاهر بن جلّون، تلك العتمة الباهرة، ص13.
2_م.ن ، ص26.
3_ ويتحدث مصطفى خليفة في رواية “القوقعة” عن تعذيبه، ويقول: “الجلد، الضرب، في الدولاب، على بساط الريح، التعذيب بالكهرباء. يثبّت الملاقط على الأجزاء الحساسة من جسدي ويشغّل الجهاز. يبدأ جسدي رقصته الكهربائية، أحسّ أنني سألفظ أنفاسي، أعجز عن التنفّس، تكاد الرئتان أن تنفجرا. الطماشة على عيني… بعدما يقارب النصف ساعة أحسست أنني قد استنفدت كل طاقتي على التحمّل”.
مصطفى خليفة، القوقعة، ص 309.
4_ م.ن، ص .ن.
أستطيع السفر إلى بلدة واد زم لأبحث عن أمي، فأجدها حية ترزق أو في قبرها وقد التحقت بجوار ربها الأكرم؛ لكن إذا ما فعلت، كيف أبرر لمن سيتذكرني من الناس -على قلتهم- غيبتي الطويلة …(1)”. إنّ الأغلال التي قيدته في سجنه، يبدو أنّها أنشبت أظفارها في واقعه مجدداً، ومدّت دمارها إلى روحه وتفكيره، حتى أنّها قد لا تبرحه حتى يبيت هباء منثورا. هل هذا يعني أنّه سيعيش سجناً آخر في مجتمعه الجديد القديم؟ يبدو أنّ الاستشراف هنا إشارة إلى رغبة التحرر، وأن صاحبه يتلهف لانطلاقه حيث يمكن أن يعيش الحياة التي كان يجب أن يعيشها، ويلتقي أحباءه أحياء كانوا أم أمواتاً، ويهرب حينها من هلاك كان يأسره. مثل هذا الاستشراف نقرأه لدى الطاهر، الذي يحن إلى أمّه. يقول: “اعلم أنك تعانين من قلة النوم… واثقاً من أنّني ذات يوم سأصل إلى نهايته، وسأبصر النور، وستكونين هناك في انتظاري، وستحضّرين لي الخبز… لقد أصبحت خفيف الوزن، فسوف تحملينني بين ذراعيك(2)”. يحمل الاستشراف هنا الأمل بمستقبل أفضل خارج السجن، وهذا ما لم نلمحه لدى حمّودة، الذي يتآمر عليه الماضي، فيكبل حاضره. وهذا الحاضر الأليم الذي سيكون أمضى من الماضي، يفسره استشراف آخر في رواية “معذبتي”. يقول: “شهادتي لو رويت بعضها شفاهة لقهقه السامعون في وجهي، وظنوا جازمين أنّي مصاب بالهذيان والرهاب ويتخبطني المس والجنون(3)”. صحيح أنّ حمودة قد خرج من السجن، وعاد إلى واقعه، غير أنّه يدرك أنّ طريق الحرية لم يكتمل بعد، وأنه ناقص، ونقصه فادح، وأنّ الانعتاق من القيد لم يتحقق، ويجد أنّ حياته الطبيعية سيصعب عليه استعادتها، لذلك يحاول أن يقرأ الأشياء قبل حصولها، فيؤكد نتيجة يتوصل إليها سلفاً، وهي أنّ هماً جديداً سيلازمه، وهو صعوبة الانفتاح على الآخر، والحوار معه، أو التفاعل. ها هو سيغرق في انهزامه مجدداً، وسيعيش حتماً سجناً آخر، وهو يتمثل الأشياء التي حصلت معه، والتي سيرويها على مسامع الآخرين، ولن تثير إلاّ اشمئزازهم، أو انتقادهم اللاذع الساخر. هكذا بحسبه سيعاني حساباً آخر يكاد لا يناقض ما سبقه، وهو الباحث أبداً عن طريقة تنجيه من قيود سجانيه سواء في السجن أو خارجه. ها هو يدعو نفسه إلى الاستعصاء على محاسبيه. يقول متوقعاً ما سيحصل معه: ” إمّا أن أنجو بروحي من هلاك محدق داهم إلى بر أمان، إما أن ألتحق بالرفيق الأعلى شاهدأ وشهيدأ، وفي كلا الموئلين،…شارة نصر سأبعث، نقطة ضوء واعتبار، تنضاف إلى مثيلاتها في سجلات الثائرين المنتفضين ضد الطغاة العتاة، وأيضا ضد عبابيد الخنوع والاستسلام (4)”. وإن كان يحذر الهلاك بين أيدي الطغاة، غير أنّه يرى أنّ الموت سيجعله أمثولة يحتذى بها، ويرددها قلم كل من حرر سره من الرياء والنفاق. هكذا يتهدم الاحتضار العنيف، فيتبوأ النصر المضيء المركز الأساس. هكذا لا يعود الموت يعني الانعدام، إنما الولادة، فينهض مجتمع جديد يسعى لتقويض انحلال مضى. هكذا تكون المعاناة سبيلا للمسرات، لا طريقا للإلغاء، فنغادر لغة التخلف والقيد والتبعية.
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص10.
2__ الطاهر بن جلون، تلك العتمة الباهرة، ص68.
3_ بنسالم حميش، م.س، ص15.
4- م.ن، ص135.
ومثلما يعيقه التفكير في نتائج فحوصات طبية سيجريها، يخشى أن تكون سبباً في هزم قدرته الإنتاجية، لذلك يحاول إغفالها، أو تناسيها، فيستطيع تحقيق إنجازات يفكر فيها. يقول: “فحوص طبية تستعجلني، لكني أؤجلها كي أُعرِض عن معرفة ما قد تأتيني به من أخبار مهولة تحبطني وتعيق تحرير فصولي…(1)”. يلازم حمودة هم جسده المريض الذي كان يعاني منه منذ أيام سجنه، فقدمه الكثيرة التورّم والتقيّح الآخذة في الغنفرة “قد تحتاج بعد أيام إلى عملية بتر… لم يمنعني من تلبيتها إلا خوفي من إيقاظ جيراني وإفساد النوم عليهم(2)”.
هكذا يغدو الزمن الجديد بما فيه ليس اختيارا، بل ترصده أحداث مضت، وتبنيه فعالية الذات، تلميذة السجن، والتي لن تعرف الارتقاء إلى نور تجربة جديدة. يقول حمودة:”وإذا استدرجني أذكاهم إلى الإخبار عن وقائعي، فهل أرويها…؟ لعل لزوم الصمت، مع التعويل على كرور الوقت، هو الحل إذا ما اقترن بلزوم البيت، لكن اللزومين يستحيلان، لا ريب، إلى سجنين(3)”. هكذا يقولب الماضي في السجن أي حدث طارىء، فتأتي نتائجه وتفاصيله جاهزة، مأمورة من قبل الشخصية السابقة. لعلّ الهدوء الظاهر، إنّما يشير إلى الانهيار، وإلى استنزاف القوى بعيدا عن أي انتصار، سوى الانتصار على الوقت، وهو السيد المتألّق بزيفه. ونقرأ القلق من المستقبل في رواية “العلاّمة” لدى أصحاب النفوذ. يقول عبد الرحمن ابن خلدون: “التورّط في ما يأتي للمرء على حين غرّة، أو في ما لا يرد حسبانه، التورّط في مواقف يقيس معها اندثار تخيّره وتحكمه في خطاه: كثيرة هي الفخاخ المبثوثة أمام مجذوبي السلطة من العلماء(4)”. نلحظ هنا أنّ القلق من المغلف والمعتم يلازم الحاكم والمحكوم، لذلك يتساءل الطرفان عن خاتمتهما، ويظل الرعب يضخّم أفكارهم، فيعيشون خلفه، وفيه، ويكاد يستحيل عليهم إزالته أو تقليصه. هكذا يعيش العربي إعاقة الحرية ، لا أصولها ، وامتدادها، وحقيقتها.
“3- التضمين:
يرد التضمين في كثير من مواضع الرواية، وهو قد يكون عبارة عن شعر، أو آيات قرآنية، أو رسالة… . تبدأ الرواية برسالة تصل إلى يدي حمودة خلسة، بعيدأ عن عيون المراقبين في السجن. تقول الرسالة: “عزيزي حمّودة، إذا شق عليك أن تصير خديم أعتاب الطغاة وخططهم الجهنمية، جاسوسا مخترقاً، عميلاً مزدوجاً، قاتلاً أجيراً، فعليك بمراودة حلٍّ قد ينجيك لو اتقنته: أن تتحامق وتتمارض… دوّخ مستنطقيك بأعتى كلام الحمقى والمجانين، هدّد معذبيك بسعالك وعدوى مرضك، لعلّ وعسى أن ييأسوا منك، فيعيدوك إلى موطنك أو قريباً منه مخدراً بأفيون، تصحو
1_ بنسالم حميش، معذبتي ، ص15.
2_ م.ن، ص181و187.
3_ م.ن، ص 10و11.
4_بنسالم حمّيش، العلامة عبد الرحمن ابن خلدون،بيروت، دار الآداب، ط2، 2011، ص182.
منه وأنت مراقب بدمليج الكتروني ومستهدف برصاصة في الرأس، تصيبك ولا تخطىء، إذا ما رويت قصتك من حولك أو رفعت في شأنها شكاية ضد مجهول…(1)”. تبرز الرسالة المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها، والتحولات الّتي سيؤول إليها، فنعي أنه كلما سيتجاوز هماً سينصب عليه جام غضب آخر، وسيستهدف صميمه. يبدو أنّ هذه الرسالة هدفها توضيح طبيعة الأنظمة الدكتاتورية، التي تنال من ذات كل مواطن يلتزم بوطنيته، ويدافع عنها بشراسة الشرفاء وعزتهم، الّذين لا يتطلعون إلا لما يعزز مناقبيتهم. أيعني ذلك أنّ التدجيل، وعدم الكشف عن الوجه الحقيقي للمرء العربي، هو أساس لبقائه على قيد الحياة؟ يبدو أنّ القناع ليس مجرد فكرة تطرح أو افتراض، إنّما هو من اليقينيات أو الثوابت للاستمرار، وهو من المدركات المستنتجة من التجارب. تثبت رسالة نعيمة لحمودة هذا الرأي، وهي التي تبغي منه التخفي وراء وجه آخر كي يحافظ على توازنه، خصوصا أنّهم سيطلبون منه أن يكون مشاركاً لهم ومتعاوناً معهم، وهي التي أرادت تنبيهه أنهم لن يتوانوا عن إعرابهم أنّه كإنسان له حقوق وعليه واجبات، غير أنّ الحقيقة ستكون مختلفة كليا، وسيعاقبونه أسوا عقاب لو علموا نواياه، فالتستر هنا المحصّن والحامي ضد العنف والحصار.
لا يرد التضمين في النص إلا ليخدم السرد، ويوهم بواقعيته. ها هي قصيدة فؤاد نجم “في المعتقل” تقفز إلى ذهن حمودة، ويردّدها بين قضبان سجنه. تقول كلمات القصيدة: “في المعتقل يا سلام سلّم/موت واتألم/ لكن لمين راح تتظلّم/ والكلّ كلاب/ كلاب حراسة / وكلاب صيد / واقفين بالقيد / يكتّفوا عنتر وأبو زيد(2)”.
تكشف قصيدة نجم سياسة التدخّل في المواطن الحر، وتبرز أسلوب المكر والدهاء لدى الطرف المعادي، الّذي لا يرضى أن يتمكن الاستقرار في أي ركن عربي. يمارس الظالم سياسة القهر، ويبث العيون بين المعتقلين، ليحتل المكانة التي يريد، الساعية لتقويض كلّ ثقافة ووعي. يريدون أن يقرؤوا خيبة المفكّر، يحبون أن يراهنوا على شلله، وانعدام قدرته على الحركة أو العطاء.
وفي موضع آخر نجده يورد أغنية لفيروز. يقول حمودة: “من عتبة بابي وعلى طول دهليز الزنازن، تناهى إلى سمعي صوتها الفيروزي منشداً، تصحبه أصوات سجناء وتصفيقاتهم:
الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان
الغضب الساطع آت سأمرّ على الأحزان
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص9.
2_م.ن ،ص.134.
من كلّ طريق آتٍ بجياد الرهبة آت…(1)”
يوضح هذا التضمين المسؤولية التي يعيشها السجين، وهو في دائرته المغلقة. فهو رغم الرقابة الصارمة لن تُحدّ قدراته، وسيتجاوز كل قيد، لأنّه حر الروح.
و ينطلق صوت آت من أصوات السجناء لا يعرف حمودة صاحبه. يقول: ” يا أيّها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلواة إنّ الله مع الصابرين(153)ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون(154) ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمراتِ وبشّرِ الصابرين(155) الذين إذا أصَابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا لِلّهِ إنّا إليهِ راجعون”] البقرة 153_156 [(2)”. يسعى المسلم هذا، المرتفع صوته، لإزالة الهم والكدر عن زملائه المساجين، محولا الهزيمة إلى انتصار، مدافعا عن فكرته من خلال استشهاده بما ورد في القرآن الكريم. كأن التضمين هنا انتصار على العدو، إنّها حرب من نوع آخر. إنّها دعوة لمواجهة التحديات. هي قوة المسلم الجبار ، القادر على مقارعة الطواغيت ، وهزمهم، وإن كانوا يعتقدون تأسيسهم لنفع، أو واقع فاعل في الآخر(3).
نلحظ مما تقدّم كيف يواجه السجين حاضره المرعب عبر اللجوء إلى القرآن، وما خزنه في ذاكرته من سور وآيات. يقول الطاهر بن جلون في روايته “تلك العتمة الباهرة”: ” “سوف نحتكم إلى الله ورحمته، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون(4)”. لم يكن لديّ أدنى شك حول هذه المسألة. لم أكن ملكا لا للملك… ولا للحرس المدججين بالسلاح. لست لغير الله… ازداد إيماني بالله العلي العظيم، الرحمن… العليم بما في القلوب وبمصائر النفوس(5)”. يساعد القرآن المسجون على مواجهة التكالب، ونظم
1_بنسالم حمّيش، معذبتي، ص168.
ويرد في الرواية تضمين آخر ، وهو نشيد الأنصار في استقبال المصطفى الأمين، وصحبه بالمدينة المنورة: “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا مرحبا يا خير داع”.
م.ن ، ص160.
ويصبر الخطيب السجناء، ويقول: “جاء في درر علي كرّم الله وجهه: إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، فابتغوا لها طرائف الحكم…”.
م.ن ، ص168.
ومقتبس آخر من طبقات ابن سعد. م.ن، ص36.
2- م.ن ، ص.158.
3_ يرد تضمين مماثل في رواية “العلامة” لبنسالم حمّيش مستمد من القرآن الكريم: ” هو الّذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا”.
بنسالم حمّيش، العلامة، ص130.
4- تقول الآية: “الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون”.
البقرة، 156م.
5-الطاهر بن جلون، تلك العتمة الباهرة، ص48.
الاستبداد والفساد، فالتقوى الحق لا تُستمد من العبيد، ورحمة الله هي المقوية، وهي العلاج، لأنّها تقي الإنسان من العثرات. لعلّ استحضار الآيات القرآنية بوفرة في النص الروائي يعبر عن انبثاق النور من ذات السجين، الذي يعتبر أنّ الدين هو الحقيقة في ظل الخوف والجهل والتخلّف. لقد بدت صلة المرء بالقرآن محرِّرة من القيد والأسر، مؤسسة للانطلاق نحو عالم آسر، لا يخيّب الصالحين أبدأ.
يساعد التضمين في الرواية والمتراوح بين القرآن، والشعر، والغناء… المسجون ليخفف عنه شحن السجن. هكذا لا يعود منغلقا على نفسه، إنّما منفتح على الكون والواقع، ليشمل الآخر المقيّد، وإن كان خارج السجن. يبرهن التضمين كيف يتجاوز السجين الراهن والآني، ليدرك أن الاعتقال لا يعني الخسارة أبداً، بل المساهمة الفاعلة في الدارين الأولى والآخرة. وما الكتمان والصمت اللذان تطلبتهما رسالة نعيمة(1)، إلا سبيل لتحقيق السلامة.
4″- المناجاة:
ترد المناجاة في كثير من مواضع الرواية، فتبدي حقيقة الأضرار اللاحقة بحمودة، وتعطينا صورة واضحة عن طبيعة السجون التي تدار من قبل جهات أجنبية. لا يعرف حمودة الجرم الّذي ارتكبه حتى يستحق العقاب، لذلك يناجي نفسه: “هل حقا حُمِلت إلى لحافي نائماً ومر يومان ولم أفق(2)”. يحاول من خلال هذه المناجاة قراءة ما حصل، وإجراء مقاربات بين ما كان، وما هو كائن. لكن، هل البحث المرهق، سيجعله يقلق من تحديات شنيعة أخرى قد تكون أشد قسوة؟ وهل سيجعله البحث المضني ينحني، أم أنّه سيدفعه إلى تنحية الصعوبات؟
تجيبنا مناجاة حمودة على هذين السؤالين، فنلمس من خلالها رغبته في البقاء على قيد الحياة. يقول: “عجباً لقلبي كيف يستميت في التشبث بالحياة والنبض، بالرغم من كلّ ما عانيته من تعذيب وخنق(3)”. “هل تزجية للوقت ومداراة لأمعائي المتضورة جوعا غفوت أو ربما نمت بعد إخفاء وريقاتي المحبّرة؟(4)”.
ويرصد حمودة وجوه الماثلين للإعدام، ويقول أنّه لا تبدو عليهم أمارات الهلع والاضطراب، فيقول: “هكذا يكون الزعماء البواسل الأشداء وإلا فلا، مسترخصين
1_ويرد التضمين أحياناً ليبين كيفية انزلاق المرء إلى صفوف العدو، تقول نعيمة لحمودة في رسالة: “…شممت فيك رائحة بلادي ممزوجة ببراءتك من تهم تتعداك، ولا قِبل لك بها… لا وقت ولا حاجة لأحكي لك قصتي… خذ حِذرك! كلّ استماتة منك في المقاومة والصبر على التعذيب ترشحك لما يريدون: أن تصير عميلا مزدوجا لاختراق جماعات مصنّفة أمريكيا وعند وكالات مخابرات غربية في قوائم التطرّف والإرهاب. كل خبراء المجمّع ورؤوسه المتعددي الجنسيات يرومون خلق العميل المتعاون وبرمجته، ثم اغتياله بسلاح القتلة الأجراء لو هو زاغ عن السكة وتمرّد… كاتبة هذي السطور، بالمعاناة والتجربة، تعي ما تقول. دخلت في الخدمة مضطرة…
بنسالم حمّيش، معذبتي ، ص131.
2_ م.ن ، ص152.
3_ م.ن، ص155.
4_ م.ن ، 173.
حياتهم في سبيل نضالهم، لا يأخذهم أمام الموت رجفة ولا خوف(1)”. يؤكد هذا الكلام مناجاة أخرى ترد بعد أن يستلم بطاقة نعيمة. يقول: “أنا… الضعيف بحجمي وجسمي، القوي بإيماني، … إمّا أن أنجو بروحي من هلاك محدق داهم إلى بر أمان، وإما أن ألتحق بالرفيق الأعلى شاهدا وشهيدا، وفي كلا الموئلين، يا نعيمة، شارة نصر سأبعث، نقطة ضوء واعتبار، تنضاف إلى مثيلاتها في سجلات الثائرين المنتفضين ضد الطغاة العتاة…(2). يبدو أنّ هذه المناجاة تشير إلى أنّ الغلبة للمساجين الشهداء منهم والأحياء، لأن المستقبل لن يكون إلا من خلالهم. وتبدي هذه المناجاة أيضاً تلك القوة الهائلة التي يحملها صدره، والتي بدورها ستساعده ليقاتل مغايريه فهماً، من أجل استعادة حريته. كما تبرهن هذه المناجاة كيف يوزع حمودة قواه ليسقط خطط الآخر المعادية. هي مناجاة تكريس أنا الحرية، وضميرها.
ويحدّث نفسه في موضع آخر من الرواية، ويقول لأمه مناجيا إياها: “بل إنّهم غيلان التجبر والظلم، يا أماه، يتفانون في نهشي والنيل من همتي وبأسي. لكني ما زلت صامداً صابراً بعون الله ورضاك عليّ، أنا الذي أحسنت إليك ولم أقل لك أبدأً أفٍّ(3)”. أليست هذه المناجاة إشارة إلى تصميم مجموعات الشباب المنتمين إلى الشرائح الواعية في المجتمع، الذين لم ولن يغفلوا حقيقة أطماع الغرب الساعي إلى إفساد زمنهم؟ بمعنى آخر ، أيمكن أن تكون هذه المناجاة هدفها تذكير مفكري المجتمع العربي، الذين قد يذلوا إن فكروا في إنضاج وطنهم، أو أفسحوا له المجال للنهوض؟
تضيء هذه المناجاة أحداث النص، وتمنحه واقعية، لأنّها ترصد حالة الفرد المؤمن بقضية نهوض وطنه. وما تقدمه تلك المناجاة هي منح صورة واضحة عن طبيعة التفكير في السجن، سواء أكانت ثابتة أو متبدلة بتبدل المراحل التي يمر بها، أو الأزمات التي يعاني منها(4)”.
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي ، ص136.
وترد المناجاة في “العلامة”، متحدثة عن الموت، وكيفية تمني حصوله : “اللهم إن كنت قدّرت موتي في طوري هذا، فاجعله موت الخطف والفجاءة”.
بنسالم حمّيش، العلامة، ص37.
2_ بنسالم حمّيش، م.س، ص135.
3_م.ن ، ص183.
4_يقف حمودة أمام المرآة، ويقول: “اللهم عوّض عن شعري المحروق بشعر أوفر وأزكى، وارزقني لحية أخرى آنس بها وأسهر معها في ليالي أرقي وتجهدي. أما أعداؤك، يا ألله، وأعداء البشر المستضعفين في هذا المجمّع فارسل عليهم الطوفان والقمل والضفادع والدم، كما أرسلتها آيات مفصلات على آل فرعون المجرمين الطغاة”.
م. ن، ص114.
5″-التناوب:
يرد التناوب في الرواية عندما يقتحم عملاق سجن حمودة، وهو يحمل شابا تلفّ رأسه وجسمه أعصبة وضمادات. يلقيه على لحاف قبالة حمودة، وينصرف. تتناوب الأحداث نفسها أكثر من مرة، وبشكل تسلسلي تتدرج من خلاله، ويتم التنقل من حدث إلى آخر بشكل متناوب، وفق الشكل الآتي:
1_ جلوس حمودة إلى جانب المريض.يقول: “قصدت الطريح متعرفا عليه…”.
2_ اهتمام حمودة بالمريض. يقول: ” جسست نبضه وحبل وريده”.
3_ تأكد حمودة أنّه ما زال على قيد الحياة. يقول: “بدا لي أن الحياة ما زالت لها في قوامه بقية”.
4_ يطلب حمودة النجدة كي يتم مساعدته لإنقاذ المريض. يقول: “هرولت نحو بابي الحديدي، خبطت عليه بكلتا يديّ صارخا: اعتقوا الروح! الشاب يموت… كررت استغاثتي حتى كللت وبحّ صوتي ومار صدري غصصاً”.
ويعود حمودة إلى ذكر الأحداث نفسها مرة ثانية، وبشكل متدرج.
1_يتوجه نحو المريض، ويقول: “عدت إلى تفقد المريض”.
2_ يهتم حمودة به. يقول: “استفسرت عن حاله”.
3_ يتأكد حمودة أن المريض لم يمت. يقول: “ندّت عنه كلمات خافتة غامضة”.
4_ يطلب مساعدة الآخرين: “كررت صيحات الاستغاثة …”.
وتتكرر المناوبة بين الأحداث نفسها لمرة ثالثة.
1و2و3 _ يقترب حمودة من المريض ويهتم به. هو ما زال حياً: “سمعته بعدها يترجى ماءً… جرّعته ما بقي لي منه…”.
3_ يطلب النجدة، ولا يردّ عليه أحد: “لا قدرة لي ولا حول على نجدته، ولو بإطلاق حبالي الصوتية صادعة مدوية(1)”.
يؤكد التناوب بين الأحداث رغبة حمودة الشديدة في شفاء المريض، كما يبين كيف يناهَض الموت في السجن. كما يبرهن ما ورد صعوبة الشفاء، بل استحالتها في ظل انعدام الإنسانية من قبل السجان.
يعطينا التناوب صورة واضحة عن رغبة حمودة الملحة في رفع الغبن اللاحق بالمسجون. فها نحن ندرك بشكل مفصل كيفية رفض الواقع، واللهفة من أجل الخلاص. هي جولات يكررها حمودة ليبعد زميله المسجون عن الهلاك، فنعي بذلك الغليان الحاصل في ذات حمودة، الذي لن يعرف الهدوء إلا عندما يقرأ الراحة على وجه مريضه. هذا التناوب يجعل الصورة أمامنا تبدو متحركة، بعدما يشرح تناوب الأحداث الحزن والغضب المزدادين مع ازدياد المريض ألماً.
6″-التداعي:
يستدعي حمّودة أحداثا عرفها، وهذا يحصل نتيجة قلقه على مستقبله. يقول: “تعرّمت
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي ، ص46 ، و48، و 47.
في لحافي ممعناً التفكير في حالة هذا المستضعف، المهدد باستئصال خصيته الثانية، ثم في الياس، نزيل زنزانتي قبله، الذي بات وما أصبح. تكدّست في ذهني التلبيسات، كدت أغرق في متاهتها ودوارها(1)”. تتداعى إلى ذهنه الأسئلة، وتتناسل المسائل، لكنه لا يتناولها إلاّ بشكل عام. ويبرز هذا التداعي صعوبة إنقاذ حمودة نفسه، واستحالة قدرته على المساعدة. كما يبرهن شفافية الأحاسيس المرهقة للسجناء المعرّضين لأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وهذا ما يبرر قوله: “كانت لي من قبل جلسات إدمانية مع الاستيهام والتفكير(2)”.
يجمد السجين نفسه، أو قد يعلن عدم العصيان، لكن ذلك لن يبرر بقاءه سالماً معافى، لذلك تتداعى الأفكار. يقول: “في وضعي السريري المتمدّد، ماذا يملك العليل مثلي فعله سوى إطالة التفكير في شروط الحال واحتمالات المآل. آراني أحفر بيديّ وبما أوتيت من أدوات خندق هروبي من سجني المدمّر(3)”. ينفق وقته مفكراً في أحواله، ويقرر أنّ عليه الهروب، غير أنّ ذلك لا يكون إلا مصدراً لتزجية الوقت، ولوهم قد يخفف من وطأة المصيبة، أو يقوّض من حضور الظلام في زنزانته. هو ظلم لا يترك حتى النساء في السجن من دون الوقوع تحت وطأته. ها هي الأفكار تتداعى مستعيدة ألم إحداهن لكثرة الأخاديد القديمة على ظهرها بفعل مئة تلقتها، فهو بعد أن يسترجع قولها: “هل عنى النهر غير ما عناه لمّا فجرّت عينه فورته واجتذب البحر مجراه(4)”. يقول:”قول حقيق بالتأمل والتأويل، آمل أن أجالسه وأوفيه حقه باستجلاء أبعاده ومعانيه العلية(5)”. يدرك حمودة أنّ التعمق في الأشياء يحتاج إلى تفكير، وهذا يؤدي إلى تداعي الأفكار المؤدية إلى توالد الأحداث، بشكل يبدو عفوياً، نفهم بعدها واقع السجن. هكذا ينشىء السرد المتماسك المقنع بما يدور خلف القضبان من استعباد وقهر.
7″- الحلم:
يرى حمودة بعد خروجه من السجن مناما، وذلك بعدما بدأ يكتب صفحات عن سنوات اعتقاله. فهو بعد آدائه صلاة العشاء يأخذه نوم قاهر ويقول: “فرأيت فيما يرى النائم أنّ في ليلة صادفت ليلة الاحتفال بعيد المولد النبوي، خرجت من دون أن أغيّر شيئا في زيي الواقي، فاعترضني على باب المسجد الكبير رجلان مدنيان، اقتاداني إلى درب محاذ خال، حيث فتشاني من رأسي إلى أخمص قدمي بآلة الكترونية فيدويا، ثم حجزا خوذتي وسترتي، وذهبا بي مقيدا إلى مخفر الشرطة أمام باب سيدي عبد الوهاب، باب الرؤوس المقطوعة قديما. كان علي في انتظار الضابط ومقرره أن امضي الليلة ما بقي منها على مقعد قبالة مكتبه. هنا نمت مكوّما غير آبه بما حولي،
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص73.
2_ م.ن ، ص112.
3_م.ن، ص.ن.
4_م.ن، ص170.
5_ م.ن ، ص.ن.
ولما أفقت مفزوعا أدركت بعد فحص وتدقيق أنّي ما زلت على فراشي قابعا في بيتي(1)”. يبدو واضحا ما تركته سياسة التدمير والتعذيب في ذات حمودة، الذي لم ينصفه الخروج من السجن. ها هو يتخفى خلف خوذته، لكن الخصم ينزعها عنه، فينتصر الظالم على المظلوم. ينتصر المتسلّط في حلم، ما هو إلا تنفيس عن مكبوت الذات. يجيب هذا الحلم على كافة الأسئلة التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن، ومنها: هل سيتمكن من تزويد الآخر بمعلومات عن ماضيه دون خشية من سلطة ستمد خناقها إليه، وبالتالي إلى كلماته، فتقيدها؟ يفيد الحلم أنّه أسير مع أنّه غادر السجن، أسير ظلم جديد لن تقل قساوته عن ماضيه. هو أسير لأن دمه سيبقى معرضا للسفك في أي لحظة. ما ورد سيقيد حريته في الحركة، وسيصعب عليه ربما حرية الكتابة، والتعبير عن مكنونات الوجع. وسيستمر الوجع يطارده في لحظات عيشه، الأمر الذي يؤكد انكساراته النفسية. يقاوم حمّودة. والمقاومة، وإن مدّت شعابها إلى نفسه، فستأتي نتائجها مهزومة ، لأنّها لن تعني سوى الحياد، أو الهروب من الآخر للحفاظ على الوجود. هل هذا يعني أنّ الحياة خارج السجن باتت أصعب من البقاء ضمنه؟ وأنّ الموت أفضل من الحياة؟ يبدو أنّ الحياة خارج السجن أشدّ وطأة، لأنّها حرية منقوصة، مؤتمرة بأوامر السجان الغائب الحاضر. يبدو أنّ المنام يفسّر واقع المثقف العربي ، أو المفكر، الذي عليه دائما أن يراعي آلة العنف، التي تريد تحطيمه، لذلك يبقى أسير وهمها.
ويحلم بأمّه، ويكتب للمحقق، ويقول: “استرخيت واستسلمت لنوم ملتبس،…بدت لي أمي فيها تعتب عليّ غيابي الطويل وقطع الصلة، تقول بالحرف: بطاقة واحدة منك لم تصلني… حتى لو كنت في الثلث الخالي من الدنيا! أفرش طريقك برضاي، طمئني: البحر ما بلعك، كما يبلع هذي الأيام شبان كثيرين؟(2)”. يرتعد الابن من عتاب أمه، فتتكدس الهموم. كيف سيفسر لها وضعه، وهو البعيد عنها، لا يستطيع الانضمام إلى سكينتها وعاطفتها. تغدقه بالمشاعر التي يحتاجها، فيتعرض لضغوط نفسية. الحلم مرآة الأماني، وفي المنام يتوغل حمّودة في دواخل أمّه، فيدرك القارىء سر الحالم ورغباته، ويفهم علاقة الابن الحميمة بوالدته.
وشوقه إلى لقاء أمّه يجعله يحلم أنّها موجودة بين الأحياء . يقول: “في الصباح، وأنا أحتسي قهوتي… قفزت إلى ذاكرتي رؤيا منامية تبدت لي فيها أمي حية ترزق، بين جمع من النساء، ترسل الدموع السواجم، تتنهد وتشهق، شاكية إلى الله ثكلها وحزنها، متضرعة إليه أن يتغمّد ابنها الأوحد بعطفه ورحمته. وحين تصبرها النسوة وتمنّينها برجوعي، تضرب على فخذيها تارة وترفع كفيها إلى السماء تارة، وتئن قائلة: “أعرف ولدي. يستحيل ينساني ولا يرسل إلي وريقة، حتى لوكان في قاع القيعان. ابني طمرته الأرض أو أكله حوت البحر(1)”. تبحث الأم عن ابنها الذي تأخر في العودة، وتقلق على حياته، وعلى مصيره، وهو لا يستطيع طمأنتها. تقبض السلطة
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص13.
2_ م.ن، ص63.
3_م.ن، ص183.
على الأنفاس، وتعتقل الاسترخاء، فيبيت التعذيب ملازما لزمن البررة الأتقياء، العاجزين عن تبديل عيشهم، أو تعديل مرارته، ولو بقدر ضئيل. يمثّل هنا حمّودة الفئة المحطّمة، المقموعة من قبل سلطة غاشمة. لعلّ الحلم يحوي في طياته دعوة غير مباشرة للتعاطف مع الشعوب المظلومة، والمقيدة. لعل ما ورد يدعو إلى العدالة، إلى الخلاص من الدكتاتورية، إلى نقد الأنظمة العدائية ومواقفها المستورة والمعلنة.
ويحلم حمودة أيضا أن يلتقي ابن الخالة. في السجن، وفي منامه كان يجوب بين واد زم و وجدة، وكان معه ابن خالته السائل عنه. يقول: “الحزين المتألّم لغيابي المديد(1)”. المنام هنا هو مهدىء، قد يخفف من وطأة الدمار الاعتيادي في السجن. يبدو الحلم مقنعا، إذ أن حمودة غير قادر على تغيير واقعه، أو تبديل مسار عيشه، لا يستطيع إزاحة الاستبداد والظلم اللاحقين به من أجل تتويج عيشه بلقاء يصله بمن يشتهي وصله.
ندرس من خلال الحلم الحالة النفسية المرهقة، ونعي منظومة التسلّط، والتمرّد الدفين في ذات المسجون، المشحون بعاطفة لا سبيل لردها.
2-علاقات الديمومة:
“1-الخلاصة:
يرد التلخيص في كثير من مواضع النص. يقول حمّودة: “يروم مجرمو المجمّع ومديروه تحويل الإنسان الأسير إلى حيوان غير ناطق… فاسد الأسنان(2)…سليب القوة الجسمية والمعنوية، لا استطاعة له في الطاعة والإذعان… إنّما القوم هنا وقد بلغوا حدود الصبر الأقصى وما لا يطاق، …فكانوا بما تبقى لهم من جهد وأنفاس يتداولون جماعيا في هذا الشهر المبارك على تلاوة آيات قرآنية ومختارات من الأمداح النبوية والأذكار، كنت فيها أدلي بدلوي وأبلي ما قدرت البلاء الحسن… ظللت زهاء شهر على ذاك الحال والمنوال… تعودت مكرها على… الاكتفاء من الإفطار بما يسد الرمق بعد عزل الحشرات المرئية، التي يدّعي موزعو الوجبات أنّها تسقط في الطناجر سهوا… ومنها أيضاً ترك صراصير تسرح وتمرح في أطراف جسمي باحثة فيه عن القمل قوتها المفضل(3)”. يلخص ما ورد ما يقوم به السجناء من أفعال في شهر رمضان، فنعي بذلك سوء غذائهم وإفطارهم في أثناء صومهم، وندرك إلى أي حد يمكن أن يكون الدين سببا لطهارة النفس الصبورة على كلّ ما يلحق بها من أذية. يلخص ما ورد صنوف التعذيب اللاحقة بحمودة وصحبه، الأمر الّذي يؤدي إلى تأصل العذاب في أنفسهم.
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص64.
2_”مضت ثماني عشرة سنة تقريبا لم أنظر خلالها إلى وجهي في المرآة ولو مرة واحدة”.
الطاهر بن جلون، تلك العتمة الباهرة، ص185.
3_ بنسالم حمّيش، م.ن، ص24.
لعلّ ما ورد يبرهن كيف يغيّب الحق في سجون يشارك في إدارتها الشرقي والغربي، وتستمر الأنظمة المتخلفة الجائرة في فرض هيمنتها على العربي، فتستضعفه، وتجعله أداة لها، فيحكم على أخيه بأرذل العمر. نعي من خلال التلخيص كيف على المسجون الصمت، وتحمّل المشقات الجسام، الطويلة الأمد، والتي لا تخرج المرء إلا محملا على الأكتاف، أو عليل الجسد والروح، ويبقى الإيمان وحده هو موطن الأمان.
ويقول: “هأنذا إذن “مزنزن” منذ شهور عدة وأخرى،… أتكيف ما استطعت، أتبرمج بما عساه يخفف عني، ولو على توهم. يوميا بعيد اليقظة، أمضي وقتا أتلهى أحيانا بقراءتها كرسوم ذات إيحاءات وأبعاد متناسلة شتى(1)”. يساير حبسه عبر إضاعة وقته، ويتأمل محيطه القاتل. تموت القوة، وتنسلخ القدرة، فيبيت السجين متأبطا علله وفشله. ويبقى السؤال: من دون قدرة العطاء هل يبيت المرء مجرد متاهة في هذا العالم، وتزول بذلك مسببات حضوره؟
يجيبنا على هذا السؤال تلخيص آخر. يقول حمودة إنّ ذكر الله كثيرا يؤدي إلى تقوية “النفس على الجلد والصبر في محنة العذابات والمساءات، كما كان حال المسلمين الأُول، أيام الجاهلية الأولى وانتشار الخمر والميسر…وظلام الوثنية ووأد البنات…(2)”. أيعني ما ورد أنّ التحقق الشامل في العالم الشرقي لن يكون إلا من خلال تجذر الفكر الإسلامي في ذات كلّ مسلم، وعدم التغرّب عنه؟ يبدو أنّ ذلك هو المقصود. ولعل ما ورد لا ينبه المسلمين فقط، بل يتطلّب من كلّ عربي أن يعتني بحاضره ومستقبله مستفيداً من ماضيه، فيعي أي ضرر يمكن أن يلحق بعالمه لو تغابى عن حقيقة ما يقدّمه الإسلام. إذا، على العربي أن ينظر إلى نفسه، وإلى الآخر ليعرف ماذا يريد. يقول لوثروب ستودارد الأمريكي: “يجب على العالم الاسلامي أن يتحد لدفع الهجوم عليه ليستطيع الذود عن كيانه. ولا سبيل إلى ذلك إلا باكتناه أسباب تقدّم الغرب والوقوف على عوامل تفوقه ومقدراته(3)”.
يعطينا هذا التلخيص صورة واضحة عن واقع السجون، ويمنح النص دورا إيهاميا.
1_ بنسالم حميش، معذبتي، ص25.
2_م.ن ،ص194.
3_ أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، القاهرة، مكتية النهضة المصرية، ص105.
ويسجن ابن خلدون في رواية “العلامة” لمدة أسبوع، ويلخص ما حصل معه. يقول: “خلال هذه المدة سُمِح له بالقراءة … في السجن لم يفكّلر العلامة في سوء حاله بقدر ما فكّر في علامات تصدّع الصف المصري…”.
بنسالم حمّيش، العلامة، ص220.
2″-الوقفة أو الاستراحة:
نقرأ الوقفة في رواية “معذبتي”، نذكر منها: القبو رقم 13 “عبارة عن مستودع مسطّح، مضاءة بعض زواياه بلامبات، نيون جد شاحبة، تعمره أقفاص حديدية فردية مصطفة طولاً، متقابلة، لا تسمح للسجين بأكثر من الجلوس أو الانطراح(1)”. توضح هذه الوقفة أسباب عدم الاستقرار، والردود النفسية السلبية لدى المساجين، فيعي القارىء السجون، وطبيعتها الوسخة. مثل هذه الوقفة نقرأها لدى الطاهر واصفا زنزانته: “كان القبر زنزانة يبلغ طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترا ونصف المتر؛ أمّا سقفها فوطىء جداً يتراوح ارتفاعه بين مئة وخمسين ومئة وستين سنتمتراً. ولم يكن بإمكاني أن أقف فيها. حفرة للتبول والبراز. حفرة قطرها عشرة سنتمترات(2)”. توضح الوقفات التي تصف الأمكنة كيف تتمكن المخابرات من الهيمنة على المساجين، وإثارة الخوف في نفسهم، وندرك أيضا طبيعة العدائية التي يمكن أن يصير إليها أي شخص يعاني نفس المعاناة.
ونقرأ وقفة قصيرة في الرواية عندما يتناول حمودة المرحاض في السجن. يقول: “حفرة ضيقة القطر، مغطاة بياجورة، وصنبور ماء شحيح(3)”. ويقول أنّه خلف القضبان الحديدية يرى “ممرا مظلما وحائطا مبرقعا بالثقوب وجلطات الرطوبة المتكثرة(4)”. مثل هذه الوقفات نجدها في رواية “العلامة” لبنسالم حميش غير أنّها تصف القصور الرائعة لا السجون القبيحة. يقول: “…قباب شامخة خضر أو صفر، ومرة أخرى أكاليل شرفات متفاوتة النتوء، مطلّة على رحاب وحدائق داخلية… كثيرة هي الأبواب الموصدة المحروسة”. ويتابع: “كانت هذه الأنوار تنفذ من الزجاج القبرصي الملوّن في الطاقات المتعدّدة الأشكال، فتنعكس على مرايا رخام الأرض، على الحيطان والسقوف العالية المزيّنة بالفصّ والصدف والذهب واللازورد. أمّا الأقواس والسواري، فكانت تكشف عن نصيبها من البهاء المضاء في نقش خطوطها وبواكيها الجبسية(5)”. نلحظ الفرق الشاسع بين وصفين، أحدهما يتناول السجون، وثانيهما يخصص للقصور. كأن النفس يمتد، وينشرح في الأماكن النظيفة، والمريحة، وهذا ما لم نجده في أماكن السجون، حيث يقرأ المعتقل النقاط نفسها لضيق المكان. لا يقرأ السجين سوى العدم، فهو يشغّل عقله في فراغ لا قيمة من جرائه إلا ضياع الوقت سدى. يقصد من هذه الوقفة القصيرة القول أنّ مبدعي المسلمين، أو مفكريهم، أو قيادييهم المجبرون على الركون، والخضوع في أماكن مغلقة لا تستغل قدراتهم المعرفية في أمور تغني وتضيف، كأنّه على العربي أن
1_ بنسالم حميش، معذبتي، ص19.
2_ الطاهر بن جلون، تلك العتمة الباهرة، ص9.
3_ بنسالم حميش، م.س، ص153.
4_ م.ن،ص152.
5_ بنسالم حميش، العلامة، 115.
مقوض العطاء، إن لم يؤمن للطرف المعادي الرخاء والتقدّم. إذا، التخلّف يجب أن يبقى سمة ملازمة للمسلم، فهي حقيقته الدامغة، ولا يمكنه إزالتها.
ويمكن أن نقرأ الوقفة عندما يقول حمودة: “أنا وليد بادية مدينة واد زم الصغيرة، على بعد بضعة كيلومترات من خريبكة، حاضرة المغرب الفسفاطية، أرضها واطئة مفتوحة على المدى والآفاق(1)”. هذه الوقفة تتناقض مع وقفاته عندما وصف السجن، إذ تبدو أكثر طولا. يبدو أنّ إطالة الوقفة يعود إلى رحابة المكان، الذي لا شك سيحمل الراحة إلى النفس المتطلعة إليه.
وقد تطول الوقفة أحيانا عند وصف السجن. يصف حمودة زنزانته الفردية 112، ويقول: “زنزانة ضيقة، من خمسة أقدام مربعة ونيف، ذات لحافين ومرحاض مغطاة حفرته بياجورة لمنع خروج الجرذان منها. موقعها، ولا شك، في باطن قبو تغلب عليه النتنات وتضرب عنه الشمس”. ويتابع :”شقوق جدراني، الحلزونية الخطوط، المحاطة بجلطات الرطوبة والغمولة…كرسوم ذات إيحاءات وأبعاد متناسلة(2)”. يشير الوقف القصير الذي يقطعه السرد، وغيره من الوقفات إلى غفلة حمودة عن مسيرة العيش الاعتيادية داخل السجن، فيفسر بذلك الزمن المفجع الذي يعاني منه، والذي سيمحو فاعلية حضوره على ما يبدو حتى بعد خروجه من السجن.
3″- القطع:
يتجاوز الراوي مدة زمنية قد يعلن عنها، أو قد يغفل ذكرها في كثير من مواضع الرواية. يتحدّث حمودة، ويقول:” مر يومان ولم أفق… بصعوبة متناهية وقفت على رجليّ، لحظت تورمات متقيحة في قدميّ (3)”. يبدو أنّه يقفز عن مدة زمنية، ولا يتناول تفاصيلها، لأنّه لا يجدها تحقق أي تقدم للنص، أو يعتبر أنّها ليست جزءا مهما يغني ويثمر. مثل هذا القطع نقرأه عندما يقول: “كم ساعات طوال أو ربما أيام استغرقها نومي المتصل… حين أخذت أحك عينيّ، هالني أن أبصرت، والوقت ضحى، عيّنة جرذان وفئران مجتمعة على استهلاك ما تراكم من صحون الطعام أثناء سباتي(4)”. ويقول أيضا: “بعد مضي بضعة شهور على اعتقالي، في حضرة
1- بنسالم حمّيش، معذبتي، ص53.
2_ م.ن، ص25.
3_ م.ن ، ص152.
4- م.ن، ص163.
القاضي المحقق الّذي، كما أُخبرت من قبل، ينظر في ملفات المتهمين…(3)”. يبدو أنّ القطع غايته ألاّ يقدّم للمتلقي معلومات لا يحتاجها، فضرورة المحافظة على بنية الأحداث تقتضي تطوير الحدث، أو تقديم معلومات جديدة. يوضّح ذلك القطع الأزمات وأبشع التهديدات التي يتعرض لها السجين.
لا يبدو هذا القطع مهددا لنسيج النص، أو وحدته، بل دافعا لنموّه، لأنّه يجسّد صعوبة حركة الزمن وراء القضبان، واستحالة الإلمام بكلّ التفاصيل لتردي وضع المعتدى عليه. يظهر القطع مدى الانهيار، ويعبر عن الظلم والنزف اللاحق بكلّ مقبوض عليه.
4″-المشهد:
نقرأ الكثير من المشاهد في الرواية، منها عندما يدير رأسه حمودة يمينا في الدهليز المعتم، ويقول: “فإذا بي على بعد مترين وجها لوجه أمام رجل بدائي شبيه بإنسان الكهوف، يعرض عليّ بواسطة عكّازه كيسا مشحونا، ويقول بلهجة المستنكر الآمر: – صاحب السعادة ينعم بنوم هادىء عميق، فيما أنا أشقى مع مرحاضي المخنوق. خذ الكيس، أفرغه في حفرتك وأرجعه لي بعد غسله، …”. وتابع الرجل قائلاً:
“_ خذه يُرحم أبوك…ذخيرة أسبوع كامل، هذا كثير! الجار للجار رحمة… ارع الجار ولو جار…”.
يقصد حمودة بالشيء مرحاضه مترنحا، مقللا تنفسه، لم يجد في عقر الزنزانة سوى حفرة ضيقة القطر، مغطاة بياجورة، وصنبور ماء شحيح. يقول: “المهمة مستحيلة نظرا لكيس الوازن ومخاطرتي، لو أنجزتها، أن أزيد في إفساد هواء مأواي وأجعله وبالا عليّ. كوّمت لحافي على ما وجدته من الماعون، اعتليته بنية إفراغ الكيس من كوة محاذية للسقف، لكنّه فلت من يدي المرتعدة ليسقط في فراغ مبهم.
عدت إلى أرض محلي أرتب ما كوّمته، ثمّ استلقيت مستردا أنفاسي، مغالبا أبخرتي الرديئة والتباس العناصر والخيوط في ذهني(2)”.
تطال حمودة فضلات الآخر، والمؤلم أنّ الآخر الذي يسعى إلى مساعدته سيتعبه بدل أن يشكره(3)، وسيأخذ منه الهدوء والراحة، فيبيت المكان أكثر ضيقا وأشد معاناة. ينقل المشهد حوار الطرفين، والحركة الصادرة عن حمّودة في أثناء نقله فضلات جاره، فتكاد تتوازى بذلك مساحة السرد مع سرعة الحدث.
1- بنسالم حمّيش، معذبتي ، ص31.
2و3_ م.ن، ص153و154.
لعلّ المشهد يومىء إلى الضريبة التي يدفعها كل خارج عن أنظمة الغرب، حيث يحضر له العقاب الوخيم، الذي يذل عمره (1).
يبدو أنّ هذا المشهد، يبين كيف يمكن أن يفكر الغربي المحتج على الأنظمة العربية، الذي يرى أنّ المعالجة تقتضي اجتثاث التخلّف، تخلّف الشرقي. وهو المقتنع أبدا بمرض العربي العضال، الذي يستحيل علاجه أياً تكن مقوماته الذهنية، لأنّه بحسبه قائد رجعي بامتياز، لا دور له في ركب الحضارة العالمية.
لكن، هل هذا يعني أنّ العربي لن يكون في حال أفضل أبداً ما دامت أميركا، ومن يؤيدها هم الأقوى؟ هل يعني أنّ تحرر العربي سيكلّفه كثيرا، وأكثر مما يتوقع إذا ما فكر في الخروج من عدميته؟ هل ما ورد يومىء إلى أنّ المسلم سيدفن حيا إن اعتقدت الدول العظمى أنّ طموحاته ستمسّ حدودها؟ هل على العربي أن يفقد عقله وذاكرته ليحافظ الغرب على هيبته، لذلك يخططون لاستغلال ما يملكه، فيما هم يدّعون أنّهم يقدّمون له ولا يأخذون، وأنّهم يسهّلون عليه عيشه؟
يوضح المشهد كيف أنّ العربي كان وسيبقى رهينة للغرب، فالقمع سيظلّ يوقع به الفشل، لذلك سيلازمه الرعب والقلق إن لم يتواصل مع آرائهم، أو يتواطأ معها. إذاً، مراعاة الأنظمة الاستبدادية هو الأصل. يجعلنا هذا المشهد نعي كيف تُصرف قدرات العربي في الزنزانة المدارة من قبل أميركا، كما يساعدنا على إدراك ارتعاد الأذهان وانهيارها في السجون، حتى يبيت من المستحيل أن يعود المرء إلى قواه التي كان عليها حتى بعد أن يحرر، وينضم إلى واقعه الذي كان فيه.
ولو توغلنا في النص ككل، لوجدنا أنّه يبرهن مسألة مفادها، أنّ العربي سيظلّ يربط بين حاضره المؤلم، وما سيحصل معه لاحقا، فلا يعرف الثبات أو التقدّم، بل التراجع. لعلّ هذا يشير إلى حركة المفكرين العرب في القرن الواحد والعشرين في ظل عصر العولمة والتطور والإبهار العلمي. لعلّ ما ورد يرسم صورة عن واقع عيش المسلم أو العربي في الأسر، وكيف أنّ الغربي يغفي وعيه، ويسرق ممتلكاته،
1_بنسالم حمّيش، معذبتي، ص36.
ونقرأ مشهدا آخر في الرواية تكاد تتساوى فيه مساحة النص مع سرعة الحدث، وذلك عندما يقول المحقق لحمودة: “…استخلص من ملفك، يا حمودة الوجدي، أنّك رجل مسالم، قابل للعشرة… الكذب والبهتان حرام… وقانا الله شرورهم…
لم يقطع دفق كلام الرجل… إلا نقر خفيف على الباب، تلته إطلالة الفتاة المحجبة،…
_ ما وراءك يا بنت؟
_ سيدي، بحثت عنها، لم أجدها…
_ من هي بنت؟
_ أم قشعم، سيدي…
قاطعها من دون أن يغيّر لهجته:
_هذا أمر مزعج. انظري في معاجم الإعلام وعند ابن منظور،… استأذنت في الكلام، قلت:
_ في لغة العرب، سيدي القاضي، أم قشعم اسم أطلقه أهل الجاهلية مرادفا أو كناية لجهنم، والله أعلم.
_ يعطيك العافية، حمّودة، لا فضّ فوك! وأنت يا بنت، بوسي رأس هذا العارف…
أراك في حضرة السكرتيرة مش على بعضك، تخفض جفنيك ولا تراها رأي العين.
_ أفعل ذلك (أجبت) عملا بوصية المصطفى الأمين: من نظر إلى محاسن امرأة فغض بصره في أول مرة، أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه… “.
م.ن ، ص35.
فينظّم بذلك قواه ضد إبداعاته، وهو لا حول له ولا قوة. يبين هذا الحدث الوارد لمرة واحدة كيف تتشابه أقدار السجناء في المعتقلات التي تدار من جهات أجنبية.
3- علاقات التواتر:
1″- التواتر التكراري النمطي:
تكثر الأعمال التي تتكرر مع حمودة بشكل نمطي، نذكر منها قوله: “ظللت زهاء شهر على ذلك الحال والمنوال. تعودت مكرها على أشياء وأخرى، منها قضاء حاجتي…والاكتفاء من الإفطار بما يسد الرمق بعد عزل الحشرات المرئية، التي يدعي موزعو الوجبات أنّها تسقط في الطناجر سهوا، ومن عافها، يقولون، فعليه بالمرق؛ ومنها أيضا ترك صراصير تسرح وتمرح في أطراف جسمي باحثة فيه عن القمل قوتها المفضل(1)”. يذكر هذا الحدث مرة واحدة، مع أنّه يتكرر يوميا طوال أيام شهر رمضان. لعل ذكر الحدث وفق هذا الشكل، يعود إلى اعتقاد الراوي أنّه سيستوفي حقّه لمجرد ذكره لمرة واحدة، ولعله يرى أن ذكره أكثر من مرة سيكون مرهقا للقارىء، لأنّه لن يحمل له أيّ جديد يكسبه المزيد من المعلومات.
ونذكر تواترا نمطيا ثانيا. يخبر أحدهم حمودة عما يدور في القبو الذي يعتادون فيه على عدم تمييز الليل من النهار إلا بحرّ هذا وبرودة ذاك. يقول: “هذا ما انبأني به جاري، مضيفا أن تمضية الوقت بين من لم يمرض بعد تكون تارة برواية أسباب نزولهم في هذا السجن،… أو بلعب الكارطا والشطرنج، هذا علاوة على الصلاة لمن استطاع إليها سبيلا وتلاوة القرآن والأذكار(2). أما المرضى والمسنون… منهم من يستعجلون أجلهم بالصوم المتصل أو الإضراب عن الطعام(3)”. ما يحصل على أرض السجون، وفي القبو يتكرر حتى يبيت نمط عيش . يُذكر ذلك مرة واحدة مع أنّهم يقومون به لمرات عديدة. يجمل الكاتب الحديث عن الحاصل في السجن ، ليبيّن طبيعة التقهقر الذي يشمل الجميع. يقدّم ما ورد صورة واضحة عن تعذيب شريحة كبيرة من المساجين، يحاسبون من قبل رؤساء فاقدي الضمير(4). هكذا يفهم القارىء ما يدور في السجن وخلف قضبانه، ويدرك أيضا انحباس نفس السجين، وتكبيل وعيه. كما يدرك المتلقي كيفية النيل من حرية وكرامة كلّ مثقف.
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص24.
2_ ونلحظ أنّ حماية النفس يتأتى عبر التواصل مع الله، لذلك تلتقي مواصفات مؤمني “معذبتي” في غياهب السجون، مع مواصفات مؤمنين في رواية “هذا الأندلسي”الذين يحتكمون لما يرد على أسماعهم من وعظ وإرشاد. لنقرأ ما يرد في السرد: “في كلّ مرة يا ولينا نطقت، تجود علينا بواسع علمك وسديد فهمك”.
بنسالم حميش، هذا الأندلسي، ص71.
3_بنسالم حميش، م.س، ص20.
4_ يقول خالد عويس في “وطن خلف القضبان” أنّه في السجن: “تعودت على رائحة الفضلات تماما بعد خمسة أشهر… إطفاء السجائر على الجسد، والعبث بأجهزتك التناسلية والضرب”.
خالد عويس، وطن خلف القضبان، ص180 و181.
يقول الطاهر أنّه بعد مضي ثماني عشرة سنة تقريبا لم ينظر خلالها إلى وجهه “في المرآة ولو مرة واحدة”.يقول:” عندما أفلح في رفع ذراعي، أمرّر راحة يدي ببطء على وجهي. ومثل ضري تنبئني أصابعي. كان خداي هزيلين وجنتاي خشنتين بارزتين، وعيناي غائرتين في قعر المحجرين. كنت نحيلا جدا”.
الطاهر بن جلّون، تلك العتمة الباهرة، ص185.
ويحقق مع حمودة. يقال لها تسترت على ما هو أدهى وأخطر: المتاجرة في البنزين المهرّب بين الحدود المغربية الجزائرية…هذي معلومات لو سئلت عنها لقلت كالتالي: نعم، هرّبت البنزين بمقادير يسيرة من قرى جزائرية إلى وجدة ونواحيها، لكن سرعان ما عدلت عن ذلك لغلبة المخاطر على الأرباح… أمّا تحريك سيارتي بالغاز فبسبب اعتدال ثمنه …(1)”. أيعني ما ورد أنّ المحاسبة من قبل الأمن باتت اعتباطية، لأنّ أسباب الاختلاس قد توفرت، في حين لم تتوفر شروط العيش الأساسية لكلّ مواطن؟ يجيبنا هذا التواتر النمطي على السؤال، فيوضح طبيعة الأنظمة العربية، والسياسة المتبعة في عالمه. تقهقر المرء وزيادة الأعباء المادية على كاهله، قد تحيله إلى رجل معدم الضمير. لعلّ ما ورد يحمل في طياته دعوة ضمنية إلى ضرورة تأمين الدولة لحقوق المواطنين، كي يعيشوا بكرامة، ويضمنوا حصولهم على قوتهم اليومي من دون اضطرارهم للسرقة، أو مخالفة القانون. يذكر هذا الحدث مرة واحدة مع أنّه قام به مرات عديدة، لعلّ الراوي أراد الإضاءة على هذه القضية، عسى الدول العربية تراعي حقوق مواطنيها، وتلتفت إلى مصالحهم، فلا تنفصل عن همومهم.
2″- تواتر تكراري:
يتكرر الحديث عن حلق رؤوس السجناء ولحيهم في الرواية في أكثر من موضع. يقول: “أن تُحلق رؤوس كل السجناء ولحيهم(2)”. وتحشى الشعور في أكياس معدة للحرق. ثمّ يتابع حمّودة كيف تعرض هو لعملية الحلق. يقول: “نصحني الحلاق أن أمدّ له رأسي من دون احتجاج صارخ أدّى بغيري إلى حلق حواجبهم وأنصاف لحيهم وشواربهم(3)”. ويتابع حمّودة قائلا: “أخذ يُعمل مقصا ضخما في حش الشعر الطويل حيثما وجده، كأنّه يحصد بالمنجل السنابل والأعشاب الطفيلية، وبعدها شرع في تبليل رأسي وصدغيّ وذقني بالماء الراغي، أعقبه بتمرير موس مستأصلا ما تبقى من الشعر كلّه(4)”. ويتكرر هذا الكلام في موضع آخر من الرواية. يقول حمّودة المشاهد لما يحصل: “حليقي اللحي والرؤوس…لحظت سجينين بلا حاجبين، فطنت إلى أنّهم عوقبوا بذلك على مقاومتهم لعملية الحلق واستنكارهم…آلة حلق الرؤوس واللحى لم تخطىء أحداً(5)”. يتكرر ذكر هذا الحدث في كثير من مواضع الرواية، فيدرك القارىء كيف يعيش السجين لا حول له ولا قوة في سجنه. مهمة السجين دائما هي الخنوع والاستسلام، أمّا إذا عارض، فرفضه هو من عظائم الأمور. لعلّ ما ورد يشير إلى خطورة الوضع العربي عامة، والإسلامي خاصة، لأنه يشكّل صورة عن واقع العالم العربي الموضوع دائما في خط الدفاع عن نفسه.
1_ بنسالم حمّيش، معذبتي، ص147.
2_ م.ن، ص113.
3_ م.ن، ص.ن.
4_ م.ن، ص.ن.
5- م.ن ،ص115.
ويتكرر الحديث عن وجود سجناء مزيفين مع سجناء حقيقيين. ومهمة المزيفين نقل المعلومات إلى الغولة. في أثناء تناول السجناء وجبة الطعام يذهب أحدهم ليملأ وعاءه مرة ثانية،فيقول حمّودة: “اغتنم جاري الأقرب مني غيابه ونصحني بالكف عن الكلام بدعوى وجود سجناء مخبرين(1)”. ويذكر هذا في موضع آخر من الرواية: “…في ظل سيادة التوجس والحذر بين المجتمعين حول الطاولات، نظراً لاختلاط السجناء المزيفين بالحقيقيين(2)”. ويقول حمّودة متابعاً: “أخذت، بعد الإتيان على شربتي وقهوتي، أسترق النظر إلى جلسائي، راغبا في تمييز السجين الحق من السجين المزوّر(3)”. يترجم التكرار كيفية استخدام أميركا مستخبريها من أجل الحفاظ على وجودها، فندرك بالتالي كيف تظلّ النفس محبوسة، قلقة من أفخاخ ستزيد حياتها ألماً في حال عبّرت عما يدور في خلدها. ولا شك أنّ آلة القتل والتعنيف ستظل متحكمة بعقول المفكرين، وستظل تحرمهم التصريح عن أفكارهم. نعي من خلال التواتر التكراري هذا كيف على السجين أن يترفع عما يجول في خاطره، وأن يواصل صمته في عتمته، لتجنب الضغوطات. ندرك من هذا التكرار كيف أنّ الاحتقان هو سيّد الموقف، وفي كلّ الأوقات، وكيف على العربي، ولا سيّما المسلم أن يخاف النتائج المترتبة عن أي كلام يصدر عنه. عليه أن يرضى الموت البطيء، وأن يعيش عارياً غير مُطمَئن، ما دام أنّه غير مُطَمئن. هكذا تحافظ الدول الدكتاتورية على استبدادها، ولا تُعرّض مسيرتها للخلل.
3″-التواتر الانفرادي:
يتجلى التواتر الانفرادي في كثير من مواضع الرواية، نذكر منها حديث حمّودة عن مساعدة من يقع في البراز. يقول: “أقبلت على المهمة المحزنة الشاقة في أقفاص حددت لي. أصحابها تحسبهم أحياء وما هم حقا بأحياء. انطفأت جذوة الحواس لديهم، بعضهم في شبه غيبوبة متصلة، بعضهم، وأنت تسعفهم وتنظفهم، يبتسمون ويهمهمون بكلمات تعني الشكر والامتنان… توجهت إلى الوكيل وخاطبته بلهجة التقرير أن ّ أغلب النزلاء هذا المستودع يستلزم نقلهم إلى المشفى، فنهرني متوترا، محتقن الوجه، محمره: تعلّمني شغلي يا ابن الكلب! عد إلى قفصك…(4)”. يعبّر عن
1_ بنسالم حميش معذبتي، ص175.
2_ م.ن، ص114.
3_ م.ن، ص115.
4 _ م.ن، ص22.
وعن الضغوطات التي يتعرض لها السجين يقول خالد عويس في روايته “وطن خلف القضبان”: “استطاع أن يُرقدني على طاولة وأنا أرفس في عنف… لم يقدر…عادت أصابعه لتعبث بصدري…يركلني بقدمه اليمنى في منطقة حساسة… يقبض على نهدي بقسوة…ينهال علي ضربا بيديه. أحمي جسدي…”. ويقول في موضع آخر: “إبر تنغرس في نهديّ، فينهطل الدم، ممزوجا باللون الأبيض، غزيرا كمطر استوائي… شفرات أخرى تجوس خلال القفا… قطرات الأحماض والمواد الكيمائية الحارقة لن تفسد ظهري تماما… توغّل المواد الحارقة داخل الجراح المفتوحة يجعل من ظهري حقول قطن مشتعلة… القذارة تلتصق بثيابي وتخترق النسيج”.
خالد عويس، وطن خلف القضبان، ص47 و49 و180.
المخاوف الحقيقية التي تعتريه اتجاه سجناء لا يمتلكون الصحة. نلحظ كيف يرفض الوكيل التحاور مع حمودة، الّذي يشدّد على ضرورة نقل السجناء إلى المشفى. يؤدي التحاور بينهما إلى التوتر. نعي من خلال هذا التواتر الانفرادي كيف أنّ الإلغاء هو شرط من شروط الحياة الأساسية في السجن، وهذا الإلغاء الّذي له شبيهه في الحياة الاعتيادية خارج القضبان لدى أناس قد لا يعون نتائج الإفصاح الوخيمة عما يدور في خلدهم، وإن كان إفصاحهم نورا وصدقا. هذه خطة العدو، ويتم تطبيقها في عالمنا العربي؛ هي خطة لا يعنيها أن تتحكم بقدرات العرب العقلية فقط، إنّما تسعى إلى تعطيلها. ربّما يريد العدو من العربي أن يتلهى بقشور المسائل لا عمقها، بغية بقائه في موكب التخلّف، في الوقت الّذي يصفَق له، ليظنّ نفسه أنّه نال حظوة لم يرتق إليها سواه. هكذا يختار رجعيته، فلا يفكّر في مستقبله، ولا يبني خطوطا تصاعدية تمجّد وجوده.
ويتواصل حمودة مع جاره في السجن من خلال ثقب، يكشف التراب عنه بعكّازه، ويروح حمّودة يبث منه كلمات نداء خافتة، تبدي له بعد ترديدها أنّها لا تجد صدى أو أذناً لاقطة. ويتابع: “استرقت النظر من الثقب لعلّي ألمح طيفا، قدما متحركا أو ثابتا. لا شيء! جاري مات أو قُتِل أو رحّل كما قد يكون، والله أعلم، حصل لجيران الأقربين وحتى الأبعدين (1)”. يبدو لي أنّ عدم ذكر الحدث لأكثر من مرة، لأنّ صداه سيتردد على مدى الرواية. فعندما ينتهي التواصل بين حمّودة وجاره عبر ثقب، ينشأ قلق في نفس حمودة الذي لم يعرف أسباب عدم ردّه. يبدي هذا التواتر الانفرادي نية العدو، الساعي أبداً إلى تعجيز العربي وتضييق الخناق عليه.
الخاتمة:
يبدأ السرد من لحظة دخول حمّودة الراوي السجن، وبعده ينتقل ليتحدّث عن أحداث حصلت معه بعد ذلك وراء القضبان، ويسترجع تفاصيل عيشه في أماكن عاش فيها وكان حرا. ويتراوح السرد بين المراحل التي ورد ذكرها، إضافة إلى استشراف أحداث لم تحصل بعد تعود إلى مرحلتي الحرية والسجن. وينتقل في نهاية الرواية ليتناول أحداث الحاضر، وهو زمن لقائه زينب الزوجة الطيبة، والتي يعيش معها أجمل لحظات عمره. وبدء كلام حمّودة من لحظة دخوله السجن، وتوجهه نحو عذاباته، وآلامه. إضافة إلى استرجاعه الضئيل لزمن عيشه القديم، ثمّ توجهه نحو الحاضر السعيد، يفيد أنّ الكاتب غايته توضيح تاريخ الشعب العربي المظلم القاتم، لأنّه ركّز على زمن السجن، وأسهب في تناوله، وكان ذلك على حساب الأزمنة الأخرى. هو زمن يصعب عليه أن يعرف النور أو الاستقرار، لأنّ حمّودة فيه يستمر في دفاعه عن بصيص نور يمكن أن ينفذ من خلاله إلى الحياة، لينافي بذلك منطق القتل السائد في عيشه.
1_ بنسالم حميش، معذبتي، ص223.
وتكشف نهاية النص أنّ السعادة في العالم العربي، وإن تحققت لدى المثقفين أو المتعلمين، هي غالبا سعادة آتية بعد انهزام كلّ قدرة، وانعدام كلّ فرصة للتحقق المضيء القادر على تحويل واقع أمة، أو تطويرها، أو نشلها من الظلام. أي أن استرجاع أحداث السجن يشير إلى سيطرة القوة المتمثلة بسلطة المستبد، القادر على فرض الرتابة على الأفراد، الذين سيستمرون في عيش خذلانهم حتى آخر رمق في عمرهم. العدو يدمّر قدرات العرب، لذلك لا يستطيعون أن يؤسسوا لأي نهوض أو أي فاعلية، وليس لديهم من سلاح سوى الصمت، والإذعان. وهذا يشير إلى أنّ العلاقة مع مغتصب الحقوق لن تتبدل نحو الأفضل.
كل التقنيات المستخدمة في أثناء دراسة بناء الزمن ساهمت في نهوضه. فالتلخيص مثلا ركّز على قضايا أساسية لها نفعها، ويمكن أن تضيء على مسائل يراد تثبيتها في ذهن المتلقي، نظرا لخدمتها الموفّرة عملية الإقناع. أمّا بالنسبة إلى التناوب، فإنّه يشير إلى ضرورة وعي المسائل التي يعاد معالجتها أكثر من مرتين. وهذا هدفه تمثيل القضية، أو تجسيد صورتها في الذهن، لتأمين الإيهام بموضوعية الأحداث. ومثل هذا الكلام ينطبق على تقنيات أخرى استخدمها الراوي. وكل ما ورد من أقوال وحركات صدرت عن أصحابها في المشهد، والذي كانت فيه سرعة الحدث تكاد تكون متوازية مع مساحة النص، كان متوافقا مع واقعهم النفسي والاجتماعي والثقافي، وهذا قد طوّر الخطاب، لأنّه قد ولّد رغبة لدى القارىء لمعرفة المزيد عن فهم كلّ فرد مشارك في القص، بعدما يعبر عن أفكاره بطريقته الخاصة الناقدة لواقعه، ومحيطه.
باختصار، إنّ استخدام تقنيات: الترتيب، والديمومة، والتواتر، كلّها ساهمت في نهوض النص، وتقديم صورة واضحة عن واقع العالم العربي المسجونة طموحاته. يقول خالع النعلين في هذا الصدد في رواية “مجنون الحكم” لبنسالم حمّيش: “ولأن أفشي الحقيقة وأنصح بالعصيان، أساق دوما إلى السجن أو المارستان(1)”. لن نخرج من دراسة بناء الزمان في رواية “معذبتي” بفكرة مفادها: أنّه يستحيل على العربي أن يحضّر نفسه للخروج من أزمته، لأنّه سيظلّ أبداً ودائماً مستبعدا عن كلّ ما هو متطوّر وعصري، ومتقدّم له علاقة بالنمو الإنساني، بل نستخلص أنّ العربي لن يتنازل عن آرائه، فهو حر، وسيظلّ يعطي، لأنّه مقاوم بطبيعته، ومؤمن بقضاياه، وجذوره مضمخة بالانتصار، لذلك لن يستطيع العدو استبعاده، أو تهميشه. هو انتصار يتحقق من خلال الكلمة، المؤسِّسة للنهوض العقلي. فحمودة في نهاية الرواية يملّكه الفقيه مكتبة تكون منارة إشعاع لطالبي المعرفة القلائل(2)، الذين يبدو أنّ بإمكانهم أن يقبّحوا العدو، ويهلكوه، لترفع راية النضج العربية.
1_ بنسالم حميش، مجنون الحكم، ص92.
ويقول د. صلاح فضل عن بنسالم حمّيش: “يروي بضمير المتكلّم أحداثا معاصرة، بعد أن أشبعنا بتجاربه التاريخية منذ مجنون الحكم(1990) والعلامة (1997) إلى هذا الأندلسي(2007)فيقبض على جمرة السياسة الدولية ليتأملها”.
د. صلاح فضل، بنسالم حمّيش يروي معذبتي، الأهرام، الاثنين 15 مارس، السنة135، العدد45024.
2_ بنسالم حمّيش، معذّبتي، ص 288.
د. لميس حيدر:
_ دكتوراه في اللغة العربية وآدابها؛ عنوان الأطروحة: تشكّل العالم الرّوائي عند حسن داوود حتى العام 2000
_ دبلوم دراسات عليا؛ عنوان الرسالة: تحقيق (تعليقة لطيفة) للشرف الأيوبي الأنصاري
_ أستاذة في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية
_ كتبت عدداً من القصص القصيرة والأبحاث الأدبية.
_ صدر لها رواية “ناي لعصفور الجنة، ومجموعة قصائد شعرية.